مصر في مؤتمر ميونيخ 2019 ... قراءة فى الرؤية والمنطلقات
26-2-2019

د. أحمد حسن
* باحث في العلاقات الدولية
على مدى ثلاثة أيام (15- 17 فبراير 2019)، جرت فاعليات الدورة الخامسة والخمسين لمؤتمر ميونخ للأمن. ورغم أن هذا المؤتمر غير رسمى، فإنه يحظى بأهمية دولية كبرى تكمن في كونه منصة عالمية مهمة، تتيح لكبار الفاعلين السياسيين فرصة للتواصل لبحث ومناقشة القضايا الأمنية والسياسية، وهو ما يتضح من مستوى ونطاق المشاركة في دورة هذا العام، إذ شارك فى فعاليات المؤتمر 35 من رؤساء الدول والحكومات، و50 من وزراء الخارجية، و30 من وزراء الدفاع، و600 من الخبراء العسكريين والأمنيين والدبلوماسيين والاستراتيجيين. وحفلت أجندة المؤتمر بعديد من القضايا العالمية والإقليمية، فى مقدمتها مراجعة الروابط الأوروبية- الأمريكية، والتنافس الصيني- الأمريكي، والعلاقات الروسية- الأمريكية، والملف النووى الإيرانى، والملف السورى. 
ومن أهم ما شهدته فاعليات هذه الدورة للمؤتمر مشاركة الرئيس عبدالفتاح السيسى للمرة الأولى منذ توليه الرئاسة عام 2014. وللمرة الأولى في تاريخ المؤتمر منذ تأسيسه عام 1963، يُخصص وقت لكلمة رئيس دولة غير أوروبية في الجلسة الرئيسة للمؤتمر، تأكيدا على المكانة التى يحظى بها الرئيس المصرى لدى المجتمع الدولي، فضلًا عن الأهمية التي تعلقها تلك الدوائر كذلك على الدور المصرى، ليس فقط فى المنطقة العربية أو منطقة الشرق الأوسط، وإنما فى القارة الإفريقية، على خلفية تولى مصر رئاسة الاتحاد الإفريقي. وكان خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسى واحدا من أهم الخطابات التى أُلقيت فى الجلسة الرئيسة للمؤتمر، نظرا لما حمله من مضامين عدة، عبرت عن ثوابت السياسة الخارجية المصرية، وكذلك عن منطلقات ورؤى ومواقف مصر حيال  مختلف القضايا محل اهتمام المؤتمر على المستويات كافة دوليا وإقليميا. 
ويمكن رصد مضامين ودلالات الحضور المصري البارز في المؤتمر، من خلال أربعة محاور رئيسية على النحو الآتى: 
1- ثوابت السياسة الخارجية المصرية: عكست مشاركة مصر في المؤتمر، من خلال كلمة الرئيس ونشاطاته المتنوعة، مجموعة من ثوابت السياسة المصرية، تتمثل فى الحفاظ على الدولة الوطنية وتماسك مؤسساتها، وتعزيز التعاون الدولي فى مجال محاربة الارهاب والقضاء على جميع التنظيمات الارهابية والميليشيات المسلحة، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية للدول واحترام سيادتها واستقلاليتها وسلامة أراضيها، وترسيخ الحوكمة الرشيدة وحماية حقوق الإنسان بمفهومها الشامل، وتمكين المرأة التي تعد نصف المجتمع. 
2- تعزيز العمل الإفريقي المشترك: وذلك من خلال العمل على دفع التكامل الاقتصادي الإقليمي على مستوى القارة، عبر التركيز على زيادة الاستثمارات في مجال البنية التحتية، وتسهيل حركة التجارة البينية من خلال الإسراع بإدخال اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية حيز التنفيذ، فضلاً عن الاستمرار في وضع برامج وخطط التنمية المستدامة في إطار أجندة إفريقيا 2063 موضع التخطيط والتنفيذ المتدرج والفعال، مع تأكيد أن نجاح هذه البرامج والخطط يظل مرهونا بكيفية تحقيق الاستقرار في مختلف ربوع القارة. لذا، جاء المقترح المصرى، بالتعاون مع مفوضية الاتحاد الإفريقي، لتدشين "مركز الاتحاد الإفريقي لإعادة الإعمار والتنمية" بالقاهرة، حيث يقوم هذا المركز بمساعدة الدول التي خرجت أخيرا من النزاعات المسلحة، لتقييم احتياجاتها، وبلورة تصورها الوطني لمسار إعادة الإعمار.
3- المسار السياسى لأزمات المنطقة وصراعاتها: أكدت مصر تمسك مصر بالمسار السياسى لحل مختلف أزمات المنطقة. واحتلت الأزمة الليبية أهمية خاصة، كونها من أهم القضايا المُلحة على الساحة الإفريقية، إذ أكد الرئيس أهمية تقديم الدعم اللازم للمسار السياسي ولجهود المبعوث الأممي، والعمل على دعم وتمكين مؤسسات الدولة بما في ذلك المؤسسة العسكرية.
4- وفى السياق ذاته، جاء الحديث عن القضية الفلسطينية، كونها مصدرا رئيسا لكل الصراعات فى منطقة الشرق الاوسط. ولذا، طالبت مصر بضرورة العمل على تضافر حقيقي لجهود المجتمع الدولي لوضع حد للصراع، وفقاً للمرجعيات الدولية ذات الصلة والمتوافق عليها، وإعمالاً لمبدأ حل الدولتين، وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وتنطلق رؤية مصر من أن التوصل إلى حل عادل ونهائى لهذه القضية من شأنه أن يُشكل بداية فعلية للتوصل إلى حلول ناجعة للصراعات الأخرى.
5- اللاجئون والهجرة غير الشرعية: لم يكن من الممكن عند الحديث عن قضايا القارة الافريقية وهمومها ألا يركز الرئيس في مشاركته على قضيتي الهجرة واللاجئين، كونهما من القضايا الإنسانية الأكثر إيلاما للجميع، وأن معالجتهما تتطلب حلولا غير نمطية وأفكارا غير تقليدية، شريطة أن تأخذ هذه الحلول فى حسبانها جذور الأزمات المسببة لهما، وتسعى فى الوقت ذاته لتخفيف المعاناة الإنسانية المصاحبة لهما.
وتظل التجربة المصرية فى هذا الخصوص تجربة متفردة، إذ نجحت الجهود التي بذلتها مصر في وقف أي محاولات للهجرة غير الشرعية عبر شواطئها منذ سبتمبر 2016، كما دخلت في آليات حوار ثنائية مع عدد من الدول الأوروبية لتأسيس تعاون ثنائي للتعامل مع تلك القضية، ليس فقط من حيث تداعياتها، بل وبحث سبل التغلب عليها وعلى أسبابها، فضلاً عن استضافتها للملايين من اللاجئين يعيشون باندماج كامل في المجتمع المصري، دون أي دعم خارجي ملموس، ودون أى متاجرة بهذه القضية الانسانية. 
 
منتدى أسوان للأمن والتنمية.. انطلاقة جديدة: 
فى ظل العلاقة الارتباطية بين قضايا الأمن والسلام من جانب، ورفاهية الشعوب وتنميتها من جانب آخر، وإدراكا من الرئيس عبدالفتاح السيسى لأن نجاح هذه العلاقة يتطلب تضافر الجهود الدولية، وتعزيز مسارات وآليات الحوار العالمى ذات الصلة بقضايا الأمن والسلم، جاءت مبادرته بتدشين "منتدى أسوان للأمن والتنمية المستدامة"، التى ستعقد دورته الأولى نهاية 2019. وحدد الرئيس هدف المنتدى فى أن يكون منصة دولية لبحث سبل تعزيز الترابط بين السلام والتنمية، وبلورة تصورات مفاهيمية وأطروحات عملية لبرامج تنموية انتقالية لتعزيز ثقافة السلام، ودفع جهود إعادة البناء والإعمار في مرحلة ما بعد النزاعات.
ومن الجدير بالإشارة أن إطلاق هذا المنتدى الدولى، الذى يحمل اسم "أسوان" على وجه التحديد، وفى هذا التوقيت تحديدا، يحمل دلالتين مهمتين، تتعلق الأولى بقرار الرئيس اختيار محافظة أسوان عام 2017 عاصمة إفريقيا للاقتصاد والثقافة. وفى عام 2019، تم اختيارها أيضا عاصمة إفريقيا للشباب، وهو ما يعطى تأكيدا للرؤية التى حملها الخطاب فى ربطه بين تنمية القارة الإفريقية، وضرورة الحفاظ على الامن والاستقرار فى ربوعها. أما الدلالة الثانية، فتتعلق بمكانة محافظة أسوان عبر التاريخ، فهى إلى جانب كونها جوهرة النيل، فإنها بوابة مصر لإفريقيا وهمزة الوصل والربط بين مصر والقارة الافريقية، بما يجعلها فى المدى الأبعد همزة الربط بين قارتى المتوسط (أوروبا وإفريقيا). 
نهاية القول، ستمثل مشاركة مصر على المستوى الرئاسي فى مؤتمر ميونيخ للأمن هذا العام علامة فارقة فى مسار العلاقة بين ضفتى المتوسط، بما تضمنته من رؤى بشأن القضايا التى ترتبط بأمن الأطراف كافة، خاصة فيما يتعلق بقضيتى الإرهاب والهجرة غير الشرعية. كما تميزت المشاركة المصرية بشمولية رؤيتها، وعمق مواقفها، خصوصاً في التحذير من مغبة التحديات التى تواجه العالم بأسره، سواء تلك المرتبطة بتفشي مخاطر الإرهاب والتطرف، وتصاعد مُعدلات الجريمة المنظمة، أو تلك الناجمة عما يشهده النظام الدولي من استقطاب وتصاعد في حدة المواجهات السياسية، أو تلك المتعلقة بتحديات الطبيعة وتغيراتها، كتغير المناخ، والتصحر، ونقص المياه، وتأكيد أن مواجهة هذه التحديات تفوق قدرة أي دولة، أو تجمع محدود على مواجهتها لكونها صارت لا تعترف بالحدود الجغرافية، وبات تأثيرها يشمل الجميع، وهو ما يتطلب العمل على تعزيز الجهود الدولية المشتركة.
 

رابط دائم: