قراءة في المشهد السودانى ما بعد رحيل "البشير" (2 – 3)
14-4-2019

مسلم محمد هنيدى
* باحث في العلوم السياسية
حسبما كان متوقعاً، وعلى عكس ما هندس وأعلن وزير الدفاع السودان، "عوض بن عوف"، على عجل لملامح المرحلة الانتقالية، فى بيانه الأول، الذى ألقاه يوم الخميس 11 أبريل 2019 لعزل "البشير"، أدت  ضغوط وتحركات الشارع السوداني، على مدى اليومين الماضيين، إلى تنحى رئيس المجلس العسكري وزير الدفاع، "عوض بن عوف"، ونائبه، الفريق أول "كمال عبد المعروف"، عن صدارة المشهد، وتعيين المفتش العام للجيش السودانى، الفريق أول "عبد الفتاح البرهان"، خلفاً له، وذلك بعد يوم واحد من الإطاحة برئيس الجمهورية "عمر البشير". 
وقد لقي مجئ "البرهان" قبولاً داخل أوساط القوات المسلحة والمعتصمين، فيما اعتبر"تجمع المهنيين" الذي يقود الحراك هذه الخطوة انتصاراً لإرادة الجماهير، لكنه دعا في الوقت ذاته المحتجين إلى مواصلة اعتصامهم أمام مقر الجيش إلى حين الاستجابة لكل مطالبهم، وفى مقدمتها تسليم السلطة كلياً لإدارة مدنية، وابتعاد الجيش عن تولى زمام الأمور. وكان السودانيون قد واصلوا، قبل هذه الخطوة، اعتصامهم في ساحة القيادة العامة للجيش، مطالبين برحيل كل العسكريين الذين تسلموا مقاليد الحكم مع "بن عوف"، برغم إعلان رغبتهم فى تكوين "حكومة مدنية" من المعارضة والمعتصمين. 
وقطع المجلس العسكري بعدم تسليم "البشير" للمحكمة الجنائية الدولية، التي جددت المطالبة بتسليمه فور الإطاحة به، فيما فاجأ قائد قوات الدعم السريع، "محمد حمدان دقلو" (حميدتي)، الجميع بقبول عضوية المجلس العسكري الانتقالي الجديد، بعد ترشيحه كنائب لـ"البرهان"، معلناً بذلك انحيازه الكامل لصفوف وتطلعات الجماهير، حيث تمر البلاد بمرحلة تاريخية دقيقة وصعبة، تحتاج للعمل المشترك تحت مظلة القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى كجهة قومية موحدة. 
1ـ ملامح إدارة المرحلة فى ضوء تحديد القيادات:
على وقع تلك التطورات، تردد اسم "عبد الفتاح البرهان" كثيراً خلال الأيام الماضية كشخصية توافقية من الممكن أن يعهد اليه بإدارة المرحلة القادمة، بعد أن ظهر في ميدان الاعتصام أمام مقر قيادة القوات المسلحة على مدى اليومين الماضيين ما بعد رحيل "البشير"، إذ كان قائداً للقوات البرية قبل أن يلمع نجمه فجأة بفضل تعديلات كان قد أجراها الرئيس المعزول أخيرا على قيادة القوات المسلحة، حيث عينه مفتشاً عاماً للجيش. وكان قد خاض الكثير من العمليات العسكرية فى حروب الجنوب، حين كان ضابطاً في سلاح المشاة، كما أشرف على القوات السودانية في اليمن، ويعرف عنه "الصرامة والحزم" في التزامه العسكري، وكان ضمن المجموعة التي أبلغت "البشير" بقرار عزله من رئاسة البلاد، فيما لا يعرف عنه سوى أنه لا يرتبط بأي تنظيم سياسي، ولا ينتمي للتيار الإسلامي. ومع نهاية ثالث يوم لرحيل "البشير"، أعاد المجلس الانتقالى هيكلة نفسه كاستجابة لتطلعات الجماهير، وأدى أعضاؤه القسم أمام رئيس المجلس الجديد، وهم: 
الفريق أول "محمد حمدان دقلو موسى" نائباً للرئيس بموجب المرسوم الدستوري رقم 6 لسنة 2019.
الفريق الركن "شمس الدين كباشي إبراهيم شنتو" عضواً وناطقاً رسمياً باسم المجلس.
الفريق أول ركن "عمر زين العابدين محمد الشيخ" عضواً.
الفريق أول شرطة الطيب "بابكر علي فضيل" عضواً.
الفريق طيار ركن "صلاح عبد الخالق سعيد علي" عضواً.
الفريق الركن "جلال الدين الشيخ الطيب" عضواً.
الفريق الركن "ياسر عبد الرحمن حسن العطا" عضواً.
الفريق الركن "مصطفى محمد مصطفى أحمد" عضواً.
اللواء بحري مهندس مستشار "إبراهيم جابر إبراهيم" عضواً.
وفى حين عيّن "البرهان" قائد قوات الدعم السريع، الفريق "محمد حمدان"، نائباً له فى المجلس العسكري الانتقالي في السودان، بعد أن اعتذر عن عدم المشاركة في المجلس السابق تحت رئاسة "بن عوف"، فقد جدّد "حميدتي" من موقعه داخل المجلس تأكيد ضرورة الاستجابة لمطالب الشعب السوداني، والتى من بينها إنشاء محاكم خاصة لمكافحة الفساد، وفتح باب الحوار مع مختلف شرائح المجتمع، والإسراع في تنظيم لقاءات مع قيادات ورؤساء الأحزاب السياسية وتجمّع المهنيين، وقادة الشباب، وقيادات تنظيمات المجتمع المدني، مع وضع برنامج واضح لفترة انتقالية لا تزيد على ثلاثة إلى ستة أشهر، يتم خلالها تنقيح الدستور من خلال لجنة صياغة تشارك فيها جميع قوى السودان، وتشكيل مجلس انتقالي، يكون التمثيل فيه عسكرياً، ومجلس وزراء حكومة مدنية، يتم الاتفاق عليه بواسطة الأحزاب وتجمّع المهنيين، ومنظمات المجتمع المدني، وقادة الشباب والمرأة، وفق الحراك، على أن تكون مهمة المجلس التركيز على إنقاذ الوضع الاقتصادي، وتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين، والإشراف على لجنة صياغة تنقيح الدستور من دون التدخل في مهامه. كما طالب قائد الدعم السريع  كذلك بضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة، وفق رقابة محلية ودولية ووفق قانون انتخابات يتفق عليه الجميع. وتعهد "حميدتي" بأن تظل قواته منحازة لخيارات الشعب السوداني بمختلف أطيافه، كما ستظل جزءًا من القوات المسلحة السودانية، تستهدف العمل لوحدة البلاد، واحترام حقوق الإنسان وحماية الشعب.
2ـ مراجعات ومواءمات سلطة الانتقال:
عقب فشل رؤية "بن عوف" التى أعلن بنودها فى بيانه الأول فى الاستجابة لطموحات المعتصمين، والتى دفعتهم الى التصعيد والتمسك بالميدان كما طالبوا برحيله، وهو ما تم فعلاً كخطوة لتهدئة الموقف والاستجابة لضغط الميدان، أصدر الرئيس الجديد للمجلس الانتقالي"عبد الفتاح البرهان"، عقب أدائه اليمين الدستورية، قراراً أطلق بموجبه سراح جميع الضباط الذين حموا المتظاهرين ودعا المحتجين للاجتماع.
كما صدق "البرهان" فى أول قراراته على استقالة الفريق أول "صلاح قوش" من منصب رئيس جهاز الأمن والاستخبارات الوطني، كونه يعد من أبرز وجوه النظام السابق المرفوضين فى مشهد ما بعد "البشير"، والذى كان يشغل منصب رئيس جهاز الأمن القومي السوداني، ومستشاراً للرئيس حتى أغسطس 2009، كما حكم عليه في 2012 بالسجن بعد إدانته بالتخطيط للانقلاب، لكن "البشير" أفرج عنه لاحقاً بموجب عفو رئاسي، وعاد وعينه في فبراير 2018 مديرا مرة أخرى لجهاز المخابرات.
وفى خطوة منه لإعادة رسم ملامح المرحلة الانتقالية المقبلة، التى سيتولى مهامه فى سبيل تحقيقيها كخريطة طريق لخروج البلاد من نفق الفوضى وإعادة بناء النظام والمؤسسات، أقر رئيس المجلس العسكرى الانتقالي الجديد في بيانه الأول، الذى تلاه من وزارة الدفاع يوم السبت 13 أبريل، عدداً من النقاط تضمنت:
تشكيل حكومة عسكرية لتمثيل سيادة الدولة وتشكيل حكومة أخرى مدنية متفق عليها من الجميع كخطوة تمهد لإرساء دعائم حكم مدني قويم، وفق فترة انتقالية مدتها عامان كحد أقصي، يتم خلالها أو في نهايتها تسليم حكم الدولة لحكومة مدنية مشكلة من قبل الشعب.
إعادة هيكلة ومراجعة مؤسسات الدولة المختلفة من وزارات ومؤسسات وهيئات وخلافها لما يتفق والقانون، والتي كانت تقوم على المحسوبية والمحاصصة الحزبية، ومحاسبة كل من ثبت تورطه في سفك الدماء وإزهاق أرواح الأبرياء من المواطنين الشرفاء، كما سيولي المجلس الاهتمام اللازم بترقية وتعزيز وحماية حقوق الإنسان وفقاً للمواثيق الدولية والإقليمية التي صدق عليها السودان.
الالتزام بفرض الأمن وتوفير الخدمات للمواطنين وتهيئة المناخ السياسي لكل مكونات الشعب، وإلغاء حظر التجوال، وإطلاق سراح جميع المعتقلين بموجب قانون الطوارئ، أو خلال المظاهرات، بالإضافة إلى إنهاء تكليف الولاة، وتكليف قاده الفرق بتسيير شئون الولايات، حيث سيحارب المجلس الفساد، وكل من أضر بالمال العام، وعلى حاملي السلاح المشاركة في إقرار السلام وفق الأسس الجديدة.
في سبيل سعي المجلس العسكري للاستماع لوجهات النظر لمختلف القوى السياسية، فقد تقرر عقد لقاء للقوى السياسية مع اللجنة العسكرية السياسية، بحيث إنه على كل حزب سياسي تسليم خطاب بعدد ممثلين مفوضين من الحزب لحضور اللقاء، على أن تتم برمجة اللقاءات القادمة مع القوى السياسية لاحقاً بعد تسليم خطابات التفويض لممثلى اللجنة.
3ـ موقف القوى المتمسكة بالميدان:
تباينت ردود فعل القوى المختلفة حول تلك التحركات بين مؤيد على مضض، ورافض بالكلية لهذه الترتيبات. وفى حين ظل فى مقدمة القوى الرافضة لهذه الخطوات الكيان الأبرز لـ"تجمع المهنيين"، والممثل لقوى التغيير، وطالب فى بيان جماهيره، بالعاصمة الخرطوم والمناطق الحدودية للحشد، بمواصلة الاعتصام في ميدان القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة، وأعلن ثلاثة شروط لفض اعتصامه أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، ونصت مطالبه التي طرحها باسم "قوى إعلان الحرية والتغيير" على ضمان عملية النقل الفوري للسلطة إلى حكومة مدنية انتقالية، عبر المجلس القيادي لقوى إعلان الحرية والتغيير، كما شملت إلغاء أي قرارات تعسفية من قيادات لا تمثلها ولا تمثل الشعب، والتحفظ على جميع رموز السلطة الماضية من المتورطين في جرائم ضد الشعب.
إلا أنه وفى محاولة منه لإمساك العصا من المنتصف، أبدى التجمع استجابة حذرة لهذه التحركات، وأصدر بيانا آخر أشار فيه إلى تلبية الدعوة التى تلقاها من قيادة القوات المسلحة للاجتماع والجلوس إلى طاولة التفاوض، بهدف ترتيب الانتقال لسلطة مدنية انتقالية، تنفذ بنود إعلان الحرية والتغيير كاملةً، وفقاً لمطالب الثوار، وهو البيان الذى تضمن لأول مرة تحديد عشرة أسماء بعينها من قياداته التى ستمثل التجمع فى المفاوضات، مؤكداً أنه لن يقبل بغير العدالة والمحاسبة والتعويض لكل المتضررين من الحرب والنزاعات.
وقد انتهى الاجتماع التشاوري الأول بين القوى السياسية السودانية والمجلس العسكري، وقدم رئيس حزب المؤتمر السوداني "عمر الدقير" خلاله العديد من المطالب التي اتفقت عليها القوى الثورية، وكان من بينها ضرورة إصدار المجلس الانتقالي قراراً لإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات، بالإضافة إلى إعادة هيكلة جهاز الأمن التابع للنظام، وتنفيذ وعود رئيس المجلس العسكري بإطلاق سراح كل شباب "دارفور والبوشي وود قلبا" وجميع المعتقلين، وتشكيل حكومة مدنية بصلاحيات تنفيذية كاملة، مع ضرورة مشاركة مدنيين في المجلس الرئاسي الانتقالي مع المجلس العسكري، وسيتقدم المشاركون قائمة لرئيس المجلس العسكري تشمل أسماء المدنيين الذين يرغبون في إشراكهم في المجلس الرئاسي الانتقالي.
4ـ حدود التأثير الخارجى فى الأجواء:
رغم رفع الحكومة الأمريكية لمعظم عقوباتها الاقتصادية المفروضة على السودان منذ التسعينيات في فبراير 2017، مع إبقائه في قائمة الدول الراعية للإرهاب، ظل الاقتصاد السودانى مخنوقاً ومنهكاً من تبعات الاقتراض والديون المتراكمة، ونزيف الخلل الهيكلى المزمن فى القطاعات الكلية للاقتصاد، ما بعد انفصال الجنوب وخسارة الخرطوم لعوائد أغلب بترول البلاد. فطبقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، يبلغ الدين العام الخارجي على السودان نحو 55 مليار دولار، بما يشكل نحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي. ومن ثم، فقد ظل القرار السياسى والاقتصادى لنظام "البشير" هشاً أمام التقلبات الداخلية والخارجية، بما عكسه هذا الوضع الشائك من تبعات عدم رشد واستقلالية القرارات التى أقدم عليها الرئيس "البشير" على مدى السنوات الأخيرة، حتى تسبب هذا الوضع المأزوم فى سقوط النظام. ومن ثم، أثار قرار رحيل الرئيس "البشير" - بالإضافة الى التبعات والضغوط السياسية على كل من المستوى المحلى والإقليمى والدولى- اهتماماً كبيراً كاشفاً لواقع الأزمات المزمنة التى يعانيها اقتصاد البلاد. 
فبينما يواصل الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو جوتيريش" متابعة الوضع المتطور في السودان عن كثب، مطالباً بـتجنب الإجراءات التي تقوض أمن واستقرار البلد، أو تؤثر فى تقديم المساعدة الإنسانية. وأشار إلى أن العملية المختلطة للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي (يوناميد) ترصد الوضع في دارفور عن كثب، حيث يجري الإبلاغ عن توترات في مواقع عدة، وهي تقوم بدوريات وتنخرط مع كل الجهات الفاعلة على الأرض، بما في ذلك قوات الأمن، وكذلك الأشخاص المشردون داخلياً.
كما طالب الأعضاء الـ15 لمجلس الأمن الدولي بـالحفاظ على الطابع السلمي للتغيير في السودان، مشددين على ضرورة حصول عملية انتقالية للسلطة المدنية، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يؤدي إلى العنف، بما يلبي التطلعات المشروعة للشعب السوداني، وطبقاً لروح الدستور والقوانين المدنية المرعية في البلاد. بينما نقل نائب المندوب السوداني الدائم لدى الأمم المتحدة، "ياسر عبد الله عبد السلام"، عن المجلس العسكري أن ما حدث ليس انقلاباً، وإنما انحياز لرغبة الجماهير، وأن هناك إمكانية لتقصير أمد الفترة الانتقالية الراهنة.
جاء ذلك خلال جلسة طارئة مغلقة عقدها أعضاء المجلس، استمعوا خلالها إلى إحاطة من الأمينة العامة المساعدة للأمم المتحدة لشئون إفريقيا "بنتو كيتا" حول أحدث التطورات الجارية. وفى حين عبرت الدول الأوروبية الأعضاء، خلال الجلسة، عن موقف موحد يؤكد أنها "تراقب الوضع عن كثب"، مشددة على ضرورة حصول انتقال سلمي للسلطة إلى المدنيين بما يلبي طموحات وتطلعات الشعب السوداني، واعتبرت الدول الغربية أن مجرد انعقاد مجلس الأمن يوجه رسالة قوية إلى القوى الفاعلة في السودان، فيما بدا وكأنه رسالة إلى المجلس العسكري، فإن بعض الدول، وفي مقدمتها روسيا، رفضت استصدار المجلس لأي موقف رسمي في الوقت الراهن، حيث لا يزال الوضع متأرجحا في هذا البلد العربي الإفريقي.
كما طالبت المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، "ميشيل باشيليت"، في بيان وزع في كل من نيويورك وجنيف، السلطات السودانية بالامتناع عن استخدام القوة ضد المتظاهرين، وضمان تصرف قوات الأمن والسلطات القضائية وفقاً لسيادة القانون، والتزامات السودان الدولية بحقوق الإنسان.
عربياً، لم يخرج الأمر عن إقرار عام بأن ما يحدث بالسودان شأن داخلي يعبر عن رغبة وتطلعات الجماهير. وفى السياق ذاته، أصدرت الخارجية المصرية بياناً أكدت فيه دعمها الكامل لكل تطلعات الشعب السودانى، كما قدمت يد العون للسلطة الانتقالية، حتى يتمكن السودان الشقيق من عبور هذه المرحلة بسلام. أما إفريقياً، فقد حذر الاتحاد الإفريقى من خطورة انزلاق البلاد إلى مخاطر العنف والمواجهة المسلحة بين الجميع، مطالباً بسرعة الانتهاء من ترتيبات الأوضاع الانتقالية وفق الدستور والقانون، على أن يتم تسليم السلطة الى حكومة مدنية منتخبة عما قريب.
5 ـ مستقبل المرحلة فى ضوء التوازنات:
إذن وفى ضوء ما سبق عرضه من ترتيبات، وباستثناء المحاولات البائسة لبعض القوى الدولية التي تحاول التأثير والتحكم في مجريات التغيير في الداخل السوداني، بهدف تعكيرها أو عرقلتها فى السودان، فى سياق مواصلة دعمها اليائس لعناصر تنظيم الإخوان فى كل مكان، لا يبدو سودان ما بعد "البشير" معرضاً لتدخلات تنافسية حادة من قبل المحاور الدولية والإقليمية، التى اعتدنا على أدوارها المرفوضة فى الدول التى تعرضت لموجات ثورية ما بعد 2011، وذلك لعدم وجود علاقة مباشرة فاعلة لتلك القوى بما يجرى فى الشارع السودانى الآن، من حراك امتد لأربعة أشهر أو يزيد، فى ظل ما تشهده التحركات السابقة لتلك القوى من تراجعات حادة فى سوريا، وليبيا، وتونس، والجزائر، وفلسطين، بل وداخل حدودها الداخلية من اضطربات وتراجعات، وكذلك لعدم وجود فاتورة على سلطات ما بعد "البشير" تستوجب السداد العاجل لأي من تلك الأطراف، وكذا لانشغال دول الجوار السودانى بترتيبات أوضاعها الداخلية، دون الرغبة فى التدخل فى خصوصيات السودان كبلد جار وشقيق، إلا بما يدعم تطلعات الجماهير السودانية التى خرجت تنادى بالتغيير، وما يعجل من تحقيق الاستقرار المنشود لضمان سد جبهة لا جدوى من إشعالها على حدودها فى هذا التوقيت.
ومن ثم، لم يتبق من القوى، التى يمكن أن تكون لها بقايا قنوات مضادة مفتوحة مع أطراف إقليمية أو دولية، سوى بقايا النظام السابق من "الإخوان المسلمين"، و"جبهة الإنقاذ" داخل السودان. ورغم قوة هذا المحور وتمكنه من مفاصل الدولة السودانية، سياسياً، واقتصادياً، وثقافياً، واجتماعياً، وفكرياً، على مدى ثلاثة عقود، فلن يكون لهم دور مانع للتغيير، لأن واقع المرحلة الرافض لأى وجود لهم فى مستقبل السودان سيتمكن من تحييد دورهم السلبى فى عملية التغيير المنشود، ولن يكون متاحا أمامهم سوى الانكماش والانصياع لرغبات التغيير، أو الدخول فى مواجهة مفتوحة مع الشعب السودانى الساخط الرافض بشكل حاسم لأى دور مستقبلى لهم فى سودان ما بعد "البشير".
 ولكن المعضلة ستأخذ مزيداً من الوقت من شعب السودان، حتى يتمكن من محاصرة وتفكيك العلاقات الأخطبوطية التى نسجها هذا التنظيم فى السودان على مدى ثلاثة عقود أو يزيد، فى إطار محاولاته المستميتة للسيطرة على المجتمع السودانى كترجمة عملية لسياسة التمكين.
ولعل ما سيمكن الشعب السودانى فى النجاح من خوض هذه التجربة المريرة فى مواجهة وتصفية هذا النظام عدد من المحفزات، أولها فشل تجربة نظام الإنقاذ فى خلق نموذج ناجح يمكن أن يشفع لها عند الجماهير الرافضة الساخطة التى انقلبت عليها، ونجحت فى تغييرها رغم طول فترة بقائها فى الحكم والتمكين. ثانى تلك المحفزات هو السياق العام العربى والإقليمى والدولى الرافض لفكر تنظيم الإخوان الداعم للإرهاب، والذى أسقطها وحاصرها فى مصر وليبيا وسوريا، فى ظل تقوقع محور الشر الداعم لبقائها فى المنطقة كل هذه السنوات. أما ثالث هذه المحفزات، وهو الأهم، فلا خلاف على أن ما حدث فى السودان جاء انعكاساً، فى بعض من تجلياته المرحلية، لما حدث فى مصر ما بعد ثورة 30 من يونيو، وسقوط حكم تنظيم الإخوان، ومن ثم انكشاف ظهر التنظيم فى السودان، ما بعد افتقاده الحاضنة الفكرية والحركية الأولى، ممثلةً في الحركة الأم في مصر، ومكتب الإرشاد العام. فقد انتشرت عدوى الفشل والسقوط فى مصر إلى غيرها من البلاد، وفى مقدمتها السودان.
ومن هنا، سيعزز أى نجاح قادم للدولة المصرية فى مواجهة التنظيم، وفضح عمالته، وارتهانه فى تنفيذ أجندات الخارج المعادى للمصالح والحقوق العربية فى المنطقة والعالم، من قدرات وتحركات الداخل السودانى الثائر الرافض لبقاء فكر وحركة هذا التنظيم فى البلاد. وسيشهد قادم الأيام مخاضا عسيرا لعملية إعادة بناء السودان الجديد، فى ظل ما عاناه وسيعانيه هذا البلد من ضغوط وأزمات اقتصادية حادة ستعجل من سرعة التغيير.
 

رابط دائم: