تطورات الدور الروسي في الأزمـة الليبية
9-9-2021

خالد خميس السحاتي
* كاتب وباحث ليبي

تُمثِّلُ السِّياسة الرُّوسيَّة تجاه الشرق الأوسط عُمُوماً، والوطن العـــربيِّ على وجه الخُصُوص، مركزاً محوريّاً في استراتيجيَّة السِّياسة الخارجيَّة الرُّوسيَّة الراهنة، ومنْ ثمَّ فهي تقُومُ على عُنصُر "المُبادرة"، وليس على "رُدُود الأفعـال" .. فروسيا تسعى إلى إعادة التأكيد على مكانتها الجيوسياسية والاستراتيجية المهمة في القرن الحادي والعشرين على خريطة "النظام الدولي".

ومن خلال متابعة تطور الموقف الروسي من الأزمة الليبية، يلاحظ أن: روسيا الاتحاديَّة لمْ تُؤيِّد الثورة الليبيَّة عام 2011، واكتفت بالإعلان عن إيقاف إراقة الدِّماء، والدَّعْوة إلى عدم التدخُّل الخارجيِّ. وهذا الموقفُ أوضح أنَّهُ لمْ يكُن لروسيا -آنذاك- استراتيجيَّةٌ واضحةٌ للتَّعامُل مع تلك الأحداث، وذلك في ظــلِّ الاستراتيجيَّات الدَّوليَّة الأُخــرى في تلك الفترة.

وفي الوقت الحالي، تسعى موسكو للتدخُّل في الأزمة الليبيَّة لاستعادة نُفُـوذهــا.. وفي هذا السِّياق، تبرُزُ مساعٍ واضحة لتنشيط الدَّور الروسيِّ في ليبيا، خاصَّةً بدعم الجيش الوطنيِّ الليبيِّ لمُحاربة التَّنظيمات الإرهابيَّة العابرة للحُدُود، حيثُ أشارت تقاريرٌ عديدةٌ إلى أنَّ الجيش الليبيَّ سيطلُبُ دعْمًا من روسيا، إذا ما قامت الأمم المُتحدة في المُستقبل برفع حظر التَّسْلِيحِ.وقد أجرى المُشير حفتر في السنوات الماضية مُحادثاتٍ مع وزير الدفاع سيرجي شويجو، ووزير الخارجية سيرجي لافروف، وأمين مجلس الأمن القوميِّ الروسيِّ نيكولاي باتروشيف للنِّقاش حول الوضع السِّياسيِّ والعسكريِّ في ليبيا.

أما رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، فقد أبدى (في ديسمبر 2016)، ترحيبه بتعزيز الدور الروسي في ليبيا، دُون أنْ يتطوَّر هذا التَّعزيزُ إلى إقامة قاعدةٍ عسكريَّةٍ رُوسيَّةٍ في ليبيا. ووفقًا للسِّياسة الرُّوسيَّة المُعلنة، فإنَّ موسكو تدعمُ الحُلُول السِّياسيَّة التي يتوصَّلُ إليها أطرافُ الصِّراع الليبيِّ، وتحرصُ على ضرُورة احترام الشَّرعيَّة، وعدم الاعتراف بحُكُومةٍ لا تحظى بثقة البرلمان، أو وفاقٍ سياسيٍّ لا تُرافقُهُ تعديلاتٌ في الدستُور الليبيِّ، وخُطوات لتوحيد كُلِّ الليبيين لمُواجهة التنظيمات الإرهابيَّة في جميع أنحاء البلاد، بما فيها التيَّاراتُ السِّياسيَّةُ العنيفة.

يرى بعضُ الخُبراء أنَّ: روسيا تهتمُّ بالموارد الليبيَّة والفوائد السِّياسيَّة التي ستُوفِّرُ فُرصة لكسب موطئ قدمٍ في هذا البلد. وحتى مع التطوُّر المُواتي للأحداث، يُمكنُ لروسيا مُحاولة استعادة بعض العُقُود بمليارات الدولارات التي أبرمتها مع "القذافي."بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ ليبيا بموانئها وسواحلها الطويلة في البحر الأبيض المُتوسِّط ​​تفتحُ فُرصاً لوجيستيَّة واسعة، وتتوافقُ أيضاً مع رغبة روسيا في توسيع وُجُودها في إفريقيا، وهذه رغبةٌ روسيَّة مُلحَّةٌ حاليّاً".

وقد شهد العامان الأخيران مزيدا من الاهتمام الروسي بالملف الليبي، وهو ما تجلى بشكل واضح في إعلان موسكو أكثر من مرة عن ترحيبها بلعب دور الوساطة بين طرفي الصراع الليبي، الأمر الذى أعلن عنه وزير الخارجية الروسي لافروف في ديسمبر 2017، وتبعه تحول موسكو إلى قبلة من جانب المسئولين الليبيين (من الشرق والغرب).

ويشير البعض إلى أن أبرز أدوات روسيا تجــاه الأزمــة الليبية هو الانخـراط شـديـد المـرونة، من خلال محاولة روسيا لعب دور متوازن عبر التفاعل المرن مع طرفي الصراع الرئيسيين، الحكومة في طرابلس، والجيش الوطني الليبي في الشرق، وكذلك: توظيف الدور السياسي، حيث استضافت روسيا في يناير 2020 محادثات تتعلق بالأزمة الليبية بحُضُور طرفيِّ الصراع الرَّئيسيينِ،بالإضافة إلى دعم المُبادرات الدَّوليَّة، حيثُ شاركت موسكو في مُؤتمر برلين (9 يناير 2020)، وأكَّدت موقفها الدَّاعي إلى تثبيت وقف إطلاق النار، وأولويَّة الحُلُول السِّلميَّة برعــايةٍ أمميَّةٍ .. كما أنَّها شاركت في مُؤتمر برلين2 (يونيو2021)، منْ خلال نائب وزير خارجيَّتها، وكانت روسيا قد أكَّدت قبل المُؤتمر على "ضرُورة أنْ تكُون أيُّ مُخرجاتٍ عن المُؤتمر مُحصَّنةٍ بقراراتٍ من مجلس الأمن". وقد أكد هذا المؤتمر في بيانه الختامي: "أهمية انسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا دون تأخير، وإجراء الانتخابات العامة في موعدها."

وفي منتصف يوليو 2021، أعلن النائب الأول لمندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، ميتري بوليانسكي، خلال اجتماع لمجلس الأمن أنَّ: "بلادهُ تُؤيِّدُ الانسحاب التَّدريجيَّ والمُنسَّق للقُوَّات الأجنبيَّة من ليبيا، بينما لا ينبغي الإخلالُ بتوازُن القوى على الأرض". وقال بوليانسكي: "إنَّ الوُجُود العسكريَّ الأجنبيَّ في غاية الأهمِّيَّة اليوم، نحنُ نُؤيِّدُ الانسحاب التَّدريجيَّ والمُنسَّق لجميع القُوَّات والوحدات الأجنبيَّة من ليبيا، في الوقت نفسه، من الضروري ضمان عدم انتهاك ميزان القوى الحالي على الأرض، ممَّا يجعلُ البلد هادئًا، وضمان عدم وُجُود تهديدٍ بتصعيدٍ مُسلَّحٍ جديدٍ".

موقـفُ روسـيا من الحـوار الليبي ومُخرجـاته:

رحَّبت رُوسيا بنتائج اختيار المجلس الرئاسيِّ والحُكُومة الجديدة، وذكرت الخارجيَّةُ الرُّوسيَّةُ، في بيانٍ، "إنَّهُ يجبُ أنْ تُصبح ثمارُ عمل مُلتقى الحوار السِّياسيِّ الليبيِّ خُطوةً مُهمَّةً ومحوريَّةً في سبيل تجـاوُز الأزمـة الحـادَّة التي طال أمـدُها في البـلاد".وأعرب نائب وزير الخارجية الروسي المبعوث الخاص إلى الشرق الأوسط وإفريقيا، ميخائيل بوجدانوف عن دعم بلاده للمجلس الرئاسي الجديد في ليبيا.وأكد المسئول الروسي عنْ أمل بلاده أنْ يُصبح انتخابُ السُّلطة التنفيذيَّة الجديدة معلماً على طريق تجاوُز الأزمة الليبيّ. وجدد بوجدانوف التأكيد على نية موسكو تكثيف وتعزيز التعاون الروسي-الليبي متعدد الأوجه على أساس مبادئ الاحترام المتبادل والمنفعة المتبادلة وتقاليد الصداقة.إذا روسيا أيدت هذه الخطوة، وهي انتخاب المجلس الرئاسي الجديد، ورئيس الحكومة، وواصلت اهتمامها الواضح بالأزمة الليبية، انطلاقا من موقفها المتعلق بالاهتمام بالمنطقة العربية، والحفاظ على مصالحها الاقتصادية والسياسية في ليبيا..

زيارة وزيرة الخارجية الليبية إلى موسكـو:

توجهت د. نجلاء المنقوش وزيرة الخارجية والتعاون الدولي في حكومة الوحدة الوطنية في (19 أغسطس 2021) إلى موسكو في زيارة رسمية، وأعرب لافروف وزير الخارجية الروسي في مُستهلِّ مُحادثاته مع المنقوش والوفد المُرافق لها عن سعادته باستقبال أول امرأة تتولى منصب وزير الخارجية في تاريخ ليبيا، لافتا إلى أن هذه الزيارة سبقتها اتصالات مفيدة أخرى.وشدد الوزير الروسي على أن هذا الاجتماع يأتي في لحظة مهمة جدا يجري فيها تقرير مصير ليبيا المستقبلي. وقال: "إنه من المهم جدا لروسيا نظرا لدورها النشط في هذه المساعي الدولية الاطلاع على تقييمات الحكومة الليبية المؤقتة لمُستجدات الوضع في البلاد، وتطلعاتها بشأن كيفية استمرار المجتمع الدولي في الإسهام على نحو فعال في تطبيق الاتفاقات المبرمة في جنيف في الخريف الماضي".من جانبها، أكدت د. نجلاء المنقوش على تفعيل الاتفاقيات والبروتوكولات السابقة مع موسكو لتعجيل عجلة الاقتصاد في ليبيا، لافتة إلى التعويل على الدور الروسي في المساعدة من أجل توحيد المؤسسة العسكرية.وأضافت أن هناك توافقا على دفع عجلة الاستقرار في ليبيا، وتنفيذ مخرجات مؤتمري برلين الأول والثاني، وتعزيز التواصل الدبلوماسي بين البلدين، قائلة "نحن بصدد افتتاح سفارة روسيا في طرابلس، وقنصليتها في بنغازي، مما يفضي بصبغة إيجابية وتعاونية بين البلدين لإحياء حركة الاقتصاد والتنمية.وثمنت وزيرة الخارجية الدور الروسي في إخراج القوات الأجنبية من البلاد، والمساعدة فيما يتعلق بالملف الأمني، داعية موسكو إلى لعب دور أكبر في دعم عملية السلام في ليبيا.

أما الرئيس الروسي بوتين، فقد دعا المُجتمع الدولي إلى مُواصلة الحوار مع كل الأطراف السياسية التي تتمتع بنفوذ في ليبيا. وقال بوتين، خلال مؤتمر صحفي مشترك مع المستشارة الألمانية، ميركل، في موسكو (21 أغسطس 2021)، إنَّ: "مُؤتمر برلين الثاني الذي انعقد في يناير الماضي بمُشاركتهما توصَّل إلى قراراتٍ أسهمت في تحسين الأوضاع على الأرض في ليبيا". "ونعتقدُ الآن أنَّ على المُجتمع الدَّوليِّ أنْ يُواصل الحوار مع كُلِّ القوى السياسية التي تتمتعُ بنُفُوذٍ في ليبيا للحفاظ على هذه النتائج الإيجابيَّة وتطويرها إلى المُستوى الذي لمْ يتمَّ تحقيقُهُ بعْدُ".

ختاما، تنظُرُ روسيا إلى الملف الليبيِّ على أنَّهُ أحد أهمِّ الملفات التي يجبُ أنْ تُوليها الدَّولة اهتماماً خاصّاً بسبب حجم المصالح الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة، والاستراتيجيَّة أيضاً، التي تسعى روسيا لحمايتها وتعزيزها في قارة إفريقيا، وليبيا بوابتُها الرَّئيسيَّة لتحقيق هذا الهدف، بالإضافة إلى التأكيد على أهمِّيَّة الدَّور الروسيِّ المُهمِّ والمحوريِّ في تسوية الأزمات العالقة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلى جانب القوى الدَّوليَّة الأخرى المُؤثرة كالولايات المُتحدة والصين وألمانيا وفرنسا وغيرها.   

المصادر:

أحمد عبد العليم حسن، "حدود الدور الأمريكي والروسي تجاه ليبيا"، مجلة: رؤى مصرية، القاهرة، مركز الأهرام للدراسات الاجتماعية والتاريخية، العــدد: 62، مـارس 2020. 

أحمد يوسف أحمد (إشراف وتحرير)، حال الأمة العربية: 2016-2017، الحلقة المفرغة، صراعات مستدامة واختراقات فادحة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2017.

"بوتين يدعو إلى حوار مع كل القوى في ليبيا"، جريدة الاتحاد، 21 أغسطس 2021، https://cutt.us/6lLro

خالد خميس السحاتي، "دور القوى الكبرى في الأزمة الليبية: تناقض الرؤى واختلاف المصالح"، مجلة: متابعات إفريقية، الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات، العدد: 12، أبريل 2021.  

عمرو الديب، "الدور الروسي في ليبيا: مُحاولة للفهم"، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية،بتاريخ: 15 يناير 2021، الرابط المختصر التالي: https://cutt.us/qlEp4

"لافروف لنظيرته الليبية: نرى في زيارتكم إلى موسكو نية لبناء علاقات ذات أهمية أولوية مع روسيا"، موقع: روسيا اليوم، 19 أغسطس 2021، الرابط المختصر التالي: https://cutt.us/GxPuA

ناصر زيدان، دور روسيا في الشرق الأوسط: من بطرس الأكبر حتى فلاديمير بوتين، بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2013.

مجمُوعة باحثين، توقعات: استشراف مصري لأبرز قضايا العالم:2020، القاهرة: المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 2020.

"نائب مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة: نؤيد الانسحاب التدريجي للقوات الأجنبية من ليبيا"، موقع: سبوتنيك عربي، 15 يوليو 2021، الرابط المختصر التالي: https://cutt.us/Ckgy6

نيبال جميل،"الدور الروسي في الصراعات الداخلية العربية المسلحة: المؤشرات- الأسباب- التأثيرات"، مجلة: العلوم السياسية والقانون، العدد: الثالث، يونيو 2017، متاح على الرابط الإلكتروني التالي:https://democraticac.de/?p=46852

وسيم خليل قلعجية، روسيا الأوراسية: زمن الرئيس فلاديمير بوتين، بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2016.

"وزيرة خارجية ليبيا تؤكد تفعيل الاتفاقيات مع موسكو لتعجيل لدعم الاقتصاد"، اليوم السابع، بتاريخ:19 أغسطس 2021، على الرابط المختصر التالي: https://cutt.us/mZp3R

 


 


رابط دائم: