صراع الخط الأحمر الأوكراني
26-2-2022

د.وليد عبد الرحيم جاب الله
* خبير الاقتصاد والمالية العامة، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والإحصاء والتشريع

عندما تُحدد الدول الكبيرة خطوطاً حمراء لأمنها القومي فإنها تكون جادة، وأوكرانيا لم تطلب الانضمام لحلف الناتو العسكري ليساندها بعقوبات اقتصادية ضد روسيا، كما أن أوروبا لم ترحب بضم أوكرانيا للناتو لتتحمل أعباء أو لتستقبل لاجئين، ولكن سوء التقدير أفسد التوازن، وخلق واقعا جديدا.

يتمثل أساس الصراع الروسي الأوكراني في تضرر روسيا الشديد من ابتعاد أوكرانيا عنها، بما تمتلكه من موقع استراتيجي على البحر الأسود واقتصاد مُتعدد القطاعات، يجعلها قوة إقليمية يُشكل انضمامها لحلف الناتو بمثابة مساس بالأمن القومي الروسي، حيث يجعل صواريخ الناتو على بعد دقائق من موسكو، وهو الأمر الذي يُضاف لتوسعات سابقة للناتو على الحدود الروسية دون التجاوب مع مُطالبات روسية بضمانات لأمنها القومي، بالتالي فنحن أمام قضية أمن قومي لا تقبل روسيا التغاضي عنها مهما كلفتها من أضرار اقتصادية استعدت للتعامل معها مُنذ سنوات من خلال إجراءات، أهمها تأسيس الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يضم إلى جوار ها، كلا من روسيا البيضاء، وأرمينيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وكذلك عضوية تجمع بريكس مع الصين، والهند، والبرازيل، وجنوب إفريقيا، بالإضافة إلى العضوية الروسية بمنظمة شنغهاي للتعاون مع الصين، والهند، وإيران، وباكستان، وكازاخستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان، فضلاً عن الدخول في شراكات وتشابكات تجارية مع معظم دول العالم بما فيها دول الاتحاد الأوروبي أنفسها.

والخط الأحمر الروسي لحلف الناتو على حدودها سبق أن تم اختبار تجاوزه عندما اتخذت جورجيا إجراءات للانضمام للحلف، وهو الأمر الذي انتهي إلى الهجوم الروسي عليها في عام 2008 وإعلان انفصال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية،ثُم مُنحت الجنسية الروسية لمواطني المنطقتين، وهو الأمر الذي تكرر بفتح باب منح الجنسية الروسية لمواطني منطقة دونباس الأوكرانية (جمهوريتي دوينتسك، ولوجانسك) الناطقتين بالروسية والمُتمتعتين بالحكم الذاتي بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في ظل رفض قاطع من روسيا لوجود حلف الناتو في أوكرانيا، إلا أن إصرار الحلف على الوجود في أوكرانيا يبدو أنه دفع روسيا لتكرار ما سبق أن فعلته في جورجيا، ولكن الأمر مع أوكرانيا يبدو أكثر تعقيداً مع اختلاف الظرف العالمي وما يرتبط بالصراع من تشابكات اقتصادية.فالاتحاد الأوروبي الرافض للتحرك الروسي هو الشريك التجاري الأول لروسيا بحجم تبادل تجاري يصل إلى نحو 400 مليار دولار، حيث يُشكل الغاز والنفط نحو 80 % من الصادرات الروسية لأوروبا التي تصدر لروسيا الآلات ووسائل النقل ومواد كيميائية وطبية ومنتجات زراعية، وخدمات. وتُقدر الاستثمارات الروسية في أوروبا بنحو 74 مليار دولار، بينما استثمارات أوروبا في روسيا نحو 232,4 مليار دولار (أكثر من 3 مرات قيمة الاستثمارات الروسية في أوروبا)، بينما نجد تشابك أقل بين روسيا وأمريكا حيث يُقدر حجم التبادل التجاري بينهما بنحو 38 مليار دولار، حيث تتركز الصادرات الروسية لأمريكا في النفط والغاز والمواد الكيميائية، بينما تتركز الصادرات الأمريكية لروسيا في الخمر والسجائر والسيارات، ولا يوجد فارق كبير في ميزان الاستثمارات المُتبادلة بين الدولتين، حيث بلغت  استثمارات أمريكا في روسيا نحو 7 مليارت دولار عام 2011، بينما استثمارات روسيا في أمريكا نحو 7,7 مليار دولار، وهنا يلاحظ أن النفط والغاز هما عماد الصادرات لأوروبا وأمريكا، بينما تتركز صادراتهما إلى روسيا في الآلات والسيارات وغيرها، بالتالي فإن حال وضع قيود على واردات الغرب من النفط والغاز الروسي فإن الأمر ربما يضر روسيا في حجم صادراتها، ولكنها قد تُعوض ذلك من ارتفاع الأسعار لتحصل على مقابل أكبر من كمية صادرات أقل، بينما يتضرر الغرب من ارتفاع تكلفة الحصول على الطاقة من النفط والغاز مما يرتب تضخما  كبيرا يطال أوروبا ويمتد لأسواق تصدير منتجاتها بما قد يرتب استبدال الكثير من الدول الواردات الأوروبية ببدائل من دول أخرى أقل كلفة.

ومع إعلان الولايات المُتحدة وأوروبا عدم التدخل العسكري في أوكرانيا، وتقرير عقوبات اقتصادية على روسيا، مثل حظر تصدير التكنولوجيا لروسيا، أو تجميد أصول لها أو غير ذلك بدت أوكرانيا وقد خسرت خيارها، فهي عندما طلبت الانضمام للناتو كانت تطلب الانضمام لحلف عسكري وليس حلفا اقتصاديا، لاسيما أن أضرار روسيا من العقوبات ستحتاج لشهور حتى تظهر نتائجها، بينما سيطرة روسيا العسكرية على أوكرانيا لن تستغرق سوى أيام أو أسابيع على أقصى تقدير، كما أن روسيا لديها مجال لامتصاصها العقوبات بالتعاون مع حلفائها من تجمع بريكس وغيره من التجمعات التي تشترك بها، وفي الجانب الأوروبي نجد أن تأثيرات العقوبات السلبية ستتوزع على 28 دولة بالاتحاد الأوروبي، صحيح أن الضرر الروسي هو الأكبر ولكن الروس استعدوا لقبول ذلك حفاظاً على أمنهم القومي، وثقة في قدرتهم على التعامل مع العقوبات التي لم تنجح في تحقيق أهدافها معهم في تجارب سابقة، كما لم تنجح في تحقيق أهدافها مع دول أقل منهم.

والمؤكد هنا أن الولايات المُتحدة، رغم كونها الأقل تضرراً اقتصاديا من تداعيات الصراع إلا أنها، تُعد الطرف الأكثر تشدداً للحفاظ على مُكتسباتها العالمية التي تريد الحفاظ عليها دون ثمة تضحيات تطلبها من الأوروبيين وتدفعهم لعدم إبداء أي مرونة مع المُتطلبات الروسية، ولكن الواقع الجديد بعد التحرك العسكري الروسي سيفرض آفاق توافق جديدة تتناسب مع تغير الأوراق على طاولة التفاوض المقبلة للوصول إلى تفاهمات تحفظ مُتطلبات الأمن القومي الروسي، وتحافظ على سيادة الدول المجاورة، وتفتح الباب أمام سلام حقيقي يحول دون إطالة أمد ذلك الصراع ويمنع امتداده لما يجاوز أوكرانيا،ويخفف من آلام مخاض نظام عالمي جديد بدأت إرهاصاته في التبلور بصورة لن تكون فيها مكانة الولايات المُتحدة، والغرب أفضل من مكانتهم في النظام العالمي الحالي.

وبالنظر إلى مصر نجد أن مصر هي الشريك التجاري الأول لكل من روسيا، وأوكرانيا في إفريقيا، والشرق الأوسط، وهي الشريك التجاري الأول للولايات المُتحدة إفريقيا والخامس في الشرق الأوسط، بينما يُعتبر الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لمصر ، بالتالي فإن لهذا الصراع تداعيات مُتشابكة جداً بالنسبة للاقتصاد المصري، فروسيا هي المورد الأول للقمح لمصر، بينما أوكرانيا هي المورد الثاني، بالتالي فإن مصر مدعوة لمراجعة إجراءات سلاسل إمداداتها من تلك السلعة الاستراتيجية، ولديها الوقت الذي يسمح  بذلك تحوطاً من طول أمد ذلك الصراع  في ظل امتلاكها احتياطيا يكفيها لمدة نحو 5 أشهر، تمتد لأكثر من 9 أشهر مع حصاد القمح المصري في منتصف أبريل المقبل ، وهناك صعوبة أخرى مُتعلقة بتقدير سعر النفط في الموازنة المصرية عند مُستوى 61 دولارا للبرميل بينما تجاوز بفعل تلك الأزمة سقف الـ 100 دولار للبرميل، ويُخفف من هذا الضرر ارتفاع أسعار صادرات مصر من الغاز والصادرات البترولية التي وصلت إلى نحو 12,9 مليار دولار خلال عام 2021  ومُرشحة للارتفاع بصورة كبيرة في ظل الأسعار الحالية. بالتأكيد سيحدث تراجع في أعداد السائحين الأوكرانيين لمصر ولكن يُعادل ذلك تحسنا حاليا في أعداد السائحين من ألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا، وبالنظر إلى حجم التبادل التجاري مع أوكرانيا نجد أنه وصل إلى نحو 2,6 مليار دولار خلال عام 2019، حيث تتركز صادرات مصر لأوكرانيا في الموالح، والأرز، والأدوية، والفراولة، والبطاطس، والتوابل، والنباتات الطبية، ومنتجات الحديد، وفحم الكوك، بينما تتركز الواردات المصرية من أوكرانيا فى القمح، والذرة، والحديد، وزيت عباد الشمس. أما روسيا فحجم تبادلها التجاري مع مصر وصل لنحو 7,7 مليار دولار عام 2018، حيث تركزت الصادرات المصرية لروسيا فى الفاكهة، والخضراوات، والملابس بينما تركزت الواردات المصرية من روسيا فى القمح، والوقود، والمعادن، والنحاس، والطائرات.

وهكذا نجد أن لمصر تشابكات اقتصادية مُعقدة مع كافة أطراف الصراع في أوكرانيا وترتبط بعلاقات جيدة معها جميعاً، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تعامل مرن يرصد المُتغيرات المُتسارعة، ويحدد سيناريوهات المُستقبل ويجيد التعامل معها، ومع الواقع العالمي الجديد الذي يُصاغ تلقائياً ارتباطاً بتداعيات فيروس كورونا، ليأتي الصراع الأوكراني ليُعجل من رسم ملامحه.


رابط دائم: