مخاطر البوابات الخلفية للتنظيمات الإرهابية
9-2-2021

علي بكر
* نائب رئيس تحرير السياسة الدولية وخبير الحركات المتطرفة

على الرغم من إعلان التنظيمات الإرهابية بشكل متكرر رفضها إقامة أي علاقات، أو فتح قنوات اتصال مع الدول والأنظمة السياسية، التي تزعم أنها عدوها الأول وتسعى للقضاء عليها، إلا أن التطورات المتعلقة بظاهرة الإرهاب، خلال السنوات الماضية، كشفت عن وجود العديد من قنوات الاتصال السرية بين قادة تلك التنظيمات وعدد من الدول والحكومات التي تزعم أنها تحارب الإرهاب، وهو ما سمح لهذه التنظيمات بالاستمرار في ممارسة أنشطتها الإرهابية والتوسع والانتشار في مناطق جديدة، من خلال ما توفره لها تلك القنوات من دعم وتمويل.

 وهو ما يطرح تساؤلاً مهماً حول أبرز ملامح القنوات السرية للتنظيمات الإرهابية ومخاطرها على جهود مكافحة الارهاب، لاسيما أن الفترة الماضية قد شهدت لجوء بعض الدول الى نسج علاقات غير مرئية مع بعض تلك التنظيمات، سواء من أجل حماية مصالحها السياسية والاقتصادية، أو من أجل مساعدتها على مد نفوذها لمناطق بعيدة عنها جغرافياً، خاصة فى المناطق التي تنشط بها هذه التنظيمات.

مصالح متبادلة:

يمكن القول إن هناك مجموعة من الدوافع تقف وراء سعى التنظيمات الإرهابية لفتح قنوات اتصال سرية مع بعض الدول، يأتي في مقدمتها رغبتها في الحصول على الأموال الطائلة جراء عمليات خطف الرهائن الغربيين، حيث تحرص الدول التي ينتمي اليها هؤلاء الرهائن على التفاوض بشكل سرى مع التنظيمات، سواء بشكل مباشر، أو عبر وسطاء محليين للإفراج عنهم لتجنب الانتقادات الدولية، وهو ما يفسر توسع تلك التنظيمات فى خطف الرهائن خلال الأعوام الماضية.

كما تستفيد التنظيمات الارهابية من وراء تلك القنوات السرية في تجنب الضربات العسكرية، ووقف استهداف قادتها وعناصرها من قبل بعض الدول، مقابل وقف هجماتها الإرهابية، على غرار الاتفاق الذي أبرم منذ عدة سنوات بين تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والحكومة الموريتانية، وهو ما كشفت عنه إحدى الوثائق التي عثر عليها الأمريكيون في منزل زعيم القاعدة السابق بن لادن، والتي تقول إن قادة التنظيم ناقشوا عام 2010 خطة سلام مع موريتانيا، مقابل تعهدها بإطلاق سراح سجناء القاعدة، ودفع ما يزيد على 20 مليون يورو للتنظيم مقابل عدم خطف السائحين.

فى المقابل، تسعى الدول، التي تفتح قنوات اتصال سرية مع التنظيمات الإرهابية، الى تحقيق مجموعة من المكاسب، يأتي في مقدمتها، تعزيز وجودها في المناطق التي تنشط بها التنظيمات، وحماية مصالحها الاقتصادية من الهجمات الإرهابية المتوقعة من ناحية، واستخدام تلك التنظيمات في الضغط على الدول المنافسة لها من ناحية أخرى، على غرار تحريض قطر لبعض المجموعات الإرهابية في الصومال ضد مصالح دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو ما كشفت عنه المكالمة الهاتفية المسربة في يوليو 2019 بين السفير القطري في الصومال ورجل الأعمال خليفة كايد المهندي، ويؤكد فيه الأخير للسفير أن "أصدقاء قطر" من الإرهابيين يقفون وراء التفجير الذي حدث في مدينة بوصاصو "لتعزيز مصالح قطر من خلال طرد منافسيها"، فى إشارة الى المصالح الإماراتية فى تلك المنطقة.

أبرز الاتصالات السرية للتنظيمات الإرهابية:

أدى تعدد التنظيمات الإرهابية وتنوعها الى تصاعد نشاطها بشكل كبير، مما جعلها تمثل التهديد الأكبر للأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، وهو ما دفع بعض القوى الدولية والإقليمية الى فتح قنوات سرية مع قادة تلك التنظيمات، لكن دون علم عناصرها، حيث إنهم المستفيد الأكبر من وراء تلك القنوات. ويمكن تحديد أبرز اشكال تلك القنوات في النقاط التالية:

الاتصالات "القاعدية-الفرنسية" في الساحل الإفريقى: كشفت عملية التفاوض التي جرت بين "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، الموالية لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والاستخبارات الفرنسية، عن وجود قنوات اتصال سرية بين الطرفين، وهو ما يفسر حرص الجانب الفرنسي على التفاوض بشكل مباشر مع قادة الجماعة، ودون أي وساطة حكومية، أو قبلية، وهو ما أدى إلى الإفراج عن رهينة فرنسية، وإيطاليين اثنين في أكتوبر 2020، مقابل الإفراج عن 200 من عناصر التنظيم المحتجزين لدى السلطات المالية، إضافة الى حصوله على 25 مليون يورو، وهو ما أغضب زعماء القبائل المحليين الذين كانوا يحرصون على لعب دور الوسيط فى مثل تلك المفاوضات، نظراً لحصولهم مقابل على نسبة من أموال الفدية.

الجدير بالذكر فى هذا الإطار أن الأشهر الخمسة التي أعقبت مقتل عبد الملك دروكدال زعيم التنظيم في يونيو 2020، وقبل تولى القائد الجديد يوسف العنابي، قد شهدت تصاعدا ملحوظا في الاتصالات بين التنظيم وباريس، حيث كان يقود التنظيم في تلك الفترة "أياد أغا غالى" المعروف بميوله الى فتح قنوات اتصال غير معلنة مع القوى المختلفة، وعلى رأسها فرنسا، كونه دبلوماسيا سابقا يدرك أهمية مثل تلك القنوات وما يمكن أن تحققه من مكاسب، وهو ما تحقق بالفعل في تلك الفترة، حيث تراجعت الهجمات الفرنسية ضد مواقع التنظيم في تلك الفترة، مقابل تقليص الهجمات ضد القوات الفرنسية العاملة في إطار عملية برخان، وإمدادها بمعلومات مهمة عن مواقع عناصر تنظيم "داعش" أو ما يعرف بولاية الصحراء الكبرى، وهو ما دفع تنظيم "داعش" إلى شن هجوم إعلامي شرس على قادة تنظيم القاعدة واتهامهم بالعمالة لمصلحة فرنسا.

التفاهمات "القاعدية- الأمريكية" في اليمن: كشف مقتل زعيم تنظيم القاعدة في اليمن قاسم الريمى في فبراير 2020، من خلال استهداف طائرة أمريكية بدون طيار، عن وجود اختراق أمريكي كبير للتنظيم، عبر قنوات اتصال مع عدد من قيادات التنظيم، في مقدمتهم "خالد باطرفى" الزعيم الحالي للتنظيم، والمتهم من قبل بعض الأجنحة داخل التنظيم بالمسئولية عن مقتل الريمى، حيث إن عملية الاغتيال تمت مباشرة عقب انتهاء لقاء بين الطرفين، وذلك من خلاله قيامه بوضع شريحة إلكترونية ساعدت الطائرة الأمريكية في استهداف "الريمى"، وهو ما دفع "باطرفى" الى المسارعة باتهام قيادات أخرى داخل التنظيم بالتواطؤ مع الولايات المتحدة الأمريكية لقتل الزعيم السابق، في محاولة منه لنفى التهمة عن نفسه، وهو ما أدى الى حالة من الانقسام الحاد داخل التنظيم، وصلت ذروتها من خلال بيان وقع عليه مجموعة من قيادات التنظيم المناوئة لـه في أبريل 2020 يطالبون فيه زعيم تنظيم القاعدة الأم أيمن الظواهري بالتدخل لرفع الظلم عنهم من الاتهامات الموجه إليهم بالعمالة لمصلحة الولايات المتحدة الأمريكية.

ومما يؤيد القول بوجود قنوات اتصال بين واشنطن وزعيم التنظيم الحالي للتنظيم "خالد باطرفى" أنه قد تم إعلان القبض عليه في 5 فبراير 2021، بناء على تقرير للأمم المتحدة، أكد فيه أن زعيم تنظيم القاعدة في اليمن معتقل منذ "أشهر"، في حين أن كل قادة القاعدة في اليمن تم قتلهم ولم يلق القبض على أحد منهم، وهو ما جعل البعض يصف عملية القبض عليه إنما جاءت فى إطار صفقة بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية، يحصل فيها باطرفى على حياته، مقابل تقديم معلومات ثمينة للغاية، يمكن أن تؤدى الى تفتت التنظيم أو على الأقل انقسامه إلى مجموعات متنافسة.

القنوات "الداعشية –التركية": رغم محاولات تركيا طوال السنوات الماضية نفى علاقتها بتنظيم "داعش"، إلا أنها فشلت في ذلك، في ظل وجود العديد من الأدلة والتقارير والاستخباراتية التي تؤكد هذه العلاقة، خاصة في الفترة بين عامي 2014 الى مطلع 2016، والتي مثلت فيها تركيا المعبر الرئيسي للمقاتلين الأجانب من جميع أنحاء العالم للالتحاق بصفوف التنظيم، إضافة إلى التعاون بين الطرفين في مجال تهريب النفط والآثار والسلاح، حتى صارت تركيا تمثل الظهير الآمن لـ"داعش"، خاصة بعد أن وفرت المستشفيات الحدودية لعلاج مقاتلي التنظيم، حتى إن "داعش" صار له مبعوثه الخاص الى أنقرة، وهو ما كشفت عنه اعترافات "أبو منصور المغربي" في فبراير 2019، الذى كان يوصف بـ"سفير داعش" في تركيا، والذى كشف عن عمق العلاقة بين قيادات التنظيم والاستخبارات التركية.

ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل ساهمت القنوات السرية بين الطرفين فى جعل تركيا بمنزلة الحافظة المالية للتنظيم، التي يحتفظ فيها بأمواله الطائلة التي جناها طوال السنوات الماضية من سوريا والعراق، وهو ما أفاد به تقرير لوزارة الخزانة الأميركية نشر في 7 فبراير 2021 بأن لدى تنظيم "داعش" الإرهابي احتياطيات نقدية في تركيا تقدر بنحو 100 مليون دولار، وذلك من خلال شبكات مالية للتنظيم يستطيع الوصول إليها بكل سهولة في تركيا بفضل النظام التركي المالي، الذي يغض الطرف عن كثير من عمليات تهريب الأموال التي تتم على أراضيه، وهو ما أكدته فى وقت سابق العديد من التقارير الغربية التي رصدت تحويل أموال من تركيا إلى عناصر "داعش" في سوريا بطرق مختلفة، وبالفعل جرى فرض عقوبات على مؤسسات مالية في تركيا لتعاملها مع التنظيم.

التواصل القطرى مع حركة الشباب الصومالية: حرصت قطر، خلال السنوات الماضية، على فتح قنوات اتصال مع حركة شباب المجاهدين الصومالية، وذلك من خلال عملائها داخل حكومة محمد عبد الله فرماجوا، المعروف برضوخه المستمر للضغوط التي يمارسها عليه رجال قطر داخل الحكومة، والتي تهدف إلى إضعاف الجيش في مواجهة الحركة الارهابية، وهو ما دفع البعض الى اتهام الحكومة بعدم رغبتها في القضاء على الحركة، وذلك في إطار سعى الحكومة القطرية الى استخدامها فى تعزيز نفوذها داخل البلاد من ناحية، والضغط على مصالح الدول المناوئة لها داخل الصومال من ناحية أخرى.

 حيث استغلت قطر المعاونات والمنح التي تقدمها للحكومة الصومالية، في اختراق الأجهزة الأمنية والسيادية داخل الصومال، وذلك من خلال زرع عملائها والموالين لها في عدد من المناصب الحساسة، وهو ما كشف عنه قرار مجلس الوزراء الصومالي، فى 23 أغسطس 2019، بتعيين "فهد ياسين" المعروف برجل قطر فى الصومال، مديراً لجهاز المخابرات خلفاً لحسين عثمان، وهو ما جعله يتحول من مجرد مراسل لقناة الجزيرة إلى واحد من أن أهم القيادات السياسية فى البلاد، وهو ما أثار مخاوف القادة العسكريين من يؤدى ذلك الى سيطرة الدوحة على الأجهزة السيادية في البلاد، وهو ما كشف عنه تصريح مدير جهاز المخابرات الصومالي السابق حسين عثمان، في 23 أغسطس 2019، فى تعليقه على قرار تعين فهد ياسين، بقوله "يوم أسود في تاريخ جهاز الأمن الصومالي، لأن تترأسه شخصية عميلة لقطر".

أخيرا على ضوء ما سبق، يمكن القول إن التنظيمات الإرهابية صارت حريصة على فتح قنوات سرية مع العديد من الدول والحكومات، بسبب ما تقدمه لها هذه القنوات من دعم مالي ومكاسب مادية وسياسية، مما يشجعها على الاستمرار في أنشطتها الإرهابية، وهو ما يعنى أن كل الجهود التي تبذل لمكافحة الإرهاب، خلال السنوات الماضية، لن تؤتى ثمارها، طالما بقيت تلك القنوات باقية ومستمرة.

 

 

 

 


رابط دائم: