البعد الفني والجمالي فى "حياة كريمة"
6-12-2021

مدحت بشاي
* كاتب صحفى

لا ريب أن الفنون تساهم في دعم وترقية الذوق العام وصقله لدى الإنسان المتلقي، لأن الفن هو الجمال، والإقبال عليه يسمو بالإنسان إلى القيم الإنسانية الإيجابية، كما يسهم أيضاً في التعرف على قضايا المجتمع وطريقة معالجة تلك القضايا بطرق محببة للنفس وجذابة لترسخ في الذهن القيم الإنسانية النبيلة، كما يساعد في تحقيق التوازن النفسي لدى الإنسان، ويقرب وجهات النظر بين المبدعين ومُتلقي إبداعاتهم مهما اختلفت الرؤى والثقافات، كما يعمل على تيسير تبادل التراث الاجتماعي.

عبر صفحات كتاب مهم وبديع بعنوان "التصوير الجداري والعمارة المعاصرة ..علاقة متبادلة" لمؤلفه الرائع "السيد القماش"، حدثنا الكاتب عن تأثر الفنون عقب الحرب العالمية الثانية ومنذ النصف الثاني من القرن العشرين تأثرًا کبيرًا في جانبها الفکري، وكيف لجأ الفنانون إلى الهروب من آثار الحرب والخراب والتدمير والتحطيم إلى التمرد من قيود المنطق العقلي ومعرفة المجهول، واکتشاف ما وراء الطبيعة والبحث عن مفاهيم فنية تتواکب مع المتغيرات السياسية والاجتماعية والفکرية والاقتصادية والثورة العلمية والصناعية التي حدثت منذ ذلك الحين.

ولقد قدم الفنانون في تلك الفترة حلولاً جمالية جديدة أمام الفن بصفة عامة، وفن الجداريات بصفة خاصة، من خلال الصياغات التشکيلية الجديدة والواسعة النطاق، والتي تتفق مع ملامح الفن المعماري المعاصر، کما اتجهوا إلى استخدام مقومات العصر التکنولوجية في أعمالهم وتناولهم للخامات الجديدة والمتعددة، والتي تعبر عن أفکارهم واتجاهاتهم الفنية تلك، ومنها (الحديد، والخردة، والأشکال جاهزة الصنع، والخامات الأثيرية، مثل الضوء والليزر).

وتغيرت الکثير من المفاهيم الجدارية وتنوعت مداخل الرؤية للفنان بعد أن اهتزت فکرة الثبات والرسوخ والثقل إلى تناول الکثير من العناصر الفنية کالفراغ والحرکة والعلاقات التشکيلية المتنوعة المرتبطة بجماليات الخامة، ومع ذلك نجد أن فکر الفنان تأثر بما توصل إليه العلماء من کشوف ونظريات علمية في مختلف المجالات، وکان لها الأثر الواضح في تغير النظرة التقليدية، ووجهت نظر الفنان إلى المواد والخامات الجديدة التي ظهرت نتيجة للتقدم التکنولوجي الواسع في مجال الصناعة والخامات، مما دفع الفنانين إلى اتجاهات جديدة ومتغيرة في مجال الفن الجداري بما تيسر لهم من خامات، ووسائل تشکيلية بفعل التکنولوجيا، وذلك لم يکن متاحًا أمام أجيال الفنانين السابقين.

تذكرت فنون الجداريات الرائعة ونحن بصدد تنفيذ مشروع القرن " حياة كريمة " .. تلك المبادرة الوطنية التى أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهي المبادرة المتعددة في أهدافها وأسسها المتكاملة فى صياغاتها وأشكالها، والمنطلقة من مسئولية حضارية وبُعد إنساني عظيم .. وحيث الدعوة مفتوحة لمساهمات مؤسسات المجتمع المدني في ذلك المشروع العملاق، أرى دعوة المؤسسات الثقافية والفنية بمشاركة أجهزة وزارة الثقافة المعنية للمساهمة في عمليات التجميل، وأرى أن مؤسسة الدكتور الفنان عبد الوهاب عبد المحسن (كمنظمة غير هادفة للربحتابعة لوزارة التضامن الاجتماعى) يمكن أن تساهم بجهد إبداعي جمالي غير مسبوق لتنمية أي موقع بجماليات الفنون الجدارية، والمؤسسة هي صاحبة فكرة الجداريات التي غيرت وجه العديد من المناطق في مصر المحروسة.

لقد كان للجداريات المرسومة على جدران المنازل بمعرفة وتصميم تلك المؤسسة،وتجربتهم الرائعة في منطقة البرلس بمحافظة كفر الشيخ، وعبر ملتقيات سنوية، وبمشاركة عدد كبير من الفنانين المصريين والأجانب ما يشهد على روعة الإبداع والعمل التطوعي المثالي والمثمر.

فى العام الأخير، قدم الفنان ومؤسسته أكثر من 500 فنان من داخل مصر وخارجها للمشاركة فى المشروع كمتطوعين، اختارت المؤسسة منهم 40 من دول عدة: منها مصر، وكوريا الشمالية، والهند، ومقدونيا، وتونس، وإيران، والسودان، والبحرين.

وتهدف تلك الملتقيات أيضًا إلى التصدي لظاهرة الهجرة غير الشرعية، والسلبيات التي يتم تصديرها عن الدولة المصرية، ولإثراء وجدان أطفال المنطقة التي تعمل فيها المؤسسة، ولفت النظر إلى أهمية الفن في صياغة وتشكيل الوجدان، وتجميل الحوائط العتيقة التى يمتد تاريخها إلى الحضارة المصرية القديمة.

ولا يختلف حال أطفال البرلس عن أطفال باقي القرى والمحافظات المصرية البعيدة عن القاهرة، فقد كانت بعيدة عن أي اهتمام حكومي جاد، ولا أندية أو أماكن ترفيه، وبالطبع لا مراكز تعلمهم الفن وحب الحياة.

يؤمن د. عبد المحسن بأن الفن أفضل سلاح لمحاربة التطرف، وأنه كلما انغمس أهالي مدينة أو قرية ما في الأنشطة الفنية فهذا سيقتل أي تطرف من أي نوع يرغب فى الحياة بينهم . يقول: "هدف الملتقى الأساسي هو أن يزيح أي أفكار غريبة على مجتمعاتنا لتحل بدلاً منها أفكار التسامح وقبول الآخر والإيجابية. لمدة أسبوعين كاملين قمنا بأنشطة عدة، منها أمسيات شعرية، وحفلات موسيقية، وكل أبطالها من سكان المنطقة، فهناك من يُغني، ومن يعزف على العود، كان الملتقى فرصة لأن يعبر الجميع كلاً عن موهبته ..".


رابط دائم: