الفراغ :| إشكاليات غياب الدور السوري في الشرق الأوسط
23-9-2011

سامية بيبرس
* وزير مفوض بجامعة الدول العربية

راكمت السياسة الخارجية السورية خلال العقود الثلاثة الماضية إنجازات علي صعيد إيجاد معادلات جديدة وامتلاك ديناميكية في مواجهة التحديات السياسية والأمنية علي المستوي الإقليمي. وكانت دمشق قد تمكنت من صياغة دورها الإقليمي في ظل سيادة نظام القطبية الثنائية ودعم الاتحاد السوفيتي (السابق) لها، مما مكن صانع قرار السياسة الخارجية السورية من تأمين هوامش مقبولة لتحركه السياسي علي الصعيد الإقليمي. استطاعت سوريا وضع يدها علي مفاتيح لها دور مهم في ضبط التوازنات الإقليمية وإدارة الصراع بطريقة جعلت منها لاعبا إقليميا مهما.

وفي تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبروز القطبية الأحادية الأمريكية، واندفاع الإدارات الأمريكية نحو فرض تسويات للصراع العربي - الإسرائيلي، من وجهة  النظر الإسرائيلية التوسعية، واجهت السياسة الخارجية السورية العديد من التحديات، مما أثار الشكوك حول قدرة سوريا علي مواصلة دورها الإقليمي وفق الصيغة التي تشكل علي أساسها. إلا أن الملاحظ أن الدبلوماسية السورية قد أجادت قراءة تلك التحولات التي طرأت علي الخريطة الدولية، بل وحرصت أيضا علي مواصلة دورها الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، والتمسك بالعديد من الأوراق الإقليمية المتمثلة بشكل أساسي في لبنان والعراق وقضية الصراع العربي - الإسرائيلي(1).

ويعد تحالف سوريا مع إيران إحدي الركائز الأساسية للدور السوري الإقليمي، حيث مكنها من إحداث التوازن الإقليمي مع كل من إسرائيل والعراق. وقد أعطي هذا التحالف سوريا ثقلا موازيا للعراق، ووسيلة ضغط ضد النظام العراقي، وثقلا موازيا أيضا ضد إسرائيل، ووسيلة احتواء ونفوذ داخل لبنان بسبب ما يجمع البلدين من نفوذ في أوساط الطائفية الشيعية بلبنان، وأخيرا مصدر دعم مادي اقتصادي وتعاون عسكري. ومن المنظور الإيراني، نجد أن تحالفها مع سوريا يمنح طهران وسيلة للضغط علي العراق، وحرية الوصول للطائفة الشيعية في لبنان، ووسيطا مع الدول العربية، وأخيرا فهي أيضا مصدر للدعم العسكري والاقتصادي. ويعد أيضا العداء المشترك لسياسات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط أبرز الدوافع للتحالف بين البلدين(2).

ملفات إقليمية :

وفي إطار مساعيها الرامية إلي مواصلة دورها الإقليمي في الشرق الأوسط، فقد سعت سوريا إلي توطيد علاقاتها بتركيا من خلال التنسيق السياسي المستمر بين قيادتي البلدين. فمن ناحيتها، رحبت سوريا بالرعاية التركية للمفاوضات السورية - الإسرائيلية غير المباشرة، كما مهدت الطريق لدور تركي متنام في منطقة الشرق الأوسط(3). وقد اتخذ توطيد العلاقات السورية - التركية بعدا جديدا مع إجراء أول مناورات عسكرية مشتركة بين البلدين علي الحدود بينهما، وهو ما أشار إليه بيان صادر عن الجيش التركي بأن مثل هذه المناورات تهدف إلي تعزيز الصداقة والتعاون والثقة بين القوات البرية في الدولتين، وزيادة قدرة قوات الحدود علي التدريب والعمل معا، الأمر الذي أفضي في مجمله إلي قلق إسرائيلي عبر عنه وزير دفاعها "إيهود باراك" من خلال وصفه لهذه التطورات بأنها "مقلقة"(4).

وبالإضافة إلي التعاون العسكري بين البلدين، فقد تنامي أيضا التعاون الاقتصادي، إذ تعد تركيا أكبر شريك تجاري لسوريا، حيث بلغت قيمة التجارة البينية بينهما 1.5 مليار دولار، ومن المرجح أن تصل إلي 5 (خمسة) مليارات دولار. فخلال عام 2010، تم توقيع 47 اتفاقية في مجال التجارة، كما تم أيضا تأسيس مجلس رفيع المستوي للتعاون الاستراتيجي بين البلدين. وبالإضافة إلي ذلك، فقد تم إنشاء منطقة تجارة حرة بين البلدين وإلغاء تأشيرات الدخول بينهما(5).

وتجدر الإشارة إلي أن الورقة الإيرانية لاتزال ورقة كبري في يد دمشق، فمن الخطأ الاعتقاد بأن دورا إيرانيا يمكن أن يلعب في الشرق الأوسط من دون دمشق، الحليف الاستراتيجي لإيران. فسوريا مهمة لإيران في العمق العربي، مثلما إيران مهمة لسوريا في التوازن الاستراتيجي(6). وقد توجت هذه العلاقة التحالفية بتوقيع البلدين معاهدة دفاع مشترك في عام 2010، والوصول إلي نقلة نوعية في العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية، أبرزت مكانة العلاقة الاستراتيجية بينهما علي المسرح الإقليمي والدولي، خاصة في التصدي لسياسات الهيمنة الأمريكية، والسياسات الإسرائيلية التوسعية.

منح الوجود العسكري السوري في مختلف المناطق اللبنانية -والذي دام قرابة ثلاثين عاما- سوريا دورا إقليميا فاعلا، وكان يعد أحد الإنجازات السياسية من وجهة نظر النظام السياسي السوري. ولذلك، فإن انسحاب الجيش السوري من لبنان في 26 أبريل 2005 قلل من الخيارات الاستراتيجية أمام صانع القرار السياسي السوري في المنطقة.

لكن دمشق استطاعت الاحتفاظ بنفوذها السياسي في لبنان، وواصلت دورها الحيوي والمؤثر في المشهد السياسي ودعمها العسكري والمادي واللوجيستي "لحزب الله". ويري بعض المحللين السياسيين أن الدعم السوري "لحزب الله" يمكن دمشق من ممارسة تأثيرها ونفوذها السياسي في الشأن اللبناني، إلي جانب كونه يستهدف داخليا صرف الأنظار عما تمارسه القوي الدولية، خاصة الولايات المتحدة، من ضغوط علي النظام السياسي السوري.

ومن ثوابت السياسة الخارجية السورية اعتبار القضية الفلسطينية تمثل جوهر الصراع العربي - الإسرائيلي، وأن السلام العادل والشامل لن يتحقق إلا بحل هذه القضية، بما فيها مشكلة القدس، استنادا إلي قراري مجلس الأمن الدولي 242 و338 ومرجعية مدريد، ومبدأ الأرض مقابل السلام، والانسحاب الإسرائيلي الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة وحتي خطوط الرابع من يونيو 1967، وعودة الفلسطينيين إلي ديارهم التي هجروا منها قسرا وعنوة، وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس التاريخية. وقد ظلت دمشق تدعو إلي ضرورة تلازم المسارات التفاوضية لبحث السلام مع إسرائيل، ولذلك فهي لم تؤيد اتفاقيات أوسلو بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة "رابين"، ومعاهدة "وادي عربة" بين الأردن وإسرائيل(7). وفي إطار دعم القضية الفلسطينية، جاء الموقف السوري الداعي إلي ضرورة إخضاع إسرائيل منشآتها النووية لنظام الضمانات بالوكالة الدولية للطاقة الذرية، وكذلك الإذعان لمعاهدة عدم الانتشار النووي، وذلك من أجل الالتزام بشرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل(8).

وتعد علاقة سوريا بحركات المقاومة الفلسطينية "حماس" و"الجهاد الإسلامي" من أبرز الملفات الإقليمية التي تتمسك بها دمشق. وعلي الرغم من أن سوريا قد أجرت مفاوضات مع إسرائيل في عهد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد حول الجولان، فإن تلك المفاوضات لم تؤثر في علاقاتها بحركة "حماس"، وبقيت سوريا تحتضن المقاومة. وتواصل القيادة السياسية السورية الراهنة دعمها لحركة "حماس" والمقاومة الفلسطينية، وهو مايفسر تطور الحركة واستمرارها رغم تعرضها علي مدي سنوات طويلة للضغط والابتزاز الإسرائيلي والأمريكي علي حد سواء(9).

والواقع أن الدعم الذي تقدمه سوريا للعديد من حركات المقاومة الإسلامية -بالرغم من علمانية النظام السوري- مثل "حماس والجهاد الإسلامي" في فلسطين، وكذلك "حزب الله" في لبنان، إنما ينبع بالأساس من كون هذه الحركات علي تماس مباشر مع إسرائيل، وبهدف إبقاء جذوة الصراع مشتعلة معها. وبذلك، تحارب هذه الحركات إسرائيل نيابة عن سوريا. يمثل الدعم السوري لهذه الحركات منفذا يخرج سوريا من عزلتها الإقليمية، ويعوض إلي حد ما الاختلال في موازين القوي الإقليمية لصالح إسرائيل، ويعطي ذلك لسوريا أيضا نقط ارتكاز بعد انهيار النظام الإقليمي العربي، وتحوله من الصراع مع إسرائيل إلي التعايش أو التسوية معها.

من ناحية أخري، أعطي اضطراب أوضاع العراق السياسية والأمنية، عقب الغزو الأمريكي له في عام 2003، لسوريا أوراقا عراقية كبري. فقد رفضت دمشق الغزو والاحتلال الأمريكي، وبلورت موقفا مشتركا مع تركيا وإيران لمحاصرة السياسات الأمريكية التي استهدفت حل الدولة العراقية وتفتيت وحدة العراق. كما تمسكت الدول الثلاث بالوحدة الترابية للعراق وباستقلاله وسيادته الوطنية، ورفضت تقسيمه إلي دويلات عرقية ومذهبية متصارعة. كما رفضت أيضا إقامة قواعد عسكرية ثابتة ودائمة علي أرض العراق، وطالبت برحيل كل قوات الاحتلال.

وقد دعمت دمشق ما طرحته أنقرة من مبادرة لتشكيل ما سمي ب-"دول الجوار الجغرافي للعراق" وذلك في فبراير 2003 لتشجيع الدولة العراقية علي الاستغناء عن الحماية الأمريكية، ودعم الحكومة المركزية العراقية في الحفاظ علي وحدة أرض وشعب العراق. ولقد لعبت دمشق دورا في المعادلة العراقية من خلال إيوائها وتسهيلها أنشطة عناصر قيادية للمقاومة العراقية، بما في ذلك السماح لبعض قيادات حزب البعث العراقي بالوجود علي الأراضي السورية وممارسة أنشطتها بشكل علني. وفي ضوء تزايد الضغوط الأمريكية علي سوريا، وفي محاولة منها لتحسين علاقاتها بواشنطن وتخفيف حدة التوتر بينهما، سعت دمشق إلي التوسط بين مختلف القوي السياسية العراقية المتنافسة علي السلطة، كما حثت سنة العراق علي الانخراط في العملية السياسية من خلال المشاركة في انتخابات مارس 0102.

مستقبل الدور الإقليمي السوري :

تجدر في البداية الإشارة إلي أن الولايات المتحدة معنية بألا يبقي النظام السوري شموليا، وأن تصبح سوريا دولة ديمقراطية وتعددية. لكن المؤكد أن ما يهمها أكثر من ذلك كله هو أن يغير هذا النظام سلوكه، وأن تتوقف دمشق عن السعي المتواصل لدور إقليمي في المنطقة، فتخرج من لبنان أمنيا وسياسيا، بعد أن خرجت منه عسكريا، وأن توقف تدخلها في الشأن العراقي، وغيرها من الملفات الساخنة في منطقة الشرق الأوسط. بعبارة أخري، تسعي واشنطن إلي تعديل النظام السوري وتطويره، وذلك بما يجعله صالحا للتفاعل الإيجابي مع متطلبات الهيمنة الأمريكية علي المنطقة(10). وفي هذا السياق، أشار "منذر سليمان"، مدير مركز الدراسات الأمريكية والعربية في واشنطن، إلي أن الهدف من العقوبات الأمريكية علي سوريا هو ممارسة ضغط معنوي وسياسي كبيرين علي نظامها السياسي لإجباره علي تعديل سياسته الخارجية، خاصة الإقليمية. وأضاف أن اهتمام واشنطن لا ينصب علي السياسة الداخلية السورية، وإنما علي ضرورة تخلي دمشق عن محور الممانعة وتخليها عن أدوارها في ملفات فلسطين ولبنان والصراع العربي - الإسرائيلي(11).

وعليه، فمن المرجح أن تؤدي الأوضاع السياسية والأمنية المتدهورة في سوريا، بما في ذلك ما يرتبط بها من ضغوط أمريكية متواصلة علي دمشق -وبصرف النظر عما قد ينتج عنها من حيث سقوط النظام السياسي الراهن من عدمه- إلي إجبار دمشق علي التراجع، ولو جزئيا، عن سياستها الإقليمية، والتخلي عن بعض طموحاتها التقليدية للعب أدوار في بعض الملفات الساخنة في الشرق الأوسط. ففيما يتعلق بالملف اللبناني، فقد تضطر سوريا إلي الحد من دعمها "لحزب الله"، خاصة في ظل تنامي ضغوط الإدارة الأمريكية عليها لإجبارها علي التخلي عن دعمها للمقاومة اللبنانية، وأيضا في ظل ما يراه بعض المحللين سعيا إيرانيا لترسيخ وتكريس دورها في لبنان، بل ووراثة الدور السوري من خلال تزويدها ل-"حزب الله" بالبطاريات المضادة للصواريخ(12).

ويبدو أن واشنطن قد حرصت علي استغلال ما تمر به سوريا من اضطرابات، وحاولت استخدام الورقة اللبنانية للضغط علي سوريا في محاولة منها لتقليص الدور السوري في لبنان، حيث قامت أخيرا بإرسال مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأدني "جيفري فيلتمان" إلي لبنان، وذلك ليجدد -خلال لقائه بالمسئولين اللبنانين- الموقف الأمريكي الواضح والمتعلق بأن تقييم واشنطن لعلاقتها مع الحكومة اللبنانية يرتكز علي أساس بيانها الوزاري، وإشارته الواضحة إلي التزام لبنان بما يصدر عن المحكمة الدولية. وأغلب الظن أن "حزب الله" قد أضحي بدوره متخوفا من تراجع الدور السوري في لبنان، وعليه فقد سعي بكل الطرق إلي إيجاد موقف أقوي له علي الأرض. وإذا كانت سوريا ستضطر، تحت وطأة ظروفها الداخلية والضغوط الأمريكية المتزايدة عليها، إلي الحد من دعمها "لحزب الله"، فإنه من المستبعد أن تتخلي عن دورها أو عن تأثيرها في المشهد السياسي اللبناني، إذ يعد التمسك بهذا الدور من ثوابت سياستها الإقليمية التي لا يمكنها بأي حال من الأحوال التفريط فيه.

وبالنسبة لملف الصراع العربي - الإسرائيلي، فمن المرجح أن تواصل سوريا دعمها للقضية الفلسطينية التي تعد أيضا من ثوابت سياستها الخارجية. إلا أنه من المتصور أنها سوف تتخلي عن علاقتها بحركة "حماس". ويرجع ذلك إلي مجموعة من الاعتبارات ترتبط بظروف سوريا الراهنة، والتي تتزايد معها احتمالات سقوط النظام السياسي السوري، كما ترتبط أيضا برؤية "حماس" لمستقبل علاقتها بدمشق. فحركة "حماس" قد أدركت عقب المصالحة -التي تمت أخيرا بينها وبين حركة "فتح" وبرعاية مصرية- أن ظروف سوريا الراهنة تدفعها إلي أن تنأي بجهود ومساعي المصالحة عن التأثيرات والضغوط السورية والإيرانية. وتري "حماس" أيضا أن ما يحدث في سوريا الآن من صراع هو في بعض من أوجهه صراع بين نظام الحكم و"جماعة الإخوان المسلمين" السورية، الأمر الذي يفرض علي "حماس" -التي تتخذ من دمشق مقرا لقيادتها السياسية في الخارج- أن تفكر جديا في احتمال أن تضطر مستقبلا إلي مغادرة سوريا. وربما تجد "حماس" نفسها مستقبلا في مأزق أشد، إذا ما أدي تطور الأحداث في سوريا إلي ما يجعل إيران وحزب الله في تحالف مع نظام الحكم السوري ضد قوي المعارضة له، والتي منها -إن لم يكن في مقدمتها- جماعة "الإخوان المسلمين" السورية. وفي هذا السياق، كانت قيادة كل من حركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" قد توجهت إلي أمير قطر، الشيخ "حمد بن خليفة آل ثاني"، بطلب نقل مكاتب الحركتين من دمشق إلي الدوحة، في حال انهيار النظام السوري(13).

وإذا انتقلنا إلي الملف العراقي، فمن المرجح أن يتقلص الدور السوري في العراق إلي أدني حد ممكن، في ظل ما لدي دمشق من قناعة بأن مشاركتها في أية ترتيبات أمنية وسياسية في العراق ستكون تكلفتها السياسية والاقتصادية كبيرة، ولن يتحملها الاقتصاد السوري الذي يمر في الوقت الراهن بأزمة طاحنة. هذا إلي جانب إدراك دمشق محدودية تأثيرها في مختلف القوي السياسية العراقية -باستثناء فصائل المقاومة الوطنية العراقية- مقارنة بالتأثير الواسع لطهران في القوي السياسية العراقية المؤمنة بالمرجعية الدينية والسياسية الإيرانية(14). كما تدرك سوريا تماما أنه حتي لو تم الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق، فإن النفوذ الأمريكي سيظل قويا ومؤثرا، وأنه من المستبعد أن تترك واشنطن هذا البلد الغني بالنفط لدول الجوار والدول الإقليمية تسيطر عليه وتتحكم في مقدراته الاقتصادية والسياسية.

من ناحية أخري، من المتوقع أن تنعكس الأزمة السورية الراهنة سلبا علي التعاون الاستراتيجي بين سوريا وتركيا. فمن الواضح أن أنقرة، في ظل ما تحمله الأزمة السورية من مخاطر تقويض مصداقيتها الإقليمية والدولية، قد شرعت في مراجعة حساباتها فيما يتعلق بعلاقتها بالنظام السياسي السوري(15). وهناك العديد من المؤشرات التي تدلل علي ذلك، منها الانتقادات اللاذعة التي وجهتها أنقرة للنظام السياسي السوري فيما يتعلق بتعاطيه مع المظاهرات والاحتجاجات من خلال استخدامه للقوة المفرطة. وقد لوحظ أيضا الحذر التركي في التعامل مع ملف الأزمة السورية وما دار من سجالات إعلامية سياسية في أنقرة حول التعاطي التركي ب-"قفازات" مع الملف السوري، والإيحاءات بأن تركيا علي استعداد للتعامل مع نظام حكم مختلف في سوريا.

وقد سمحت أنقرة "لجماعة الإخوان المسلمين" السورية بالتحرك في اسطنبول ولمراقبها العام بالإدلاء بتصريحات. فقد تناقلت وسائل إعلام تركية أن "رياض الشقفة"، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين السورية، قد صرح بأن "جماعة الإخوان تدير المظاهرات في سوريا، وتشارك فيها بفعالية وبأعداد كبيرة، وبأنها لن تقف قبل إسقاط النظام". كما بذلت أنقرة في الفترة الأخيرة جهودا للانفتاح علي كل من "حزب الله" و"حماس"، متجاوزة سوريا وإيران، ومتطلعة لكي تكون المحاور مع الحركتين رغبة منها في تعزيز دورها التفاوضي وتحسين صورتها مع دول مجلس التعاون الخليجي. وإلي جانب ذلك، فإن حكومة حزب "العدالة والتنمية" قد أضحت خلال السنوات الأخيرة تعاني ارتفاع أصوات المعارضة الداخلية، التي انتقدت الانفتاح الواسع للحكومة علي سوريا، والذي ارتأته المعارضة أنه قد ينعكس سلبا علي سياسات أنقرة ومصالحها الإقليمية. ويبدو أن أنقرة قد وصلت إلي قناعة بأن النظام السوري لن يصمد طويلا، وأن سوريا المقبلة مختلفة تماما.

تبقي مسألة أخيرة تتعلق بمدي تأثير الظروف السياسية المتدهورة واحتمالات سقوط النظام السوري في مستقبل التحالف بين كل من سوريا وإيران. فمن المتصور أن الأزمة الراهنة لن تؤثر في هذا التحالف نظرا لارتباطه بمصالح استراتيجية لكلا البلدين. فهو يمنح سوريا أهمية علي الساحة العربية، ويمثل عنصر توازن لها في المنطقة أمام إسرائيل والعراق. وبالنسبة لإيران، فإن سوريا تمثل لها أهمية كبري في العمق العربي، وتساعدها في تحقيق مشروعها الاستراتيجي في الشرق الأوسط، القائم علي بناء دولة قوية قادرة علي تحقيق نفوذها من لبنان إلي إفغانستان، وتكون هي المرجعية والقائدة لشعوب المنطقة. ولعل الموقف الإيراني الأخير من الأوضاع في سوريا قد عكس المدي الذي يمكن أن تذهب إليه طهران لحماية النظام السوري ومنعه من السقوط، وهو خير دلالة علي عمق ورسوخ التحالف بين البلدين(16)، والذي من الصعب أن ينفرط عقده أو يكون مجالا للتأثر بأية ظروف سياسية.

الهوامش :

1- د. غازي دحمان، الدور الإقليمي السوري .. راهنه ومستقبله وخياراته، 12 مايو 2011، وكالة أنباء مجموعة الإعلام المستقلة بدمشق: www.champress.net

2- مازن شما، التحالف السوري الإيراني، 18 يناير 2008: www. Chams.02maktoobblog.com

3- Joshua W. Walker، Syria: Turkey's Litmus Test in the New Middle East، May 10، 2011. www.tfdnews.com

4- أيمن المهدي، هل تسعي سوريا إلي حلف إقليمي مع إيران وتركيا?، تقارير المراسين، جريدة الأهرام بتاريخ 26 مايو 2009.

5- Sami Moubayed، Syria's regional role offers a way out، Asia Times، May، 12، 2011، www.atimes.com

6- مازن شما، مرجع سبق ذكره.

7- جريدة الشعب اليومية أونلاين www.arabic.people.com.cn

8 - Dario Cristiani، The Role of Iran and Syria in the Israel- Lebanon Crisis، 10 August 2006، www.cssforum.com.pk

9- شبكة الإعلام العربية "محيط"، 11 مايو 2011، www.moheet.com

10- "الدور الإقليمي المفترض هو سبب مشاكل سوريا كلها"، شبكة نحن العرب، 24 نوفمبر 2009، www.rb.we 3 rb.com

1   1- Mounzer Suleiman، US is out for Syria's Role، Regional Policy، May 7، 2011، Sona، www.sana.sy

12- محمد سلام، إيران ترث سوريا في لبنان، 6 أغسطس 2008:  www10452./ccc.com

13- نشرة منظمة تضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية، أبريل 2011.

14- سعد داود قرياقوس، الدور الإيراني - السوري المحتمل في العراق .. فخ أمريكي جديد: www.arabic.cri.cn/

15- Joshua W.Walker، op. cit.   

16- محمد حسن فلاحية، عقدة المشروع الإقليمي الإيراني - السوري، 7 أبريل 2011، الجبهة الديمقراطية الشعبية الأحوازية  www.alahwaz.org


رابط دائم: