الرمال السوداء .. الكنز المصري المفقود
3-10-2021

د . أحمد سلطان
* مهندس استشارى- رئيس لجنة الطاقة بنقابة مهندسين القاهرة

إن كل حبة من المعادن الثقيلة هى رسول فريد من نوعه حاملاً البيانات المشفرة، وتحمل كل حبة تاريخاً مفصلاً عن الصخور الأم وتقلبات التاريخ الرسوبى التى مرت به، فهى بمثابة سجلات أرشيف جيولوجية تسجل وتحافظ على سمات الأحداث الجيولوجية الماضية فى أماكن مصدرها. فهى خزائن من المعلومات وخزائن من الثروات إذا أحسن استغلالها، كنز قديم تبوح به السواحل المصرية المطلة على مياه البحر الأبيض المتوسط فى المناطق الواقعة بين رشيد إلى العريش بطول ٤۰۰ كيلومتر، إنه الرمال السوداء والتى تنتشر فى ١١ موقعاً بتركيزات اقتصادية مرتفعة.

ما هى الرمال السوداء؟

الرمال السوداء هي رواسب شاطئية سوداء ثقيلة وهي معادن كثيفة، حيث تبلغ كثافتها النوعية نحو 2.8 بالمقارنة مع معدن الكوارتز الذي كثافته النوعية تبلغ نحو 2.6، تأتى من منابع النيل وتتراكم على بعض الشواطئ، وتسمى بهذا الاسم لأنه يغلب عليها اللون الداكن لاحتوائها على كثير من المعادن الثقيلة، وتتركز رواسب الرمال السوداء عند مصب النيل بالقرب من دمياط ورشيد، وهى رواسب فتاتية من حبات معادن ثقيلة ملونة تتراكم على الشواطئ نتيجة وجود مصبات الأنهار فيها، يحملها النيل آلاف الكيلو مترات، ليلقى بها على شواطئ البحر المتوسط، وتتكون الرمال السوداء من مجموعة من الطبقات داخل التربة بالدلتا، مما يعنى اختلاف أحجامها ونسب وجودها من منطقة لأخرى، بحسب انخفاض المنطقة أو ارتفاعها، بالإضافة إلى تأثير الميل والرياح.

وهناك نوعان من الرمال السوداء بحسب تركيز المعادن الثقيلة: نوعية داكنة اللون غنية بالمعادن الثقيلة ٧٠-90٪، ونوعية رمادية تحتوي على نسبة أقل من المعادن الثقيلة ٤٠٪، وقد أوضحت الدراسات أن أغلب المكونات المعدنية الاقتصادية في رواسب الرمال السوداء المصرية تتركز في الحجم الحبيبي 0.125 ملم، ومعظمها بين 0.124 و0.067 ملم، وهذا يعنى سهولة فصلها ميكانيكياً.


أماكن تمركز الرمال السوداء في مصر:

بحسب تقديرات هيئة المواد النووية المصرية من مسح جوي ودراسات كشفت عن امتلاك مصر لما يقرب من ١١ موقعًا على السواحل الشمالية تنتشر بها الرمال السوداء بتركيزات مرتفعة، بدءًا من رشيد حتى العريش بطول ساحل ٤٠٠ كيلومتر من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، تبدأ من إدكو شمال محافظة البحيرة، وتوزع على ٤ مناطق تشمل شمال سيناء بواقع ٢٠٠ مليون متر مكعب، ودمياط بواقع 300 مليون متر مكعب، ورشيد بواقع ٦٠٠ مليون متر مكعب، وبلطيم بواقع ٢٠٠ مليون متر مكعب، وهناك موقعان للرمال السوداء بمحافظة كفر الشيخ: الأول شرق البرلس بملاحة منيسي التابعة لقرية الشهابية على مساحة ۸٠ فداناً. والثاني بشمال الطريق الدولي غرب محطة توليد الكهرباء العملاقة بالبرلس على مساحة ٣٥ فداناً، ويشارك في المشروع محافظة كفر الشيخ، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة، وهيئة المواد النووية، وبنك الاستثمار. والمصنعان: الأول بخبرة مصرية استرالية بشرق البرلس، والثاني بخبرة صينية بشمال البرلس، والاستثمارات لمصنع الرمال بشمال البرلس قدرها 24 مليون دولار.


الرمال السوداء في مصر ثروات مهدرة لأكثر من ٣٠ عاماً:

في أواخر الثلاثينيات شهدت مصر بداية استغلال الرمال السوداء علي يد مجموعة من الأشخاص اليونانيين القدماء، حيث كانت تنقل من رشيد عبر ترعة المحمودية إلى حجر النواتية في الإسكندرية لتجهيزها وفصل المعادن الاقتصادية من هذه الرمال بطريقة بدائية ويتم توزيعها بشكل بسيط، ثم تحول هذا المشروع لشركة صغيرة لاستغلالها وكان مقرها آخر شارع النبي دانيال بالإسكندرية، واستمر استغلال الرمال السوداء في مصر في فترة الأربعينيات بواسطة شركة الرمال السوداء المصرية، حتى تم تأميمها عام ١۹٦١ تحت اسم الشركة المصرية لمنتجات الرمال السوداء، ومنذ تلك الفترة أخذت الشركة في التعثر وتوقف الإنتاج  تماما ًوتمت تصفيتها عام ١۹٦۹ تحت اسم مشروع تنمية واستغلال الرمال السوداء، وفي ١۹۸٤ كلفت الحكومة المصرية شركة استرالية - إنجليزية بعمل دراسة فنية واقتصادية عن كيفية استغلال الرمال السوداء في مصر، وتحديد أفضل الأماكن لإنشاء هذا المشروع، وكلفت هذه الدراسة الحكومة في ذلك الوقت نحو نصف مليون جنيه دون أن يقام هذا المشروع.

في عام ١۹۹٥ تبنت وزارة الكهرباء والطاقة المصرية موضوع إنشاء مصنع لاستغلال الرمال السوداء في محافظة كفر الشيخ، التي تمتلك أكبر تركيز للمعادن الاقتصادية في هذه الرمال والمقدر بنحو ۸٠٪ في منطقة البرلس، ووضع حجر الأساس لهذا المصنع علي ساحل البحر الغربي بمحافظة كفر الشيخ، حيث تزامن ذلك مع صدور قرار وزير الصناعة والثروة المعدنية في ذلك التوقيت حمل رقم ٢٠ لسنة ١۹۹٥، بعمل تخطيط شامل للساحل الشمالي وتحديد مناطق وجود الرمال السوداء بطول الساحل. وقد تكلف إنشاء هذا المصنع وقتها أكثر من ٢٥ مليون جنيه، وكان من المخطط له أن يتم الانتهاء من عمليات الإنشاء والتجهيز للتشغيل بحلول عام ١۹۹٧، إلا أن هذه الخطوة حكم عليها بالفشل مرة أخري لعدم وجود إرادة سياسية حقيقية لاستغلال هذه الثروات المهدرة. وفي عام ٢٠٠۸ كلفت الحكومة المصرية شركة داونر مايننج الاسترالية بإجراء دراسة متكاملة عن الرمال السوداء في مصر وتحديد الجدوى الاقتصادية منها. وأكدت أنه مشروع اقتصادي هائل ذو جدوى، كما أن عدداً كبيراً من البنوك المصرية في ذلك الوقت عرضت حينها تمويل المشروع بالكامل، لكن أيضاً لم يكتمل المشروع، وفي عام ٢٠١٠ قامت هيئة المواد النووية بطرح مزايدة علنية لاستغلال الرمال السوداء في منطقة البرلس بمحافظة كفر الشيخ علي ساحل البحر الأبيض المتوسط بطول نحو ١۹ كم، ولم يتقدم لهذه المزايدة سوي شركة واحدة فقط هي كريستال السعودية، وهي شركة متخصصة في إنتاج وتوزيع ثاني أكسيد التيتانيوم، مما حول الموضوع من مزايدة علنية طرحتها الهيئة إلى قرار بالأمر المباشر لإسناد المشروع لهذه الشركة، مما تسبب في تعطيل المشروع مجدداً وخصوصاً بعد اندلاع أحداث ٢٥ يناير وما تبعها من أضرار وتداعيات على الاقتصاد المصري.

وجاء عام ٢٠١٦ حاملاً الآمال والطموحات لبداية إحياء المشروع القومي لاستغلال الرمال السوداء. حيث تم تأسيس أول شركة مصرية لتعدين الرمال السوداء، وهي الشركة الوطنية للرمال السوداء بالبرلس بمدينة كفر الشيخ وبتكلفة تقديرية تخطت مليارى جنيه، وتساهم القوات المسلحة كشريك أساسي بنسبة ٦١٪ منه، وأحد البنوك بنسبة ١٤٪، وهيئة المواد النووية بنسبة ١٥٪.


القيمة الاقتصادية للرمال السوداء:

تحتوي الرمال السوداء على معادن اقتصادية تدخل في الكثير من الصناعات المهمة، من أبرزها: معدن الزركون الذي يستخدم في صناعة السيراميك، والعوازل، والخزف، والأسنان التعويضية، ومعدن الروتيل والألمنيت الذي يستخدم في صناعة البويات، كذلك يستخرج من معدن الزركون عنصر الزركونيوم الذي يستخدم في صناعة أغلفة الوقود النووي، وفي العديد من الصناعات النووية والاستراتيجية الأخرى، والجرانيت الذي يستخدم في صناعة فلاتر المياه والصنفرة، والماجنتيت الذي يستخدم في صناعة الحديد الإسفنجي وتغليف أنابيب البترول، بالإضافة إلى معدن المونازيت المشع، وهو مصدر إنتاج العناصر الأرضية النادرة المستخدمة في الصناعات عالية التقنية التي تعتمد أغلبها على الإلكترونيات، كما أنه مصدر للحصول على اليورانيوم الذي يصلح كوقود نووي. وعن محتوى الرمال السوداء من المعادن المشعة فهي تحتوي على معدن المونازيت والزركون وبهما نسبة قليلة من العناصر المشعة، مثل الثوريوم واليورانيوم، لذلك سميت بالرمال المشعة، ومعدن المونازيت يوجد به عناصر أرضية نادرة ذات أهمية كبيرة في النواحي الاستراتيجية.

الهدف من إنشاء الشركة المصرية للرمال السوداء:

تم إنشاء الشركة المصرية للرمال السوداء لتعظيم الاستفادة الاقتصادية من مشروع استغلال المعادن الاقتصادية من الرمال السوداء، مع الالتزام بمعايير السلامة البيئية، والصحية المتبعة عالمياً، وتحقيق القيمة المضافة للمعادن المستخلصة، لخلق استثمارات جديدة تعمل على تنمية وتطوير الاقتصاد المصري وتقدمه.


٢٠٢١ البداية الحقيقية لمشروع الرمال السوداء:

على سواحل مصر الشمالية المطلة على البحر المتوسط، تنتشر الرمال السوداء التي تعتبر أحد الكنوز المهمة، والتي تسعى مصر لاستغلالها. فطيلة السنوات الماضية، كانت هذه الثروات مهملة، وتتعرض للسرقة، قبل أن تتحرك الدولة بمشروع عملاق لاستغلال هذه الرمال الغنية بالمعادن المهمة، وتتخطى استثمارات مصر في الرمال السوداء المليار جنيه لتحقيق حلم دام أكثر من ٣٠ عامًا، بالتعاون بين الشركة المصرية للرمال السوداء كشركة مساهمة مصرية، ومحافظة كفر الشيخ كعضو مساهم بهذه الشركة، مع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية، وهيئة المواد النووية، وبنك الاستثمار القومي، والشركة المصرية للثروات التعدينية. وفي أول تحرك مصري نحو استغلال الرمال السوداء، تستعد الكراكة تحيا مصر لبدء العمل داخل مصنع الرمال السوداء بكفر الشيخ، حيث تبدأ عمليات التكريك واستغلال الثروات التي تحويها الرمال السوداء من معادن نادرة، وتعد الكراكة الهولندية تحيا مصر، والتي ستقوم بتكريك الرمال السوداء في كفر الشيخ، أول كراكة عائمة في العالم تعمل بالطاقة الكهربائية، وصممت لصالح مصر وتحديداً منطقة البرلس لفصل الرمال السوداء في كفر الشيخ، والتي تعد من كبرى مناطق مصر من حيث وجود المعادن.

وأخيراً، تعد الرمال السوداء ثروة ومشروع جديد يضاف لسجل إنجازات الدولة في المشروعات القومية في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، فالرمال السوداء التى كانت مُهملة لفترة طويلة من الزمن، انتبهت الحكومة لها بتوجيه الرئيس السيسي، ليتم سن القوانين والتشريعات التى تسهل تحقيق الاستغلال الأمثل لهذه الثروة، وستنقل الرمال السوداء مصر إلى مصاف الدول الصناعية والاقتصادية الكبرى، حيث تساهم المعادن المستخلصة في دفع عجلة الاقتصاد المصري، فضلًا عن المساهمة في تنويع مصادر الدخل القومي للاقتصاد المصري، وخلق فرص عمل جديدة، وتقليل نسبة البطالة، من خلال تنفيذ مشاريع تعدينية جديدة وما تتطلبه من أيدٍ عاملة كثيفة.


رابط دائم: