كيف يسعى "داعش" للحفاظ على دولته المزعومة؟
13-5-2019

علي بكر
* نائب رئيس تحرير السياسة الدولية وخبير الحركات المتطرفة
     يبدو أن تنظيم "داعش" يحاول تجاوز الهزائم العسكرية التي منى بها خلال الفترة الأخيرة، بعدما سقطت كل معاقله في العراق وسوريا، حتى أصبح التنظيم الأم على وشك الانهيار الكامل، مما يعنى سقوط دولته المزعومة، من خلال إحداث ضجة إعلامية، يثبت من خلالها عدم تأثره بتلك الهزائم، وقدرته على الاستمرار في ممارسة نشاطه الإرهابي، وهو ما كشف عنه التسجيل الأخير لزعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي، الذي نشرته مؤسسة "الفرقان" التابعة للتنظيم في 29 أبريل 2019، الذي ظهر فيه وهو يتحدث إلى عدد من الأشخاص عن آخر معارك التنظيم في الباغوز السورية، مشيراً إلى ما جرى في السودان والجزائر أخيرا، مما يطرح تساؤلاً مهما حول أهم الآليات التي يمكن أن يعتمد عليها "داعش" فى الحفاظ على خلافته المزعومة وشعاره  الذي رفعه منذ تأسيسه، وهو "باقية وتتمدد".
    وقد جاء ظهور البغدادي الأخير متزامناً مع الذكرى الخامسة لتأسيس التنظيم، وعقب فترة وجيزة من سقوط الباغوز، آخر معاقل التنظيم فى شمال شرق سوريا، مما جعل الكثيرين يعتقدون اقتراب نهاية التنظيم وسقوط البغدادي، سواء بالقتل أو القبض عليه، وهو ما يشير إلى رغبته فى إيصال رسالة، مفادها أنه لا يزال يمسك بزمام التنظيم، وأن دولته المزعومة لم تسقط، وأنها لا تزال قادرة على التمدد والانتشار.
      وربما هذا ما يفسر أيضا ظهور عدد من قادة التنظيم بجواره، وهم يقدمون له ملفات ما يسمى "الولايات الخارجية" بدليل إعلانه تأسيس ولاية الصحراء جنوب مالي، والإشارة لهجمات سريلانكا والزلفي، والتى جاءت فقط على هيئة "تسجيل صوتي" مضاف، مما يعني أن التسجيل المرئي جاء قبل هذين العمليتين، إلا أن الإشارة إليهما جاءت لتأكيد حضوره ووجوده على الساحة.
 
توقيت لافت:
    جاء تسجيل البغداى الذي حمل عنوان "في ضيافة أمير المؤمنين" في توقيت صعب للغاية بالنسبة للتنظيم، خاصة بعد أن تم القضاء عليه عسكريا في سوريا والعراق، عقب خسارته كل معاقله، وأصبح نشاطه مقتصرا على شن بعض الهجمات المتفرقة، عبر خلاياه المتفرقة فى عدد من المناطق، خاصة على الساحة العراقية، على غرار الهجوم الذي أحبطته قوات الحشد الشعبي في العراق فى 3 مايو الجاري 2019، بين محافظتي ديالى وصلاح الدين، فى مواجهة استمرت لعدة ساعات.
      وقد أكد البغدادي، خلال تسجيله، أن سقوط الباغوز ليس نهاية المطاف، وهدد بخوض"معارك أخرى"،  وأن الهجمات الأخيرة التي شهدتها سريلانكا هى بمنزلة "ثأر" لما حدث في الباغوز، كما تحدث عما سماه بعملية الزلفي في السعودية، والتي هاجم فيها عدد من المسلحين مركزاً أمنيا فى المملكة العربية السعودية، ودعا أنصاره إلى شن مزيد من العمليات داخل السعودية. كما أشار الرجل إلى  "مبايعة" عدد من المجموعات للتنظيم في كل من مالي وبوركينا فاسو له. كما طلب من "أبو الوليد الصحراوي"، زعيم "داعش" فى الساحل الإفريقي شن مزيد من الهجمات على الأهداف الفرنسية هناك "ثأراً" لقتلى التنظيم في سوريا والعراق، بسبب مشاركة باريس  في الجهد العسكري للقضاء على التنظيم هناك.
    كما ظهر التسجيل في وقت تتصاعد فيه الجهود الدولية لوقف تمويل الإرهاب، وهو ما سبب أزمة اقتصادية حادة للتنظيم، على غرار القرار الذي تقدمت به فرنسا لمجلس الأمن حول مكافحة تمويل الإرهاب، والذي تم اعتماده بالإجماع في 28 مارس 2019، ويهدف إلى منع وصول التمويلات بمختلف أشكالها للإرهابيين، خاصة التحويلات المالية المشفرة، أو التى تستخدم العملات الرقمية، الأمر الذي يشير إلى أن تسجيل البغدادي يعد بمنزلة محاولة منه للحفاظ على تماسك تنظيمه، عبر رفع معنويات عناصره والموالين له فى مناطق متعددة من العالم، وضمان ولاء الفروع الخارجية للقيادة الحالية، من خلال الإيحاء بأن التنظيم لا يزال قادرا على التمدد والانتشار، وأن دولته لا تزال باقية برغم الجهود الدولية للقضاء عليها
 
آليات متعددة:
        برغم ما يمثله انهيار الهيكل التنظيمي لـ"داعش" في سوريا والعراق من أهمية، نظراً لأنها تمثل سقوط قلب الدولة المزعومة التي كثيرا ما تفاخر بها بين التنظيمات الإرهابية، فإن التنظيم لا يزال يمتلك عددا من الآليات التى تمكنه من الحفاظ على وجوده على الساحة لفترة قادمة من الزمن، يمكن تحديد أبرزها في النقاط التالية:
     القدرة على شن الهجمات: من الآليات المهمة التي يمكن أن يعتمد عليها "داعش" في الإبقاء على شعاره "باقية وتتمدد"، خاصة فى سوريا والعراق، هى القدرة على الاستمرار في شن الهجمات الإرهابية، خاصة أنه لا يزال يمتلك عناصر بشرية قادرة على شن تلك الهجمات، على غرار الهجوم الذي شنه التنظيم في 4 مايو 2019، مما أسفر عن بمقتل شخص وإصابة أربعة آخرين وذلك في إحدى مناطق في قضاء الشرقاط بمحافظة صلاح الدين.
 وبالتالي، فان قدرة التنظيم على شن تلك الهجمات تساعده على إثبات وجوده على الساحة، خاصة فى ظل احتفاظ "داعش" بانتشار في البادية السورية المترامية الأطراف والممتدة من شرق حمص (وسط) حتى الحدود العراقية، وبقدرته على تحريك خلايا نائمة في المناطق التي تم طرده منها، تقوم بعمليات خطف ووضع عبوات وتنفيذ اغتيالات وهجمات انتحارية تطول أهدافاً مدنية وعسكرية في آن معاً.
     الانتشار التنظيمي: من الملاحظ أن تنظيم "داعش" قد تخلى خلال الفترة الأخيرة عن استراتيجية "السيطرة الترابية"، من خلال السيطرة على مساحة محددة من الأرض بشكل كامل، والوجود فيها عسكريا وتنظيمياً، وهو ما كان يسهل استهدافه، واستبدالها باستراتيجية "الانتشار التنظيمي"، عبر الوجود العملياتى في عدد من المناطق، لكن دون السيطرة عليها أو الوجود فيها بشكل مستمر، وهو النهج الذي اتبعه تنظيم القاعدة وفروعها المختلفة، وكان من أهم عوامل بقائه حتى الآن. وقد لجأت عناصر "داعش" فى العراق إلى هذا الأسلوب منذ عامين تقريبا، وهو ما كشف عنه العديد من الهجمات، التي تقوم بها العناصر المتسللة من منطقة إلى أخرى، وهو ما دفع السلطات العراقية إلى إطلاق عملية عسكرية فى 2 مايو 2019، لتطهير المنطقة الحدودية مع سوريا من فلول تنظيم "داعش".
      الخلايا النائمة: تعد عناصر "داعش" الخفية وغير المعروفة أمنيا، وهى ما يطلق عليه الخلايا الداعشية النائمة، من آليات التنظيم فى الحفاظ نشاطه الإرهابي، سواء فى المناطق التي كان يسيطر عليها، أو المناطق البعيدة التي يريد أن يكون له فيها نشاط إرهابي، خاصة أن  بعض المناطق لا يزال توجد بها أعداد ممن كان يطلق عليهم "أشبال الخلافة"، والذين يمثلون حالياً موردا بشريا مهما. وبشكل عام، فإن هذه الخلايا صارت تلعب الدور الأكبر في تنفيذ الهجمات الإرهابية، والتي كان من أخطرها هجمات سريلانكا الأخيرة، التى أثبتت أن "داعش" لا تزال لديه القدرة على تجنيد عناصر فى مناطق بعيدة، برغم كل الضربات التى تعرض لها خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
       تعدد الفروع الخارجية: من المؤكد أن تنظيم "داعش" صار يعتمد على فروعه الخارجية بشكل كبير في استمرار نشاطه الارهابى، بعد حالة الانحسار والتراجع التي أصبح يعانيها منذ أكثر من عامين، وأصبحت تلك الفروع بمنزلة القوة الحقيقة للتنظيم، خاصة القوية منها، الموجودة  فى أفغانستان، ونيجيريا، واليمن، وليبيا، لما تتمتع به من نفوذ وانتشار، وهو ما تؤكده تصريحات دان كوتس، مدير الاستخبارات الوطنية في الولايات المتحدة الأمريكية، فى  29 يناير 2019، والتي أشار فيها إلى أن تنظيم "داعش" لا يزال يمتلك ثمانية فروع، وأكثر من 12 شبكة، وآلاف المناصرين المنتشرين حول العالم، رغم خسائره الجسيمة في القيادات والأراضي. وبالتالي ما دامت فروع "داعش" باقية، فستظل خلافاته المزعومة باقية، وستتمكن من جذب العديد من الشباب المتطرف حول العالم.
كما يؤكد تسجيل البغدادي اعتماد "داعش" على فروعه الخارجية فى بقائه ووجوده على الساحة، وهو ما ظهر من خلال استعراض زعيم التنظيم وهو يتصفح ملفات مؤسسة الفرقان، الذراع الإعلامية للتنظيم، وما تضمنته هذه الملفات من عناوين على غرار "ولاية اليمن"، وولاية الصومال"، وولاية "القوقاز"، وأخيرا "ولاية تركيا"، وهو ما يشير إلى أن البغدادي يعلى من قيمة الفروع الخارجية، وما تقوم به من دور فى المحافظة على التنظيم وأفكاره، والحفاظ على تمدده وانتشاره، وهو ما يعوض حالة التراجع الشديد التي يعانيها فى ظل الحرب الدولية المعلنة عليه منذ سنوات.
     المجموعات الداعشية: يبدو أن تنظيم "داعش" لا يعتمد على فروعه فحسب، بل يعتمد أيضا على المجموعات الخارجية - وهى بخلاف الولايات الخارجية- لإثبات وجوده على الساحة الدولية، وذلك عبر تحريضها على شن الهجمات الإرهابية، على غرار الهجمات التى استهدفت سريلانكا، ونفّذها تسعة انتحاريين، وشملت كنائس وفنادق، موقعة أكثر  253 قتيلاً ومئات الجرحى، وهو ما يشير إلى أن المجموعات الداعشية المنتشرة فى عدد من المناطق البعيدة، من العناصر الموالية له، والتي يطلق عليها مجازاً الذئاب الداعشية المنفردة، لديها القدرة على إيجاد وجود للتنظيم فى ظل قدرتها على شن هجمات إرهابية تركز بشكل أساسي على استهداف المدنيين. 
أخيرا، وعلى ضوء ما سبق، يمكن القول إنه برغم القضاء على كل معاقل تنظيم "داعش" فى سوريا والعراق، فإن ذلك لا يعنى نهاية التنظيم، نظراً لأنه يمتلك مجموعة من الآليات التي تساعده على الظهور فى مناطق أخرى، مما يعنى أن المعركة ضد التنظيم لا تزال طويلة، وتحتاج إلى تكاتف الجهود الدولية لمواجهة خطره، ليس من الناحية العسكرية فحسب، وإنما من الناحية الفكرية أيضاً. 
 
 

رابط دائم: