الاتفاق التجاري الأمريكي- الصيني الأخير.. هدنة أم سلام تجاري؟
13-12-2018


*
اتفق الرئيسان الأمريكي "دونالد ترامب" والصيني "شي جين بينج" خلال الاجتماع الذي عُقد على هامش قمة مجموعة العشرين التي استضافتها مدينة بيونيس آيرس الأرجنتينية مطلع الشهر الجاري، على وقف الحرب التجارية بين البلدين، وذلك من خلال التوصل إلى اتفاق مشروط، تقوم بمقتضاه بكين بتخفيض فائضها التجاري الحالي مع الولايات المتحدة، وذلك من خلال زيادة المشتريات الصينية من فول الصويا والغاز الطبيعي والطائرات التجارية وبعض السلع الصناعية الأمريكية الأخرى. وفي المقابل، ستُبقي واشنطن معدل التعريفة الجمركية على الصادرات الصينية للولايات المتحدة بقيمة 200 مليار دولار، عند مستوى 10 بالمئة، بدلا من زيادتها إلى 25 بالمئة، والتي كان من المقرر أن تدخل حيز التنفيذ في الأول من يناير 2019.  
في هذا الإطار، تبرز التساؤلات حول ما إذ كان هذا الاتفاق يُمهد الطريق أمام التوصل لاتفاق تجاري نهائي بين البلدين، أم أنه مجرد "هدنة" و"سلام عابر" لكسب المزيد من الوقت، وما هي العقبات التي قد تقف عائقا أمام التوصل لاتفاق تجاري نهائي بين البلدين.
 
أسباب الهدنة التجارية:
يُمثل الاتفاق الذي توصلت إليه واشنطن وبكين فوزا قصير المدى للجانبين، وكذلك للاقتصاد العالمي، كما يُشكل نوعا من الهدنة التجارية المؤقتة، لأنه يؤجل على الأقل المزيد من التصعيد في الحرب التجارية بين البلدين. وجاء التوصل لهذه الهدنة لعدة أسباب تتعلق بالجانبين الأمريكي والصيني.
الأسباب المتعلقة بالولايات المتحدة: 
تجنب حدوث المزيد من الأضرار للاقتصاد الأمريكي: في ظل ضعف وتراجع  مؤشرات أسواق الأسهم الأمريكية بصورة حادة خلال شهري أكتوبر ونوفمبر الماضيين، جراء الحرب التجارية بين البلدين، علاوة على الخسائر الكبيرة التي لحقت بالمزارعين الأمريكيين، بسبب خفض الصين وارداتها من المنتجات الزراعية، خاصة فول الصويا، الذي تستورد بكين 60 بالمئة من مجمل الإنتاج الأمريكي منه، إضافة إلى التكاليف التي تتحملها موازنة وزارة الزراعة الأمريكية نتيحة تقديمها مساعدات بقيمة 12 مليار دولار للمزارعين وأصحاب مزارع الماشية المتضررين من الحرب التجارية مع الصين.
موازنة التجارة مع الصين: حيث زاد الفائض التجاري للصين مع الولايات المتحدة إلى 293.5 مليار دولار خلال الفترة من يناير إلى نوفمبر 2018، مقارنة بنحو 251.3 مليار دولار خلال الفترة نفسها من العام الماضي، وذلك في ضوء زيادة صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بنسبة 9.8 بالمئة خلال شهر نوفمبر الماضي على أساس سنوي، في حين انخفضت الواردات بنسبة 25 بالمئة خلال الشهر نفسه.
الأسباب المتعلقة بالصين: 
السعي لتفادي زيادة الرسوم الجمركية الأمريكية: والتي من شأنها أن تقوض من فرص النمو الاقتصادي للصين، وتزيد من الضغوط على أسواقها المالية، خاصة أن الاقتصاد الصيني شهد تراجعا في معدل النمو الاقتصادي خلال الربع الثالث من عام 2018، إلى جانب حالات التعثر في سداد عائدات سندات الشركات، والتراجع في أسعار العقارات، علاوة على انخفاض قيمة العملة الصينية منذ مايو الماضي بأكثر من 8 بالمئة مقابل الدولار الأمريكي، مما ينذر بتراجع معدل النمو الاقتصادي إلى 6.3 بالمئة خلال العام المقبل مقارنة بمعدل النمو الحالي والبالغ 6.5 بالمئة.
 
فرص التوصل إلى سلام تجاري بين البلدين:
يقف دون التوصل لصفقة تجارية طويلة اﻷﻣد بين الولايات المتحدة والصين خلال الأشهر الثلاثة القادمة عدة عقبات، وذلك على النحو التالي: 
أولا- الإطار الزمني الضيق للاتفاق: والذي لا يتجاوز تسعين يومًا، لإجراء مزيد من المحادثات بهدف إجراء "تغييرات هيكلية" فيما يتعلق ببعض القضايا الشائكة والمعقدة، ومنها: نقل الصين للتكنولوجيا قسريا، حيث تتهم الولايات المتحدة بكين بالقيام بإجبار الشركات الأمريكية والأجنبية عموما بالكشف عن الأسرار التجارية مقابل الوصول إلى السوق الصينية، وكذلك معالجة قضايا حماية حقوق الملكية الفكرية، الحواجز غير الجمركية، والجرائم الإلكترونية، والأمن السيبراني، والخدمات، والزراعة. وهذه القائمة الطويلة من الموضوعات من الصعب تسويتها بحلول الأول من مارس القادم، خاصة أن مستوى الثقة بين الجانبين منخفض للغاية. 
ثانيا- القراءة المتباينة للاتفاق من قبل الجانبين: تعهد الرئيس ترامب بتجميد التعريفات الجمركية مقابل التزام الصين بخفض العجز التجاري الثنائي مع الولايات المتحدة، ولكن لا يزال من غير الواضح ما الذي اقترحته بكين بالضبط. فعلى الرغم من تصريحات المسئولين الأمريكيين، فإن التقارير التي تنشرها وسائل الإعلام الصينية المملوكة للدولة تنكر تماما تعهد بكين بتخفيض العجز التجاري الأمريكي معها. وبالإضافة إلى هذا التناقض، لم يتضح إمكانية قيام الصين بتخفيض الرسوم الجمركية التي فرضتها على المنتجات الأمريكية، أو توقيت البدء في استئناف مشترياتها من السلع الأمريكية أو كمياتها، مما يُلقي مزيدا من الغموض وعدم اليقين بشأن هذا الاتفاق، في ظل عدم وجود خريطة طريق واضحة وتفصيلية لمحادثات التجارة المستقبلية.
ثالثا- اعتقال "مينج وانزو" المديرة المالية العالمية لشركة هواوي الصينية في كندا: وذلك مطلع الشهر الجاري، حيث تطلب الولايات المتحدة تسليمها لاتهامها بخرق العقوبات الأمريكية على إيران. وفي هذا الإطار، استدعت وزارة الخارجية الصينية السفير الأمريكي في 9 ديسمبر الجاري لتسليمه "احتجاجا قويا" بشأن اعتقال مينج. ولا شك فى أن هذه القضية ستُلقي بظلالها على أجواء المحادثات المقررة بين البلدين. فبينما تصر إدارة ترامب على أن اعتقال مينج لن يؤثر فى المحادثات التجارية الجارية، فإن بكين تعتقد أن اعتقال ابنة مؤسس شركة هواوي العملاقة (ثاني أكبر شركة للهواتف الذكية في العالم) ما هو إلا محاولة أمريكية أخرى لاحتواء الطموحات التكنولوجية الصينية، وقد تضطر بكين إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لتهدئة الغضب الشعبي المتصاعد، خاصة بعد حظر محكمة صينية في 11 ديسمبر الجاري بيع واستيراد معظم موديلات هاتف "آيفون"، في خطوة قد تتسبب في تصعيد الحرب التجارية بين البلدين، في الوقت الذي تتداول فيه الأنباء حول احتمال قيام الكونجرس باصدار تشريع يحظر شركة هواوي من ممارسة الأعمال التجارية في الولايات المتحدة لاتهامها بالقيام بعمليات تجسس على الأمريكيين.
رابعا- ضخامة وتُعقد مجالات التنافس بين الولايات المتحدة والصين: فمن وجهة نظر الحزب الشيوعي الصيني، تسعى الولايات المتحدة إلى إحداث تغييرات شاملة قد تصل إلى حد تغيير النظام السياسي الصيني، ووقف النهضة الاقتصادية والسياسية فيها. وتدل العديد من المؤشرات على أن القضية بالنسبة للإدارة الأمريكية في عهد الرئيس "دونالد ترامب" أكبر بكثير من أن تكون مجرد حرب تجارية. ويبقى الهدف الحقيقي هو تقويض الصعود الصيني في العالم، حيث تخوض واشنطن وبكين منافسة حادة من أجل فرض الهيمنة الاقتصادية والسياسية على العالم خلال العقود المقبلة.
وتُعد التجارة جانبا واحدا من جوانب هذا التنافس. وتبرز المحاولات الأمريكية لتقويض الصعود الصيني في عدة خطوات، منها: الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي، وتلويح ترامب بالانسحاب من معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، والإعلان عن المنطقة الحرة والمفتوحة في المحيط الهندي والهادي، والمعارضة الأمريكية لمبادرة الحزام والطريق، وكذلك خطة "صنع فى الصين 2025".
علاوة على ذلك، فإن تبني إدارة ترامب لمبدأ "أمريكا أولا" لا يمنح الصين أي حافز لمعالجة المخاوف الأمريكية، بل أقنع ذلك الصينيين بأن الولايات المتحدة تسعى للحصول على تنازلات، لا من أجل تحسين علاقات التجارة، بل للحفاظ على الهيمنة الأمريكية. 
 
مستقبل العلاقات التجارية الأمريكية- الصينية:
بناء على ما سبق، يمكن القول إن التوقف المؤقت للحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين يشبه إلى حد كبير الاتفاق الذي توصلت إليه واشنطن مع الاتحاد الأوروبي في يوليو الماضي، والذي تضمن الإعلان عن المزيد من المشتريات الأوروبية للمنتجات الزراعية الأمريكية. غير أن هذه الاتفاق معرض بدوره للانهيار مع تهديد الرئيس ترامب مرة أخرى بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 بالمئة على السيارات وقطع الغيار المستوردة من دول الاتحاد الأوروبي. ويمكن أن يحدث ذلك مع الصين أيضا. ذلك أنه بدون التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن ما تعده واشنطن ممارسات تجارية غير عادلة من جانب الصين، خاصة في مجالات التجسس الإلكتروني، والقرصنة، وانتهاك حقوق الملكية الفكرية، فمن المرجح أن يقوم الرئيس ترامب بفرض رسوم جمركية على جميع الواردات الصينية المتبقية بقيمة 267 مليار دولار، لتعود مرة أخرى أجواء الحرب التجارية بين البلدين. 
ويظل مستقبل العلاقات التجارية بين البلدين مرهونا بقدرة كل منهما على التغلب على التحديات السالف ذكرها، وتوافر رغبة حقيقية لدى كلا الطرفين لاتخاذ خطوات ملموسة لإنهاء الحرب التجارية بينهما، خاصة مع إعلان كبير المفاوضين التجاريين الصينيين أن بلاده تخطط لخفض التعريفات على السيارات من 40 إلى 15 بالمئة، في محاولة من بكين لإظهار رغبتها في تهدئة الخلاف مع واشنطن. وفي السياق ذاته، تنتظر الصين بذل الإدارة الأمريكية مزيدا من الجهود لإطلاح سراح المديرة المالية العالمية لشركة هواوي الصينية، خاصة مع إعلان الرئيس ترامب، في 11 ديسمبر الجاري، عن استعداده للتدخل في القضية، إذا كان ذلك سيخدم مصالح الأمن القومي الأمريكي، أو سيساعد في إبرام صفقة تجارية مع الصين. وفي الإطار ذاته، فإن نتائج الدورتين السنويتين للمجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، والمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، والمقرر عقدهما خلال مارس المقبل، وما يمكن أن يسفر عنهما من الاتفاق حول مدى إمكانية إدخال تعديلات جوهرية على السياسة الاقتصادية الصينية، سيكون كل ذلك عاملا حاسما لتحديد مستقبل الحرب التجارية بين بكين وواشنطن.
 

رابط دائم: