القوة الناعمة سلاح لترسيخ قيم الانتماء والولاء
13-5-2019

د. رانيا يحيى
* رئيس قسم فلسفة الفن وعلومه بأكاديمية الفنون، عضو المجلس القومى للمرأة
     منذ عام 1990، خرج علينا مصطلح جديد، ألا وهو "القوة الناعمة"، بعد أن أطلقه أستاذ العلوم السياسية فى جامعة هارفارد، مساعد وزير الخارجية الأمريكى، رئيس مجلس الاستخبارات الوطنى، جوزيف ناى، فى كتابه (وثبة نحو القيادة) لأول مرة ، ثم أعاد استخدامه مرة أخرى عام 2002 فى كتاب آخر بعنوان (مفارقة القوة الأمريكية)، إلى أن قام بتطوير الفكرة ذاتها وتوسع وأسهب فيها فى كتابه الصادر عام 2004 الذى يحمل عنوان هذا المصطلح الجديد. وبالطبع، حاز الكتاب شهرة كبيرة. ويشير هذا المصطلح على كيفية تأثير أمة ما فى الأمم الأخرى، وتغيير سلوك الأفراد بالإقناع وليس الإكراه بما يخدم مصالح هذه الأمة بدون توظيف أدوات القوة الصلبة، ولكن باستخدام الوسائل الحضارية والاقتصادية والدعائية والتى تعتمد على قوة الجذب، فيمكن نشرها بطرق شتى، مثل الثقافة الشعبية وجعل الشعوب تأخذ ما تريد وإيهامها بأنه بمحض إرادتها. ولهذا، يتأتى علينا بداية أن نعرف أن القوة الناعمة للدولة تأتى فى إطار قوى الدولة الشاملة، التى تضم العناصر الثلاتة، أولها العسكرية، ونعنى بها القوات المسلحة، والسياسية، والتى تعكس علاقاتنا الدبلوماسية، إقليمياً ودولياً، والعنصر الأخير داخلياً وهو المعنى بالقوة الاجتماعية ثقافياً، وسكانياً، وتعليمياً، وصحياً.
    وبالتالى، فالقوة الناعمة تمثل واحدا من أشكال القوة الثلاثة جنباً إلى جنب القوة العسكرية التى تعتمد على الإجبار والقسر باستخدام الإمكانات العسكرية، والقوة الذكية بقدرتها على الدمج بين القوتين الصلبة والناعمة. وحينما نتحدث عن القوة الناعمة، نجد أنها رغم استحداث هذا المصطلح والذى يرجع لقرابة عقود ثلاثة، فإن المفهوم فى ذاته يرجع لآلاف السنين، على سبيل المثال:
الحكام البارزون فى بلاد ما بين النهرين منذ الألف الثالث قبل الميلاد، مثل سرجون الأكدى وحمورابى البابلى، حينما يبسطون نفوذهم على دول مختلفة، كانوا يبقون على آلهتها، ويظهرون التقدير لها وللثقافة العامة السائدة، ويعمدون للتقريب بالمصاهرة وحسن الإدارة ،بينما يقومون بتعزيز القوة العسكرية والاقتصادية.
الإسكندر المقدونى حينما حاول فتح أقطار الأرض، سأل مستشاريه تقديم النصيحة التى تعينه على تحقيق غايته، فما كان منهم سوى أن يتقرب إلى مؤلفى الأغنيات ليتخذ منهم عوناً وأداة لإحكام القبض على أفكار هذه الشعوب وتوجيه المجتمع من خلالها وذلك خلال الفترة من (356-323 ق.م).
الدين الإسلامى لم ينجح بالسيف، وإنما بقوة القيم التى خلقت الجاذبية والإقناع بتفوق النموذج الذى يمثلها.
الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت (1798-1801) فشلت عسكرياً وكانت مدعاة للانتقاد، لكن تأثيراتها الثقافية والحضارية عملت على تحريك العقل السياسى.
تأثير القوة الناعمة يستمر حتى رغم أفول نجم القوة الصلبة، وربما نتذكر المغول الذين اكتسحوا العالم، إلا أنهم شعب بدائى لا يمتلك حظاً من الثقافة والحضارة، مما جعله يذوب فى ثقافة الآخرين، وإذعانهم للآخرين بالرعب زال مع القوة الصلبة للخصم.
      وهناك بعض مقولات تؤكد أهمية القوة الناعمة فى السيطرة على الشعوب قبل استخدام القوة الصلبة لتيسير المهمة. فمثلاً ما أشار إليه ثعلب الصحراء الألمانى، إرفين روميل، من "أن القائد الناجح هو الذى يسيطر على عقول أعدائه قبل أبدانهم"، وكذلك الجنرال الفرنسى شارل ديجول حين قال "لكى تنتصر دولة ما فى الحرب، عليها أن تشن الحرب النفسية قبل أن تتحرك قواتها إلى ميادين القتال، وتظل هذه الحرب تساند القوات حتى انتهاء مهمتها". وهذا يجعلنا نتطرق للحرب النفسية التى تعنى الاستخدام المخطط من جانب دولة أو مجموعة دول للتأثير فى آراء وانفعالات ومواقف جماعات عدائية أو محايدة أو صديقة لتحقيق أهداف أو سياسة لتلك الدولة المستخدمة، وتهدف للتأثير فى آراء واتجاهات وانفعالات وسلوكيات الأهداف المخاطبة لإقناعها أو إجبارها على عدم جدوى المقاومة وفرض الإرادة عليها، وتشن هذه العمليات فى فترات السلم والحرب. كما تركز على التغيير والتعديل فى القيم واللغة والعادات، وتعمق من فكر الانقسامات الداخلية وزعزعة الثقة فى نظام الحكم، وإثارة الفتن والنعرات العرقية والطائفية باستخدام أشكال القوة الناعمة مثل الإعلام أو الدعاية، أو الخداع، أو الفنون.
     لذلك، نجد أن مصطلح القوة الناعمة ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة والأفكار الاستعمارية، خاصة مع تطور أشكال الحروب وصولاً إلى حروب الجيلين الرابع والخامس، والتى نعانيها بشدة، خاصة فى ظل المؤامرات الصهيونية، ومحاولات التقسيم للأمة العربية لمصلحة الذريعة التى وضعت كجرثومة تشع سمومها وسط المنطقة العربية. ودفعت تلك المؤامرة لاستغلال القوة الناعمة سلباً، مما أحدث بعض التأثيرات الموجعة لدى المواطنين فى عدة دول، وبالطبع، هنا، لا أعنى فقط ما يحدث فى الأمة العربية، ولكن هى مخططات تصنع لرسم سياسة معادية للدول المراد السيطرة عليها، وعلى مقدراتها وإمكاناتها وثرواتها، وإنما بالطبع ما يمسنا الآن، ونستشعر ألمه بشدة هو معاناتنا ومعاناة جميع الدول العربية من آثار تلك المؤامرة الدنيئة، وما ينعكس على تلك الشعوب بتشويه صورة الدولة وكسر هيبتها لدى الرأى العام، وزعزعة الأمن والاستقرار، وفقدان الثقة وطمس الهوية الوطنية،  والخضوع لثقافة الغير. وبالتأكيد، تأتى جميع هذه المظاهر لمصلحة الدول المعادية التى عملت على غزو عقول أبنائنا وشبابنا تحت شعارات زائفة تندد بالظلم والاستبداد، وتدعو للحرية والديمقراطية للدول المراد الهيمنة عليها مع فرضية التصور التبشيرى بالتلازم الحتمى بين الإصلاح والديمقراطية. وبالقطع، ففكرة الإصلاح السياسى مجرد ادعاء، ولم تكن محور الاهتمام بقدر التركيز على المحاور الأربعة الرئيسية: التعليم، والمرأة، والمنظمات غير الحكومية، وقطاع المال والأعمال. كما قادت شعاراتهم الخادعة المارقة إلى تمزيق النسيج الاجتماعى، وإحداث مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار كما شاهدنا فى الدول العربية، وتطابقت نتائجها مع الدعوات الإسرائيلية واليمين الأمريكى المتطرف المنادى بتقسيم وتفتيت الدول العربية إلى دويلات وكيانات طائفية متناحرة بما يسهل من السيطرة عليه. لذا، علينا أن نستخدم نفس سلاح القوة الناعمة داخلياً للحفاظ على هويتنا بما تحتويه من لغة، وعقيدة، وموروث ثقافى طويل المدى، ولكي نحرر عقول أمتنا من الغزو الفكرى لتحقيق أمن فكرى، ووعى حقيقى مستنير يدعم بناء أوطاننا، ويرسخ قيم الانتماء والولاء. 
 

رابط دائم: