إشكالية الفن والسياسة في عصر المعلوماتية
26-2-2019

د. رانيا يحيى
* رئيس قسم فلسفة الفن وعلومه بأكاديمية الفنون، عضو المجلس القومى للمرأة
الفن إبداع لا متناه، يتضمن قيم الحق والخير والجمال، وعادة ما يرسم المبدع لوحته الإبداعية فى أى من مجالات الفنون ليجسد المدينة الفاضلة التى يبغيها بمشاعر تتدفق وأحاسيس تتوغل فى أفق مغايرة تستنطق وتستوحى وتشكل عوالم كثيرا ما أحاطها الصمت وحجبها النسيان لننطلق بمجالاتنا الاقتصادية والسياسية والبيئية والتربوية وغيرها إلى التقدم والنمو والازدهار بمفهوم الإبداع الملائم لكل مجال. 
لقد أضاءت عقول الفنانين نوراً فتولد الإبداع، وامتدت أنظارهم للمستقبل بمحاور بعيدة تكشف مكنون خباياهم بما تترجمه تلقائية أعمالهم بموهبة تتفجر بطاقاتها الطاردة لأشكال البؤس واليأس.
فالفنون كالكائن الحى يتأثر ويؤثر فى كل المتغيرات الموجودة حوله. ولأن الإبداع يتولد عادة نتيجة انفعالات أو آلام أو شحنات نفسية نابعة من قوة موهبة تستفيض داخل كيان المبدع متأثراً بما حوله نظراً للتعايش بين الفنان وبيئته المحيطة وتفاعله بما حوله، فقد لعب الفن دوراً مؤثراً فى شتى مناحى الحياة، ويشهد تاريخ الفنون على مر الأزمنة أن الفن ليس مجرد ظاهرة جمالية تخاطب الوجدان فحسب، وإنما هناك وظائف أخرى قد تتجاوز حدود المتعة والتسلية والبهجة التى يبعثها الفن فى نفوسنا. 
وهى ارتباط هذا الفن عند نقده تمحيصاً وتدقيقاً وتحليلاً بالارتباط التاريخى، أى أن السياق الزمنى له دور كبير فى شكل هذا الفن نتيجة لإحاطته بظروف سياسية واجتماعية تشكل بعداً جمالياً مقترناَ بواقع هذا الفن. وارتباط الفن بالسياسة كان ولا يزال يمثل جوهر الروح النقدية لكثير من الفنون التى واكبت أحداثا تاريخية معينة، أو ظروفا سياسية كانت هى المحرك لإبداع أصحابها منذ أقدم العصور. 
ولا تزال قضية العلاقة الجدلية بين الفن والسياسة من أهم ما يشغل الكثيرين فى العصر الحديث، فالسياسة من أكثر الاتجاهات تأثيراً فى نفوس المواطنين نتيجة للتعايش فيه، سلباً كان أو إيجاباً، وهو ما يحتم على المواطنين قدرا معينا من الدراية والمشاركة فى الشئون السياسية، شاءوا أم أبوا. 
ولضرورة الفن وأهميته، فكثيراً ما كان داعماً ومحركاً للأوضاع السياسية الحاكمة، وقد يكون مناهضاً لها فى بعض الأحيان. إذن، فالعلاقة بين الفن والسياسة قائمة منذ أزمنة بعيدة، ودائماً ما تعبر الفنون عن آمال الشعب وآلامه، فهى انعكاس للواقع بكل ما فيه لأنه جزء لا يتجزأ من تكوين المجتمع الذى يعيشه، بل وعليه أيضاً دور مهم فى نشر الوعى الثقافى داخل مجتمعه. فالفن وسيلة لإيجاد التوازن بين الإنسان وعالمه وهو الأداة اللازمة لإتمام هذا الاندماج بين الفرد والجماعة. 
ولا يمكن أن نستهين بدور الفن والفنانين فى شتى مناحى الحياة بعدّهم أحد العوامل المهمة فى بناء وإصلاح المجتمعات ورفعة شأن الأوطان، ليس لما يحملونه من القضايا الإنسانية والسياسية الداخلية والخارجية، لكن بحسبانهم سفراء بفنونهم التى تعد الطريق الأيسر لمخاطبة العالم. 
والواقع أن الثقافة وما ينبثق عنها من فنون تعد أحد مقومات النهضة لأى من المجتمعات، فالثقافة فى واقعها هى السلوك ومجموع العقائد والقيم والموروثات التى نمت تراكمياً على مدى زمنى كبير ويمتثل لها أفراد المجتمع، والفن يترجم واقعنا المجتمعى بما فيه من قضايا سياسية وتاريخية واقتصادية وأطروحات اجتماعية ملحة يعمل على تفسيرها ونقدها بإبداعات ذاتية ومعالجات تعمل على التغيير والإصلاح. وكما أشرنا، فالفنون أحد أشكال ترجمة الثقافة برؤى إبداعية فنية. 
لذلك فغياب وتغييب الثقافة من أشد ما نعانيه خلال السنوات الأخيرة تحديداً، وكثير من مشكلاتنا الاجتماعية والسياسية على صعيد واسع ترجع لانعدام الثقافة الحقيقية، وغياب الوعى وسعة الأفق. كما يعانى الفن تراجعاً كبيراً وانحداراً ربما غير مسبوق فى عملية التلقى لدى الذوق العام، لأنه يعكس ما نعانيه من تخبط سياسى ومجتمعى إبان الفترة الماضية. 
وعلى مدار التاريخ، لعب الفن أدوراً عديدة لخدمة السياسة، وبالطبع كان هناك ما هو فى صالح الدولة. وفى أحيان أخرى، يستغل سلباً وفقاً للأهواء أو مروجى هذه الفنون لأغراضهم وتوجهاتهم. وهنا مكمن الخطورة فيما يقدمه الفن كقوة مؤثرة مجتمعياً وسياسياً بشكل غير مباشر، فهو سلاح غاية فى الأهمية والتأثير، إذا لم نع قيمته وكيفية استغلاله لحماية الأمن القومى، وهو ما دعا جوزيف ناى لإطلاق لفظ القوة الناعمة لأنها قوة حقيقية لا يستهان بها، بل فى اعتقادى أنها أشد خطورة من القوة الصلبة على المدى البعيد، لذا فهى سلاح ذو حدين إذا لم يحسن استخدامها وتعى الدولة مخاطر الانفلات الفنى الذى يستخدمه العدو فى أشكال الحروب الحديثة والمعروفة استراتيجياً وعسكرياً بحروب الجيل الرابع. 
لذلك، يقع على عاتق الفنون دور فى تطوير وتهذيب الأخلاقيات داخل أى مجتمع بما لا يتنافى مع القيم والثوابت الراسخة مع العادات والتقاليد، حتى لا نأتى بثقافات مغايرة تشكل مجتمعنا بما يفقده هويته، فيذوب وسط التيارات الثقافية الأخرى التى قد يكون من شأنها اضمحلال فنوننا وتغييبها عن عقل ووجدان مواطنى هذه الأمة لترسيخ مفاهيم غربية مستحدثة تبث سمومها بين الحين والآخر كأحد المخططات المتبعة لإفساد المجتمعات تحت مظلة المصطلح الجديد. 
فتراجع الثقافة واضمحلالها يؤديان لسهولة استقطاب الشخص للغزو الفكرى أو الأيديولوجيا التى يتعامل بها أصحاب الأجندات والمؤامرات الصهيوينة، فيجب علينا التركيز على مفهوم الهوية بحسبانه كل ما يميز الشخص ويجعله متفرداً، وهي السمة الجوهرية العامة  لثقافة من الثقافات. وتجمع الهُوية ما بين الماضى والتاريخ بعراقته والانفتاح على المستقبل، كما أنها لا تعنى أن ننغلق على أنفسنا وتراثنا بثبات دون أن نخضعه للتغيير والتطوير. بل على العكس من ذلك، لا بد أن نعى كيف نتعامل مع المتغيرات الزمنية وفق متطلباتنا وظروفنا دون أن نفقد هويتنا. فالتجديد والنقد أمر حتمى لمواكبة ظروف العصر والثقافات الأخرى المحيطة بنا. وهويتنا المصرية أحد المحددات والركائز الثابتة لتأكيد العلاقة بين الفن والمجتمع، حيث كانت الهوية المصرية راسخة على مر العصور، تتسم بالاتزان والاتساق والثبات. ولعبت الثقافة دوراً مهما فى الحفاظ على تلك الهوية حيث زادتها قدراً وقيمة.
لكن مع الأسف فى الوقت الراهن، أصابها الخلل، وبالطبع ليس نتيجة للتعددية الثقافية الناتجة عن الانفتاح والتفاعل مع ثقافات أخرى، فلا تعارض بينهما، وإنما قد يعمل ذلك على إثراء الثقافات وتنوعها بما لا يعيق حماية هويتنا، أى الحفاظ على الذات الفردية والجماعية من الفقدان أو الاغتصاب الفكرى.
وختاماً، أستعير قول الكاتب والمسرحى الألمانى الشهير برتولد بريخت "ليس الفن مرآة للحقيقة، بل مطرقة يمكن بها تشكيل الحقيقة"، وهو ما يجب أن يؤخذ فى الحسبان لنشكل واقعاً ومستقبلاً أكثر طموحاً ووعياً، فالثقافة والفنون هما قاطرتا التنمية لدولتنا المدنية الحديثة.
 

رابط دائم: