تونس وتصحيح ديمقراطية الفقر
29-7-2021

د.وليد عبد الرحيم جاب الله
* خبير الاقتصاد والمالية العامة، عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والإحصاء والتشريع

 

يُعتبر التنظيم الاقتصادي بمثابة الأساس اللازم لكل التنظيمات السياسية، والاجتماعية، والثقافية الأخرى. فبدون تنظيم اقتصادي يكفل الحاجات الأساسية للمواطن ويفتح الأفاق أمامه لتحقيق طموحاته، ستنهار كافة التنظيمات الأخرى للدولة. وبالنظر إلى تونس نجد أنها دولة يعيش بها نحو 11,74مليون نسمة على مساحة 163,6كم وتمتلك اقتصاد متنوع نسبياً يقوم على قطاعات، أهمها الزراعة والصيد، والصناعات الاستخراجية والتحويلية، والخدمات. ومع هذا التنوع يظل حجم الاقتصاد صغير نسبياً بناتج محلي إجمالي يدور عند مستويات الـ 40 مليار دولار، وهو ما يجعل من تكوين شراكات وتحالفات اقتصادية دولية بمثابة أمر حتمي لتلبية احتياجات المواطنين من خلال تطوير القدرات الإنتاجية المحلية، وخلق أُطر تعاون دولية عادلة، ولتونس علاقات تعاون وشراكات تجارية تاريخية مع الولايات المُتحدة الأمريكية، وفرنسا، ودول الاتحاد الأوروبي، والدول العربية وغيرها من الكيانات في العالم، واتجهت تونس منذ تسعينيات القرن الماضي نحو التطوير المتدرج لآليات اقتصادها ليُناسب آليات الاقتصاد الحر الحديث، وإن كان هذا التحول قد شابه ما لم يرض عنه المواطن التونسي ليكون سبباً مع أسباب أخرى فيما جرى فى ديسمبر 2010 لتعلوا أصوات السياسة على صوت الاقتصاد الذي لا يعرف سوى الحقائق ولا تُجدى معه الخطابات  السياسة الرنانة، ولا يتحسن إلا بالأخذ بأسباب التنمية الحقيقية.

ولكن ما تم في تونس هو أنه تم وضع تنظيم سياسي هش تغير القائمين عليه جزئياً عدة مرات خلال 10 سنوات كان القاسم المُشترك فيها هم تنظيم الإخوان مُمثلين في حركة النهضة التي امتلكت سلطة اتخاذ القرار التونسي إما بامتلاكها الأغلبية، أو بامتلاكها التأثير الذي هو بمثابة "فيتو" يُقيد كل مُتخذي القرار التونسي ويمنعهم من الخروج من دائرة خياراتها، لنجد أن تونس قد وقعت بين مُمثلين حركة النهضة غير الأكفاء، وأكفاء مُكبلين بما تُقيدهم به حركة النهضة.

ودولياً، فإن العالم يتقبل بشكل كبير التعاون مع تونس ويعلم أن اقتصادها لا يُمكنها من  العيش إلا الإنتاج والتبادل التجاري، ومُنذ الثورة التونسية تابعنا  رفع الاتحاد الأوروبي لمُستوى الشراكة مع تونس إلى مرتبة الشراكة المُتميزة في عام 2012، ووقعت تونس مع فرنسا العديد من اتفاقات الشراكة، كما وقعت الصين اتفاق تعاون مطلع العام الجاري 2021، كما حرصت الولايات المُتحدة على الحفاظ على علاقتها مع تونس ووقعت معها مُذكرة للشراكة الاستراتيجية، كما وعدت أن تمنح تونس نحو 500 مليون دولار لتمويل مشاريع تنموية بها، ولكن كل ذلك وغيره من أُفق التعاون لم يتم تفعيله بصورة حقيقية بسبب القيود التي تفرضها حركة النهضة من جانب، وخشية الآخرين من التأثير السلبي للحركة على تعاونهم مع تونس  من جانب آخر في ظل إصرار الحركة على النظرة الضيقة للاقتصاد من خلال حُلفائها هى ، بينما لم تُقدم تلك الدول لتونس مُساندة اقتصادية حقيقية، واقتصر الأمر على مُساعدات وقتية لعدم ثقتهم  في قُدرة حلفائهم من حركة النهضة على الإدارة الجيدة لعملية التنمية، أو حتى ضمان استمرار تأثيرهم في صناعة القرار لعدم امتلاكهم الكفاءة الفنية والشعبية اللازمة.

وهكذا، لم يُثمر تحالف حركة النهضة مع بعض الدول إلا المزيد من التشكك من القوى الاقتصادية بشأن إمكانية ضخ مزيد من الاستثمارات في تونس، أو تفعيل اتفاقات، سبق توقيعها بالفعل معها، ليتراجع حجم الاستثمار الأجنبي المُباشر في تونس إلى نحو 652مليون دولار لعام 2020بانخفاض نحو 28.8  % عن عام 2019، لاسيما في ظل ارتفاع حالة عدم اليقين لمُستقبل الاقتصاد التونسي، وعدم الوصول لاتفاق مع صندوق النقد الدولي يتضمن برنامج إصلاح اقتصادي حقيقيا يؤسس لتحسن مؤشرات الاقتصاد الكلي.

وإذا نظرنا إلى تشخيص الوضع الحالي للاقتصاد التونسي، نجد أنه يعانى التردي الناتج عن المُزايدات السياسية، وعدم الكفاءة الفنية، والاستغراق في التصدي للمُشكلات الوقتية دون رؤية أو استراتيجية حقيقية، وعدم ثقة المواطن في قُدرة حركة النهضة، ومن يرتبطوا بها سياسيا على إدارة برنامج اقتصادي، يتحمل المواطن تبعاته انتظاراً لنتائجه، فالمواطن لن يتحمل إلا ممن يثق في قُدرتهم، وكفاءتهم، ونواياهم، كل ذلك كانت نتائجه أن تراجع مُعدل النمو التونسي إلى أقل من 1.5% مُنذ عام 2011ثم انكمش(نمو سالب) لنحو 8-%لعام2020. وقد تجاوزت الديون الخارجية ما يزيد على 30مليار يورو  بما يزيد على نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وارتفعت نسبة التضخم إلى نحو 5,7% في يونيو 2021، وانخفض التصنيف الائتماني في وكالة فيتش إلى مُستوى Cفي يونيو الماضي 2021بعد أن انخفض9  درجات لأسفل مُنذ عام 2011في ظل تراجع في كافة المؤشرات الاقتصادية، وإذا كان شبح البطالة هو ما كان يخشاه البوعزيزي، والذى مثل المحرك الرئيسى الذى دفعه إلى حرق نفسه ليكون شرارة الثورة التونسية، فإن النتائج تمثلت في ارتفاع  نسبة البطالة من نحو 12% عام 2010(عام واقعة البوعزيزي) إلى نحو 17.8% في  مارس2021  ولم تنخفض نسبتها نهائياً عن 15% منذ عام 2011، وقد تمت التصديق على ميزانية 2021بنسبة عجز مالي تتجاوز 7% ، وأقر رئيس الحكومة الأخيرة  هشام المشيشي أن الميزانية تعكس نتائج عشر سنوات من السياسات غير الناجحة، وقد حذر صندوق النقد الدولي أن هذا العجز قد يرتفع إلى نحو 9%بعد أن بلغ العجز المالي نحو 11.5% عام2020 لأول مرة مُنذ عُقود. وقد تجاوزت المُعضلة الاقتصادية التونسية فكرة تشكيل حكومة كفاءات مثلما تم مُنذ تكليف هشام المشيشي، حيث ثبت على أرض الواقع عدم قُدرة تلك الحكومة على تنفيذ عملية إصلاح وتنمية حقيقية في ظل القيود التي كبلتها بها حركة النهضة وما ارتبط بها من نخب سياسية، ومن اعتنقوا أفكار الخيال السياسي والاقتصادي، فضلاً عن اعتبار حركة النهضة تلك الحكومة بمثابة مرحلة مؤقتة حتى تكتمل مُخططاتها لتمكين المُنتمين إلها من مفاصل الدولة، حيث تم النظر للواقع الاقتصادي بسياسة المُسكنات ورفض الحلول الحقيقية. فبعد توقيع تونس اتفاق مع صندوق النقد الدولي عام 2016للبدء في عملية إصلاح اقتصادي وافق الصندوق أن يُمولها بقرض بقيمة 2,88مليار دولار ، لم تكن هناك إرادة سياسية لاستكمال هذا البرنامج، فتوقف وتوقفت معه شرائح ذلك القرض، وقد حاولت حكومة المشيشي الأخيرة العودة للصندوق من أجل التفاهم على برنامج إصلاح اقتصادي يموله الصندوق بنحو4  مليارات دولار، حيث تحدثت الحكومة عن قيامها بإجراءات أهمها خفض مُخصصات الأجور بميزانية الدولة، والحد من مُخصصات الدعم، وهو ما اعتبره الكثير من السياسيين أنه بمثابة أمر مُستحيل.

والواقع أن المُشكلة الحقيقية للمواطن التونسي هي مُشكلة اقتصادية لما يُعانيه من حالة تردٍ اقتصادي، وفقر فيما يُقدم إليه من خدمات، وانسداد الأفق لمُستقبل أفضل، ولكن الحلول الاقتصادية لذلك لابد أن يسبقها حلول سياسية، فلن تحدث أية تنمية اقتصادية في تونس إلا بعد ضمان الاستقرار السياسي الذي يُقنع المواطن بنموذج إصلاح يتحمل صعوباته بثقة في القائمين على تنفيذه. فقد أثبت الواقع أن الديمقراطية التونسية بشكلها الحالي هي ديمقراطية الفقر والإفلاس التي تحتاج لتصحيح عاجل، وإذا نظرنا للعالم نجد أن هناك من يضمن استقرار الدول مهما تغيرت الحكومات والمجالس النيابية، ربما يكون ذلك الضمان مُتمثلا في دستور جيد، أو مؤسسات راسخة، أو جيش وطني، أو غير ذلك، وحان الوقت لأن يُعيد الشعب التونسي اكتشاف مواطن قوته الوطنية، ويمنحها ثقته في الاختيار، ويدعمها لتصميم برامج وتحالفات تنموية حقيقية، ويصبر على بعض الإجراءات الوقتية ما دامت من خلال برنامج حقيقي يُدار من خلال كفاءات وطنية، والقيام بذلك هو الضمانة لعملية تنمية حقيقية تُحقق تطلعات المواطن، ويثق العالم في الشراكة معها.

 

 

 


 


رابط دائم: