مصر والريادة الإقليمية.. تاريخ وتحديات ومستقبل واعد (2-3)
4-4-2019

د. شيماء سراج عمارة
* دكتوراه في الاقتصاد وخبير تقييم مشروعات
تحدثنا في الجزء الأول من مقال "مصر والريادة الإقليمية" عن أهمية موقع مصر الجغرافي، فهي بمنزلة نقطة المركز بالنسبة للكرة الأرضية. لذا من يرد التحكم والوصول إلى أطراف العالم، فسيحرص على وجوده في نقطة المركز، وهي مصر، وهو الأمر الذي يفسر كونها مطمعا عالمياً على مر العصور. إلا أن التاريخ سجل وبكل قوة تغلب الإرادة المصرية على القوى الاستعمارية. كما ركزنا العرض على أهم ملامح تاريخ مصر في الريادة الإقليمية، سواء أكانت ريادة عربية، أم إسلامية، أم إفريقية، والتي تطورت في كثير من الفترات الزمنية لتصل إلى الريادة العالمية.
 
ونستكمل سلسلة مقالات "مصر والريادة الإقليمية" لنتناول من خلال الجزء الثاني التحديات المختلفة التي اعترضت طريق الريادة المصرية، وألقت بظلالها السلبية على الاقتصاد المصري، لنركز تحديداً على أهم التحديات الاقتصادية التي واجهت الريادة الإقليمية المصرية بعد عام 1952.
ولكن يجب أن نوضح لماذا سيتم التركيز على تلك التحديات بعد عام 1952 وليس قبلها؟ الإجابة ببساطة تكمن في أن هذا التاريخ هو نهاية الحكم الملكي على مصر، والذي تلاه جلاء الاستعمار الإنجليزي، لتبدأ مصر مرحلة جديدة من الريادة الإقليمية، ليعترض طريق تلك الريادة عدد من التحديات والإخفاقات، والتي انعكست بلا شك على مسيرة التنمية الاقتصادية.
 
فخلال حقبة الستينيات، شاركت مصر في حرب اليمن، وساندت التوجهات التحررية لكثير من الدول العربية والإفريقية، واختتمت تلك الحقبة بنكسة 1967. فعلى قدر ما كانت مصر فيها على قمة الريادة الإقليمية العربية والإفريقية خلال حقبة الستينات، فإن الآثار السلبية لتكلفة تلك الريادة، المتمثلة في تدعيم الثورات والحروب الاستقلالية في الدول العربية والإفريقية، والتي تمت الإشارة إليها باستفاضة في الجزء الأول من المقال، قد أرهقت الاقتصاد المصري لتحيده عن تحقيق النمو المنشود، وتترك درساً قاسياً يحمل بين طياته أن الاهتمام بالريادة الإقليمية يجب ألا يأتي على حساب التنمية الاقتصادية الداخلية.
وخلال حقبة السبعينيات، كان الاستعداد المصري لخوض حرب الكرامة عام1973 والتي تحملت مصر تكاليفها، من خلال التوجه إلى الاقتراض، ليصل حجم القروض إلى نحو 3 مليارات دولار، بالإضافة إلى الديون العسكرية من الاتحاد السوفيتي السابق، والتي بلغت نحو  مليارى دولار، وهو الأمر الذي أثقل كاهل الاقتصاد المصري بالديون، لتنتهي حقبة السبعينيات بتوقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، لتعتبرها الدول العربية خيانة للقضية الفلسطينية، ويظهر تحدٍ واضح معرقل للريادة الإقليمية المصرية، من خلال قطع العلاقات العربية المصرية، وتغيير مقر جامعة الدول العربية من مصر لينقل إلى تونس عام 1979، لتبتعد مصر عن ساحة الريادة الإقليمية العربية عقب نقل مقر جامعة الدول العربية.
وبعد وفاة الرئيس الأسبق السادات، بدأت العلاقات العربية المصرية في العودة شيئاً فشيئاً خلال حقبة الثمانينيات، ليمر الاقتصاد المصري بتحدٍ اقتصادي جديد خلال حقبة التسعينات، لتأتي حرب الخليج لتتوج الكبوات التي عصفت بالاقتصاد المصري، لتشكل عنصر ضغط على الاقتصاد المصري نتيجة عودة العمالة المصرية من الخليج، والبالغ عددها نحو نصف مليون عامل، لتتوقف تحويلات العاملين الخارجية من النقد الأجنبي، والتي بلغت نحو 3 مليارات دولار كمصدر دخل أجنبي للاقتصاد المصري، وهو الأمر المصاحب لتدهور الأنشطة الاستثمارية والصناعية والتجارية، وانهيار الصادرات والسياحة ورسوم عبور السفن التجارية لقناة السويس، وهو الأمر الذي انعكس على الوضع الاقتصادي السلبي في مصر في تلك الفترة. كما أصبحت المنطقة العربية بأسرها منطقة اضطرابات، إذ قدرت خسائر الدول العربية من تلك الحرب بما يفوق 650 مليار دولار. وإيماناً بدور مصر الرائد في إعادة التوازن للمنطقة العربية، قررت دول الخليج إسقاط ديون مصر المستحقة لديها، والتي قدرت بنحو 7 مليارات دولار، بالإضافة إلى الاتفاق على عودة مقر جامعة الدول العربية مجدداً إلى القاهرة، لتسترد مصر ريادتها الإقليمية العربية مرة أخرى.
 
ومن التحديات المؤثرة فى الريادة الإقليمية المصرية، نجد أن أحداث محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق في أديس أبابا، خلال عام 1995، جاءت كنقطة مؤثرة ليخيم التوتر على العلاقات بين مصر ودول القارة السمراء، لتفقد مصر ريادتها الإفريقية، لتتسع الفجوة بين مصر وأشقائها من دول القارة الإفريقية خلال عام 2002، وذلك بعد اختيار مقر الاتحاد الإفريقي أديس أبابا بإثيوبيا، ليكون خلفاً لمنظمة الوحدة الإفريقية، التي ساندت مصر إنشاءها عام 1963، ليستهدف مناقشة القضايا التي تطرأ على الساحة الإفريقية، ويسعى لتحقيق الأمن والسلام لدول القارة السمراء، وتعزيز أوجه التنمية المختلفة فيها، لينسحب بساط الريادة الإفريقية من مصر شيئاً فشيئاً منذ ذلك التاريخ.
 
ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، عصفت بالمنطقة العربية ما سموه "الربيع العربي"، فهو إحدى أهم العثرات التي مر بها الاقتصاد المصري ولا يمكن إغفالها، ليؤثر هذا الربيع فى الاقتصاد المصري الداخلي. وكنتيجة للوهن الاقتصادي، والترهل السياسي، فقدت مصر جزءاً لا يستهان به من الريادة الإقليمية العربية، وانتهى ما تبقى لديها من تاريخ متعلق بالريادة الإفريقية. إلا أن السرعة في استعادة التوازن السياسي الداخلي، عقب ثورة 30 يونيو 2013، أسهم بشكل كبير في جمع أواصر الريادة الإقليمية العربية، وهو الأمر الذي أيدته وبقوة دول الخليج، التي تؤمن بأن استعادة مصر لقوتها يعد صمام أمان لباقي المنطقة العربية بأسرها.
 
إلا أن الامر ظل غير واضح بالنسبة إلى الدول الإفريقية، نتيجة العزلة الإقليمية الإفريقية التي فرضتها مصر على نفسها منذ عام 1995، ليتم تعليق عضوية مصر في الاتحاد الإفريقي في يوليو 2013. وباتضاح الرؤية عقب الانتخابات الرئاسية في يونيو 2014، تستأنف مصر عضويتها في الاتحاد الإفريقي مجدداً، لتتوج برئاسته عام 2019.
تلك هي الريادة التاريخية لمصر على مر العصور، والتي تناولناها في الجزء الأول من المقال، وتلك هي التحديات والعثرات التي مرت بالريادة الإقليمية المصرية، سواء العربية منها أو الإفريقية، بدءاً من عام 1952، سواء أكانت تلك العثرات ناتجة عن سوء تقدير داخلي لأولويات التنمية الاقتصادية، أو ناتجة عن ظروف خارجية محيطة، لكن الأمر سرعان ما كان يعود لأفضل مما كان عليه. وسنناقش في المقال القادم، بإذن الله، المستقبل الواعد للريادة المصرية، بدءاً من عام 2014.
 

رابط دائم: