التوجه المصري نحو العراق من منظور عراقي
1-3-2021

د. سليم الدليمي
* كاتب وباحث عراقي

تأتي فكرة إقامة تحالف ثلاثي، يضم مصر، والعراق، والأردن، لتشير بداية إلى انخراط بنَّاء، ومرحلة جديدة من التنسيق والتعاون العربي، في كافة المجالات، وأساسها الاقتصاد والتنمية ومكافحة الإرهاب. ويحظى التوجه المصري الجديد نحو العراق بالكثير من الاهتمام في الأوسط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والشعبية العراقية. فمصر القيادة والشعب، محل تقدير واعتزاز الشعب العراقي، فما بين العراق ومصر أكبر من أي رابط يجمع العراق ببقية الدول العربية الأخرى، لأسباب كثيرة، سنحاول المرور عليها.

الملاحظ أن العلاقات المصرية - العراقية أخذت منحى وشكلاً متميزًا نحو سياق عملياتي يهدف لبناء أسس تطور جديد في العلاقات بين دولتين كبريين في الإقليم ومنطقة الشرق الأوسط، وهذا المنحى لم يكن ليسير بهذه الوتيرة المتسارعة، لولا رغبة القيادة المصرية بزعامة الرئيس عبدالفتاح السيسي، ورؤيتها التي تتجاوز العوائق والتحديات لتنمية وتطوير العلاقات مع الدول العربية بلا استثناء، وعلى الأخص منها العراق. فهذا البلد مازال يملك طاقات كبيرة ومؤثرة في التوازن الإقليمي في المنطقة بالرغم من كل ما يعانيه من جراحات وتدهور لمفهوم القوة الشاملة للدولة.

ولا نريد أن تكون هذه سطور اجترار ما جرى ويجري في غرف المفاوضات والمباحثات، والزيارات المتبادلة، والإتفاقات المعقودة بين البلدين على كافة الأصعدة، لأن الكثير منها نشر عبر البيانات والمؤتمرات الصحفية، وتناوله الإعلام والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، كما لن تتطرق إلى ما جرى ويجري في المسائل الثنائية فقط، بل ستشمل الخطوة الأهم، وهي آلية التنسيق الثلاثي المشترك، التي تضم الأردن إلى جانب مصر والعراق.

الواقع أن مسار العلاقات العراقية - المصرية بدأ يأخذ طابعًا عملياتيًا منذ سنوات قليلة فقط، ورغم تبدّل رؤساء الوزارة في العراق، كمخرج من مخرجات الديمقراطية العليلة في بلادنا، إلا أن القاهرة كانت تسير وفق رؤية استراتيجية للتعامل مع أزمات العراق شبه المستدامة، وقد نتج عن هذه الاستراتيجية مسارات مختلفة للتعامل مع الأزمة العراقية، يمكن تلخيصها على النحو التالي:

أولاً:- تعمل الدولة المصرية منذ سنوات على تركيز التعاون مع الحكومة المركزية، ومحاولة تقويتها على حساب الفروع الأخرى في البلد، ومنها إقليم كردستان، والهويات الأخرى المتفرعة كالأحزاب والتنظيمات والحركات والمذاهب والعشائر التي يزخر بها البلد. وكان هذا التوجه يحمل إشارات تدلّ أي باحث إلى أن الرؤية المصرية تريد للعراق أن يبقى واحدًا بحكومة مركزية قوية، حتى ولو كان النظام فيدرالي اتحادي، ومن هنا جاءت الفلسفة التي تقول إن التعاون مع الحكومة بغداد دون غيرها، هو السبيل الوحيد على الأقل للحفاظ على بلد متماسك يتحكم فى كل أبناء شعبه وحدوده الجغرافية دون أي تفريط. مع التذكير هنا أن الدولة المصرية كانت قد افتتحت قنصليتين إحداهما في البصرة جنوبًا، والثانية في إقليم كردستان شمالاً، كدلالة على المساواة في التعامل، وأن الهدف هو تسهيل المعاملات القنصلية للمواطنين العراقيين والمصريين في شمال العراق وجنوبه، دون تفضيل لجزء على آخر. ولابد من الإشارة أيضًا لتصريح وزير الخارجية المصري الأسبق المرحوم  أحمد ماهر فى عام 2004، والذي أعلن فيه عن ترحيبه بجميع الأطراف العراقية "وبلقاء كل من يريد أن نستمع إليه أو يستمع إلينا".

ثانيًا:- بجهود فردية، وكذلك بالتعاون مع الدول العربية والأجنبية، تكرر مصر على الدوام تأكيدها على وحدة التراب العراقي في مواجهة محاولات الاختراق والتسلل الإيراني والتركي للأراضي العراقية. وبمراجعة بسيطة لسلسلة اللقاءات والاجتماعات والبيانات والتصريحات التي صدرت عن الحكومة المصرية، أو من خلال المنتديات العربية والإقليمية والدولية. كانت كلها تؤكد على موضوع رئيسي هو وحدة أراضي العراق وحماية سيادته من التدخلات الخارجية المؤذية والمضرّة.

ثالثًا:- تعلن القاهرة باستمرار عن وقوفها إلى جانب بغداد في مواجهة الإرهاب والتطرف الذي يضرب العراق منذ احتلاله إلى يومنا هذا، وكان أحد ضحاياه سفير مصر في العراق المرحوم إيهاب الشريف، والذي قتل على يد تنظيم القاعدة عام 2005، بعد اختطافه وسط بغداد. وتحظى قضية مكافحة التطرف باهتمام كبير من الجانبين، لأنهما ضحية قوى إرهابية استطاعت مصر ان تنتصر عليها وتتجاوزها، ولكن العراق مازال يعاني من خطر هذا التطرف، نتيجةً لوجود عدد من التنظيمات الإرهابية على أراضيه، ومنها تنظيم "داعش".

رابعًا:- التأكيد المصري على الوقوف مع العراق في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، بما يحقق لهذا البلد الخلاص من محنّة الاحتلال والحرب الطائفية، وتحسين علاقاته بالدول العربية .

بناء على هذه الاستراتجية المصرية، كان لابد من توجه العلاقات بين الجانبين إلى مسارات أوسع بما يحقق للشعبين المزيد من التعاون والتكامل، ولقد وجد الجانبان أهمية ضمّ الأردن إلى جانبهما في محور لتعاون ثلاثي، يركز في اجتماعاته وعلى كل المستويات، ومنها القمم الثلاث التي عقدت حتى يومنا هذا، في القاهرة مارس 2019، ونيويورك 2019، وعمان أغسطس 2020، وكذلك الاجتماعات الدورية للجان المشتركة التي تضم عددا كبيرا من الوزراء في البلدان الثلاثة -يركز على زيادة حجم التعاون والتكامل السياسي والاقتصادي، وتوسيع حجم التبادل التجاري والمالي.

ففي المجال الثنائي، توسع التعاون العراقي - المصري البينيّ ليصل إلى التوقيع عام 2020 على (15) اتفاقية ومذكرة تفاهم، تحت مسمى (النفط مقابل البناء)، وبموجبه، تقوم مصر بإعادة بناء العراق مقابل الحصول على السلعة التي يزخر بها العراق ألا وهي النفط، وتشمل المذكرات والاتفاقيات كل القطاعات الاقتصادية والمالية والصحية والزراعية والمائية والإسكان  والتجارة والنقل والاستثمار، وتبادل الخبرات في مجاليّ التصنيع العسكري ومكافحة الإرهاب بين البلدين .. ويسعى البلدان لرفع حجم التبادل التجاري ليعود للصدارة مجددًا بعد أن تراجع في عام 2020، حيث وصل إلى ما يقارب (500) مليون دولار، وهو رقم متواضع جدًا إذا ما قارنّا حجم التبادل التجاري مع دول الجوار الأعجمي، إذ يصل مع  تركيا إلى (20) مليار دولار، ومع إيران إلى أكثر من (5) مليارات دولار لعام 2020.

كما أن حجم التبادل التجاري بين العراق والأردن لم يصل إلى مستوى (400) مليون دولار خلال العام الماضي. كما وقع الأردن اتفاقيات مهمة مع العراق، في المجالات الصحية والاقتصادية والتجارية والاستثمارية، فضلًا عن تجديد عقد استيراد النفط العراقي وبأسعار تنافسية. وعلى مدّ خط أنابيب للنفط يربط محافظة البصرة العراقية بميناء العقبة الأردني، ثم إلى مصر وبقية دول العالم، فضلاً عن توقيع مذكرات تفاهم لمد خطوط للطاقة الكهربائية تمتد من مصر إلى العراق عبر الأردن.

أما بالنسبة للتعاون الثلاثي أو مشروع (الشام الجديد)، فهو بداية لمشروع عربي طموح ومهم بالنسبة للدول الثلاث. فمع تراجع قدرة المنظمات العربية على إيجاد توازن بين حجم المشاكل والأزمات العربية، وبين قدرة العرب منفردين أو موحدين على مواجهتها، كان لابد من إيجاد محور آخر له ثقله قادر على التصدي لتلك الأزمات، وكان لابد من ربط المشرق العربي بمغربه بين العراق ومصر والأردن. ويعول العراقيون كثيرًا على هذا التحالف على أنه المنقذ لحل الكثير من المشاكل فالدولتان مقبولتان عربيًا وإقليميًا، وليس هناك حساسيات كبيرة من الوجود الأردني والمصري في العراق، فالمحور الجديد خالٍ من الأطماع السياسية والاقتصادية، ولا يلامس ثقافة قطاع مهم من العراقيين، إذّ أنه بلا حساسيات طائفية أو مذهبية أو توسعية. وربما هو بداية لرسم مشروع عربي حقيقي لكيفية مواجهات المخاطر التي تهدد الأمن القومي العربي.

في النهاية، هناك سؤال لابد من طرحه هنا: ماذا يريد العراق من مصر والأردن، في هذه المرحلة بالذات؟، وبإمكاني كمراقب ومتابع لما يعيشه البلد، فإن الأمل بهذا المشروع العربي يتلخص فى التالي:

  •  يريد العراق وقوف مصر إلى جانب أبناء العراق في محنتهم الطائفية التي مازالت لم تنته بالشكل المطلوب، فمازال هناك تهميش وإقصاء، وإبعاد ونزاعات قومية ومذهبية، وبإمكان الشقيقة الكبرى بخبرتها وتجربتها وعمقها الحضاري، وهو أمر مرتبط بقدرة مصر على استثمار "ملفات النفوذ" كوسيط أو طرف لا يمكن إنكار دوره فى أن تعيد الهوية الوطنية العراقية مجددًا، وقد حاولت ذلك في عام 2005، وكانت مساعيها -حينذاك- مقبولة من جميع الأطراف العراقية. وذات الأمر مطلوب من الأردن أيضًا.
  •  بناء ما دمرته الحروب الداخلية والخارجية، والتي جاءت على الأخضر واليابس في هذا البلد الأصيل، ومصر قدمت نموذجًا رائعًا في البناء والتنمية في قطاعات أساسية، مثل (المدن، الطاقة، الزراعة، البنى التحتية، الصناعة)، فالعراق بحاجة لآلاف المدارس والمستشفيات، وتشغيل مئات المصانع المتوقفة، وملايين الوحدات السكنية والطرق والجسور، والاستثمار في حقول النفط والغاز، وتطوير الزراعة، والعمل على إيجاد آليات لاستثمار مياه نهري دجلة والفرات، وإقامة السدود والبحيرات عليهما، خصوصًا، أن مصر بنّت كل ذلك بسرعة استثنائية.
  •  المزيد من التغلغل والتداخل في الشأن العراقي، ويتم ذلك عبر استضافة أساتذة الجامعات العراقية، وممثلين عن منظمات المجتمع المدني، والنساء، والشباب، والقطاع الخاص، ووسائل الإعلام في ورش عمل دورات تعقد في مصر، من أجل زيادة التوعية بضرورة الإتفاق لبناء العراق وفق أسس وطنية وقومية بعيدًا عن الطوائف والإثنيات والتحزب، بالإضافة إلى الزيارات الشعبية للجانبين، خصوصًا من حاضرة الأزهر الشريف، والكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ومنظمات المجتمع المدني، وبعض النقابات المهنية وكبار الفنانين المصريين.
  •  زيادة التعاون العسكري بين الجانبين لما فيه من مصلحة للجانبين، فالعراق خاضع لاختراق إيراني وأمريكي ويفرض عليه الكثير من صرف الموارد، والشروط السياسية والثقافية للحصول على السلاح والعتاد والتجهيزات وبأسعار مرتفعة، وبإمكان مصر بما تمتلكه من خبرات وقدرات تسليحية عالية سدّ هذه الثغرة، ويريد العراقيون هنا تكرار تجربة الثمانينيات عندما قامت مصر بتجهيز الجيش العراقي خلال الحرب "العراقية-الإيرانية"، بالأسلحة والذخائر، فضلاً عن إعانة العراق بالوسائل التي تساعده في مكافحة الإرهاب.
  •  التوسع في ضمّ بلدان عربية أخرى للمشروع العربي لما فيه مصلحة العرب جميعًا، ففكرة الهلال الخصيب التي تضم العراق والأردن، وفلسطين وسوريا، ولبنان شرقًا، إلى جانب مصر، وضم السودان وليبيا مستقبلاً، هو حلم يراود العراقيين منذ أن طرحه رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري السعيد عام 1942، وله أبعاده الاستراتيجية، كونه يقف في وجه مشروع إيران الخاص بالتمدد لإكمال هلالها الشيعي، الذي يضم كل من إيران، والعراق، وسوريا وصولاً إلى لبنان. وكذلك سيردع تركيا عن تدخلاتها السافرة في شئون العراق وسوريا، ومحاولة تمددها في دول أخرى بالمنطقة عبر قواها الناعمة والخشنّة. فضلًا عن كونه سيوقف عربدة إسرائيل في المنطقة، وما قد يخلقه المشروع العربي الثلاثي من تأثيرات فى ملفات الصراع القائمة في المنطقة.

أخيرا، يمكن القول، إن التعاون بين البلدان الثلاثة بشقيه الثنائي والثلاثي، في طريقه لتحقيق اختراق نوعي في موازين المنطقة كونه يشير إلى بداية تحالف يمكن أن يؤسس لاستراتيجية عربية، ويعمل على تعيين الفرص وتحديد المخاطر، وهو مسعى خير لدول المنطقة وشعوبها، وأي قراءة لسياق هذا المشروع الوليد والقائمين عليه، يجد أنه يحمل واقعية حقيقية، ويشكل بداية لحلم قد يحقق الكثير من الآمال العربية التي وصلت إلى حد اليأس، نتيجة لفشل المشاريع الأخرى الموازية، أو لكون بقية المشاريع محصورة في إطار جغرافي أو ثقافي معين.


رابط دائم: