الرمال المتحركة فى شمال إفريقيا
11-3-2021

جمال الكشكي
* رئيس تحرير مجلة الأهرام العربي

ما إن لاحت فى الأفق بوادر استقرار الأوضاع فى ليبيا، حتى ظهر أفق مختلف يُنذر بتوترات جديدة فى الجوار الليبى، رمال متحركة نلاحظها بوضوح فى شمال إفريقيا:تونس على صفيح ساخن، والجزائر تعيد ترتيب ملفاتها من جديد، دول الساحل والصحراء تدخل مرحلة مختلفة فى التعامل مع العودة المباغتة للجماعات والتنظيمات الإرهابية الجوالة.

 ملامح الصورة فى شمال القارة تستحق التوقف والقراءة بعمق، أمواج  التوتر متلاطمة، الحدود السياسية تسمح بانتقال عدوى الفوضى، لاحظنا ذلك فى العواصم الثلاث.

ففى طرابلس الغرب، كانت الخيوط متواصلة بين الجماعات التى تصنع الأزمات وحالات الفوضى والتخريب وعدم  اليقينمن جانب،ونفس الجماعات والتنظيمات الموجودة فى عواصم شمال القارةمن جانب آخر. فهويتهم واحدة، وأفكارهم محددة، لها أهداف قصيرة وبعيدة المدى، امتداداتهم الطرفية مشتركة، كل الشواهد تقول إنهم يسعون إلى استئناف فوضى ما يسمى الربيع العربى، ليس فى قاموسهم معنى لمفهوم الدولة الوطنية، كل أدوارهم وظيفية، تصب فى مصلحةالمطابخ السياسية المشبوهة، التى تهدف إلى الهدم وليس البناء، إلى الانهيار وليس الاستقرار، ولا ترغب فى وجود دول مركزية قوية لديها مؤسسات محصنة، بل إنها تسعى دائما إلى تأليب الشعوب ضد مؤسساتها، وضرب الثقة فى الإيمان بالدولة ومقدراتها.أصحاب هذه الوظائف والمهام والأدوار فى الشمال الإفريقى يقدمون أنفسهم كوكلاء للفوضى والتخريب فى المنطقة.

اللافت للنظر هنا هو نشاط هذه الجماعات الوظيفية فى هذا المكان،وفى تلك اللحظة، لكننى أستطيع القول إن التركيز على شمال إفريقيا يأتى فى سياق الانطلاق مما حدث عام 2011، وربما يتوهم أصحاب هذه الأدوار المشبوهة أنه يمكن إعادة سيناريوهات ما جرى، هذا فضلا عن محاولتهم فتح آفاق أوسع للجماعات الإرهابية والميليشيات، بعد أن ضاق عليها الخناق فى سوريا والعراق، فوجدوا فى شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء مسرحا ممهدا لتحقيق هذه الفكرة وذلك المشروع، وبالتالى نجد أن هذه الجماعات تبذل جهدا كبيرا لصناعة حالة من عدم الاستقرار الأمنى والاقتصادى والسياسى، إذ إن هذه الجماعات تجد نفسها فى ظل الفوضى والتأزيم، ومن ثم فمن مصلحتها غياب ملامح الدولة بمؤسساتها وهياكلها.

 ففى ليبيا مثلا، تسعى التنظيمات والميليشيات للسيطرة على مقدرات الشعوب، وإثارة الفتنة، وتعطيل مسارات الحل على مختلف الأصعدة حتى تظل الرقم الصعب فى معادلة المستقبل الليبى، وبالتالى يطول زمن بقائها على الأرض أملا فى إفشال ونسف المسار السياسى كاملا، وبالتالى تكون لديها فرص أكبر فى التوغل والسيطرة على مفاصل الدولة الليبية، وتظل الدولة رهينة للمشروع العابر للحدود، تديره الميليشيات لمصلحةقوى إقليمية دولية.

هذا النموذج الذى يحدث فى ليبيا له امتداداته فى عواصم دول الجوار.ففى تونس، قامت المجموعة الممثلة لهذه التنظيمات الدموية بمحاصرة مؤسسات الدولة، ومحاولة شل قدرة رأس الدولة عن اتخاذ قرارات يحمى بها الشعب التونسى، وفرضت تغييراً وزاريا على رئيس الحكومة دون الاتفاق مع المعايير الدستورية والنظم السياسية الحاكمة فى تونس، فلم تكتف حركة النهضة التونسية بهذه التصرفات ضد مؤسسة الرئاسة، بل إنها تحاصر الحالة السياسية بمختلف تياراتها الفكرية.فهى تدرك جيدا ماذا تريد؟ وهدفها هو قفز جماعة الإخوان الإرهابية إلى الهيمنة والسيطرة على مفاصل الدولة التونسية، ومستقبل الشعب التونسى، وجعل تونس محطة فى قطار المشروع الدولى لتمكين التنظيم الدولى للإخوان من شمال إفريقيا.

أما فى الجزائر، فهناك محاولات لاستدراج الدولة إلى الوقوع فى فخ الحالتين الليبية والتونسية، ومن ثم العودة إلى أخطر نقطة فى تاريخ الجزائر الحديث، وهى سنوات "العشرية السوداء".برغم كل هذه المحاولات الظلامية، فإن الصورة هنا فى الجزائر تختلف كثيرا، فنحن أمام دولة راسخة وثابتة، تجرعت مرارة سنوات الإرهاب، فأدرك شعبها أهمية ومعنى الاستقرار، ومحاربة قوى الظلام، وبالتالى فإدارة مشهد التعامل مع جماعات التخريب والفوضى، لا تقبل التهاون أو القسمة على وجهات النظر الجزائرية، بل إن المؤسسات الجزائرية الوطنية تتعامل بحسم وقوة مع أى تهديد للأمن القومى الجزائرى، الذى هو جزء أصيل من الأمن القومى لشمال إفريقيا، وأمن المتوسط، بل أمن القارة بأكملها، وبالطبع أمن دول جنوب أوروبا.

هذه الرمال المتحركة،من طرابلس وتونس إلى الجزائر، تمتد إلى مساحات واسعة من دول الساحل والصحراء بهدف تحقيق نفس مآرب التنظيمات، عابرة الحدود، التى تعمل كوكلاء للتخريب والفوضى فى شمال إفريقيا والإقليم.

الصورة الكاملة لما يدور فى شمال إفريقيا تفرض علينا الانتباه لضرورة وأهمية دعم وجود فكرة الدولة الوطنية ومؤسساتها، والوقوف يدا واحدة فى مواجهة القوى الظلامية ومشروعها التخريبى، والعمل على تنبيه المجتمع الدولى بخطورة ما يحدث فى شمال إفريقيا، وما له من تداعيات على الأمن والسلم الدوليين. 

نقلًا عن: الأهرام العربي

 


رابط دائم: