الاختيار٢ وصدمة الحقيقة
9-5-2021

مها محسن سليمان
* باحثة في علوم الإدارة والإعلام
مع كل حلقة جديدة تعرض من العمل الدرامي "الاختيار ٢ " يومياً، أرى فترة عصيبة من عمري وعمر الوطن -بكل ما عانيناه كلانا من عواصف نفسية وعصبية- تتجسد أمامي فينتفض كياني وتشتغل ذاكرتي من جديد. أحداث مريرة لم نكن لننساها أو تغفلها الذاكرة بأية حال، لكنها عظمة الصورة هي وحدها القادرة على استرجاع الأحداث ونقل الفكرة وتجسيد التاريخ والحاضر، فما بالك كون هذه الصورة مُصاغة بسلاسل حوارية عبقرية، وتجسيد حي لذكريات إنسانية أدْمَت قلب كل بيت وشارع مصري آنذاك، كما هو الحادث في تفاصيل كل حلقة. 
فعلى مدار الحلقات السابقة، تم استعراض ثلة من الأحداث الدموية التي عايشناها كمصريين في العقد الماضي، والتي لم نألفها من قبل، لا بهذا القدر المفزع، ولا التسلسل والتتابع المنظم، ولا حجم الخراب والخسائر البشرية والمادية المتتالية التي وقعت في فترات زمنية متوالية، أحداث مؤسفة نالت من معنوياتنا، ونفسياتنا، بل وعزيمة أيامنا كلها (وقتها بالطبع). فهنا تبادل عشوائي لإطلاق النار يُسْقِط ضحايا، وهنا حملات اغتيالات ممنهجة واستهداف لشخصيات وقيادات وكمائن عسكرية وشُرَطِية، وهنا إضرام للنيران في الممتلكات العامة والخاصة، وهناك تفجيرات لمحطات الكهرباء وأخرى أمام محطات البنزين، هذا بالطبع بخلاف استهداف الكنائس والمساجد، وأتوبيسات طلبة الكليات العسكرية والرحلات الدينية، وتفجيرات بوسط المدينة وأمام الجامعات وفي الأماكن الأكثر تجمعاً للبشر، حتى إنني في محيط عملي وإقامتي فقط، تم تفجير العديد من القنابل وكنا نراها على شاشات التليفزيون ومن حولها تتساقط ضحايا من كل شكل ولون ونوع وعُمْر وحتى دين. 
ولكثرة تكرار أحداث التفجيرات، أتذكر أن أحد تطبيقات التليفون المحمول قامت بتصميم خدمة منبثقة من التطبيق الأساسي اسمها "بيقولك القنبلة فين انهارده"؟! كان هدف التطبيق أن يقوم بتحذير المواطنين من المرور بجانب أماكن وجود القنابل بعد تمام التأكد من وجودها وكونها مُفعّلة، وتحرك الأجهزة المعنية لإبطال مفعولها. إلا أنه وعلى غير المتوقع والطبيعي كنت تجد العشرات من المواطنين يتجمهرون في محيط العبوة على سبيل الفضول، وتارة أخرى كنت تجدهم يحاولون مد يد المساعدة لخبير المفرقعات الذي كان في بعض الأحيان يمكث لساعات وساعات لحين النجاح في تفكيكها، أو مع كل أسف قيام الإرهابي بتفجيرها عن بعد، أو انفجارها تلقائياً وفقدان حياة خبير المفرقعات أو إصابته إصابات بالغة. 
وقتها لا أعلم كيف كانت تبدو ملامحي وأنا أطالع وأتابع هذا التطبيق لأول مرة بخلاف الدهشة والحسرة، بل ولا أتذكر من الأساس هل ابتسمت سخرية من شدة وسرعة تأقلم المصريين مع الوضع، إلى الدرجة المؤلمة التي جعلتنا نعتاد وجود تلك القنابل بتفاصيل يومنا وعلى مدار اليوم الواحد عدة مرات، حتى صارت جزءاً من تلك الحياة، أم كنت أبكي من داخلي على المرحلة البائسة التي وصلنا إليها لمجرد انحياز حشود الجماهير لصوت الحق والعدل والنظام واختيارهم لجانب الحياة التي يستحقونها وتليق بهم. 
نعلم جميعاً أنه كان عقاب الجماعة الإرهابية لمصر وللمصريين، هكذا كان توعدهم لنا على الملأ في كل الفضائيات، وفي الشوارع، وفي المساجد، وفي أماكن العمل، لم يُسْقِطوا مناسبة إلا وكانت مشاهد الدم كفيلة بأن تزيد الثأر بيننا وبينهم لحدود لا يعلمها إلا الله. فشهوة الدم لدى الجماعة ورغبتهم الجامحة في تعميم فزّاعة "يا نحكمكم يا نقتلكم" كانت هي بروتوكولات الشر التي تَسَيّدَت المشهد.
من هنا، أرى أن تسلسل العملين "الاختيار ١ ، والاختيار ٢" وعرضهما رمضان تلو الآخر (الموسم الأكثر مشاهدة)، وكذا تسلسل الأحداث بدقة كاملة تحاكي الواقع الذي عاصرناه، ودمجها مع بعض مشاهد وأحداث الاختيار ١، وكذا العديد من الأحداث المصورة بشكل حي من قلب الأحداث، لهو إعداد دقيق، وتنظيم وتخطيط وتطبيق عبقري، يجعلك تشعر وكأنك تسترجع في ذهنك وأمام عينك تلك الحقبة السوداء من عمر الأمة وكأنه شريط من الذكريات المٌرّة التي وجب التذكير بها، بل وإحيائها لأسباب عدة، أبسطها تجسيد بطولات أبطالنا الشهداء وحجم تضحياتهم وهو أقل ما يمكن تقديمه على سبيل التكريم وإحياء وتوريث الذكرى والسيرة العطرة، وكذا طرح المقارنة البسيطة لما كنا فيه وما نحن عليه الآن.
ولا أدل وأصدق على ذلك أكثر من إعادة تجسيد وإحياء معركة الواحات في الحلقة الخامسة والعشرين من "الاختيار ٢" التي أدمت قلوبنا ... فكما كانت ملحمة البرث هي "درة بطولات الاختيار ١" للقوات المسلحة، فها هي معركة الواحات "درة بطولات الاختيار ٢" للشرطة المصرية، تعيد وتجدد علينا مرارة الأحداث، وفواجع الأقدار، وتسطر بحروف من نور فخر أسماء ١٦ بطلا من خيرة شهدائنا الضباط والجنود. 
أقولها بملء الصوت، وأقر بأنه فرض وحق شرعي ومنطقي لتلك الأمة أن تعرض أمام الرأي العام الداخلي، وأمام العالم كله واقع الأمور كما كانت برؤية العين، لا مُبالَغ فيها، ولا مُستَهان بها قيد أنملة، ذلك لاستجلاء واقع الظروف والأحداث والمواقف الحقيقية التي عصفت بنا لعدة سنوات. فاستنباط الحقيقة لا يكون إلا بالعرض الموثق والمدعم بالأدلة، لا بالضجيج والصراخ والعبارات الرنّانة الصاخبة. 
كما أتصور أن هذا العرض الدرامي بتلك التفاصيل شديدة المحاكاة والحبكة، من حيث الاختيار الدقيق للممثلين بنفس تطابق ملامح أبطال القصة الحقيقيين، إضافة إلى تجسيد المشاهد تجسيداً مطابقاً أيضاً لتلك التي عايشناها في الواقع، وكذا إفساح المجال لاستعراض الجانب الإنساني لحياة الأبطال الحقيقيين، لهو السبب الأصيل في اجتياح تلك الملحمة الدرامية الإنسانية لكل بيت، وبالتالي اكتساح نسب المشاهدة حتى الآن باختلاف المستويات العمرية والتعليمية والاجتماعية.
خالص التحية وصادق الإعزاز والامتنان لأرواح كل شهدائنا الأبرار، وستظل قبعتي مرفوعة دائماً وأبداً لكل من يحمل على عاتقه معاونة جموع الأمة في تغليب فقه البصيرة، وإعمال صفة العقل، وتمرير رسائل الوعي المُفتَقَد الذي عبث بسيكولوجية الجماهير لسنوات.
 

رابط دائم: