حرب باردة أفريقية... حول ليبيا
13-9-2011

حلمي شعراوي
* كاتب مصري

انقسم الموقف الأفريقي مبكراً حول أحداث ليبيا خلافاً للصورة التي تقدمت حول ثورتي تونس ومصر، سادت صورة "الربيع العربي" لفترة مجالات الإعلام أو تصريحات بعض الرؤساء ومعظم وجوه المعارضة هنا وهناك، وكان الهدوء النسبي وحتى العنف المحلي المحدود، وسيادة المطالب الاجتماعية والسياسية في الحالة التونسية والمصرية خلافاً لما بدا صراعاً عسكرياً مباشراً وتدخلاً أجنبياً سريعاً، جعل الداخل كله خارجياً في الحالة الليبية، وجعل الصورة مثيرة أكثر على المستوى الأفريقي، أو بالأحرى قابلة للانقسام بين دعم "ثورة شعبية" في تونس ومصر أو دعم "نظام صديق" يمثله القذافي صاحب الضجيج، والأفضال والاستثمارات بل المساعدات الشخصية والعامة في أنحاء القارة.

ويتفهم القارئ أيضاً أن "النظام الأفريقي" ممثلاً في منظمة الوحدة الأفريقية وبعدها الاتحاد الأفريقي، التزم "التقنين" والأعراف المقررة، إلى حد الشكلية أحياناً في مناسبات كثيرة، طبق بعضها ضد طموحات القذافي نفسه حين تصور أنه يدعم مسار الاتحاد الأفريقي يستطيع أن يأخذ كل شيء إلى طرابلس، فالتزام الأفارقة بحده بالنظام الدوري، والقرعة في تنظيم الاجتماعات حتى أعلنوا تأسيس "الاتحاد" في جنوب أفريقيا وتوجو وموزمبيق التزاماً بالقواعد التنظيمية دون الذهاب لطرابلس.

ووفق هذه القاعدة التزم الاتحاد الأفريقي -ولو شكلياً- بقراره لتقديم مبادرته الصادرة عن "مجلس السلام والأمن الأفريقي" بشأن إتاحة الفرصة للحوار والتفاوض بين المصارعين، لتشكيل "حكومة انتقالية" تتيح العمل على خلق إدارة مستقرة جديدة، وهو الموقف الذي اتخذته روسيا وبعض الدول المساندة للموقف الأفريقي لبعض الوقت.

رأت دوائر الاتحاد الأفريقي أن ذلك يجنبها التصديق على التدخل الأجنبي في "حالة أفريقية" وفق روح الاتحاد الأفريقي، بل وإقرار مبدأ الحوار الداخلي لـ"شكل انتقالي" لو أن "الضغط الدولي" دفع لعملية تغيير حتمية تساعدها حركة الداخل. ومثل ذلك حدث في حالة زيمبابوي وساحل العاج وبدرجات أخرى في مدغشقر. وكينيا...إلخ. ولأن رئيس لجنة الاتحاد الأفريقي للوساطة هو رئيس جنوب أفريقيا الرافضة للتغيير في ليبيا بالعنف البادئ هناك، فقد أكسب ذلك "مبادئ الاتحاد" قوة جديدة ميزت الموقف الأفريقي.

قادت جنوب أفريقيا، ما يشبه الحرب الباردة على القرارات "الدولية" ومواقف بعض الدول الأفريقية في نفس الوقت. ورغم أنها من سوء حظ رئيسها، وافقت على قرار مجلس الأمن 1973 فإنها اعتبرته لحماية المدنيين ووقف العنف فقط، ولم تكن تتوقع ذهاب الدول الكبرى به إلى هذا الحد من التدخل -حسب تصريحات جنوب أفريقيا.

وحيث زار رئيس جنوب أفريقيا طرابلس وبنغازي مرتين، فإنه اعتبر الموضوع لا يزال في دائرة مجلس السلم والأمن الأفريقي. ورغم أن أكثر من ثلاثين دولة أفريقية اعترفت بالمجلس الانتقالي الليبي تباعاً، فإن منظمة الاتحاد لم تصدق جماعياً بعد على الاعتراف. ولا يزال أمين عام الأمم المتحدة المتبني للموقف "الدولي" يناشد الاتحاد الموافقة، ويلح أن اتصاله بالاتحاد والجامعة العربية على مستوى واحد، وهذا غير صحيح طبعاً.

ثمة حالات كثيرة تختلف فيها المواقف الأفريقية عبر اعتبارات محلية أو إقليمية محدودة، لكننا هنا أمام ما يشبه الحرب الباردة داخل القارة لا تفسر -كالعادة- ببساطة وفق "التبعية" للدول الكبرى، رغم أن بعض المواقف الآن تبدو كذلك. ويبدو أن هذا الإطار يحدثه موقف جنوب أفريقيا مقابل الموقف النيجيري أساساً، على مستوى القارة. فلجنوب أفريقيا علاقات راسخة مع القذافي، حيث مد حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" بمساعدات فترة التحرير، بل يتردد أن المساعدة امتدت للرئيس "زوما" نفسه في معركته الحديثة لانتخابات الرئاسة ضد الرئيس "مبيكي" مما توافق مع جناحه القوي ذا التأثير المباشر الآن في السياستين الداخلية والخارجية. ونعرف أن لجنوب أفريقيا تأثيراً قوياً في محمل الجنوب، بل واستثمارات ذات تأثير في عدد آخر من الدول، وهي أيضاً في معركة مع نيجيريا على المقعد المحتمل في مجلس الأمن، تدعمها البرازيل وفنزويلا من أميركا اللاتينية، والهند وغيرها في آسيا. ولا تملك نيجيريا مثل هذا التأثير، وهي التي تواجه مشاكل طائفية وغابت رئاستها لفترة قبل انتخاب الرئيس الحالي، كما أنها فشلت في معالجة مشكلة ساحل العاج من قبل مثل الفشل المؤلم لجنوب أفريقيا إزاء مبادرة ليبيا.

ويدعم رفض جنوب أفريقيا دول قوية مثل غانا، كما تدعم دول أخرى قوية الموقف النيجيري مثل أثيوبيا والسنغال. وتوحي مواقف الدولتين الأخيرتين بتبعية واضحة للموقف الأميركي والفرنسي تباعاً، ثم أن هناك مواقف مباشرة أخرى من النيجر وغينيا بيساو ودول مجاورة أخرى إلى جانب القذافي مما يساعد على استمرار الحرب الباردة في القارة لبعض الوقت.

وقد طرحت أزمة ليبيا، على المستوى الأفريقي تحديداً، عدداً من القضايا التي غابت في المعالجة العربية بسبب إغراء تعبير "الربيع العربي"، أو ثورتي تونس ومصر...إلخ، على المستوى الدولي.

يظهر الفارق رغم وجود عناصر مشتركة في الأزمة كان يجب الانتباه لها عربياً عند انسياقه للتدخل الأجنبي، كان يجب أن تثيره بعض المؤثرات على مستقبل علاقاته الخارجية في عالم الجنوب ذي المستقبل بالتأكيد.

فكيف لا ينتبه العرب مثلاً لاحتمال تكرار حالة "الصوملة" في ليبيا وهي التي يواجهها الأفارقة لصالح نفوذ أثيوبي/أميركي، مقابل التجاهل الكامل لصفة "العروبة" أو الوحدات الوطنية هناك؟ وكيف لا تقلقنا حالة الاندفاع ضد "السود" من الطرفين الليبيين على السواء كمرتزقة مرة وكجرذان مرة أخرى؟ ولا يثير ذلك الجامعة العربية لبحث الموضوع من أية زاوية اختارت خوفاً على روح العلاقات العربية الأفريقية. كيف لا تحرص دبلوماسية الشمال الأفريقي على استضافة رئيس جنوب أفريقيا -جاكوب زوما- خلال مسعاه المبكر للمصالحة، أو حتى للضغط المشترك على القذافي والجميع راغب في التخلص منه، لكن مساهمة مصر والجزائر مثلاً كانت ستكون ذات شأن ووزن في العمل العربي الأفريقي؟

ثمة أصوات أفريقية تتحدث -مرة أخرى- عن مساعدة العرب للإمبريالية الدولية، أو موقفهم العنصري من الأفارقة. حتى الكتلة الأفريقية الأميركية المسلمة ابتعدت عن "اللوبي الأسود" التقليدي الذي حيا الثورات العربية من قبل فراحت دوائر "فارخان" في أميركا تهاجم العرب المتحركين ضد صديقهم القذافي، الذي خصص جائزة كبيرة سنوية باسم "فارخان" لعدة سنوات.

ولا نعرف الآن كيف ستصوت الكتلة العربية داخل الاتحاد الأفريقي في الاجتماعات القادمة أو في الجمعية العامة للأمم المتحدة مثلاً، إذا استمر الانقسام داخل الاتحاد؟ وإن كانت تعاملات جنوب أفريقيا متشددة بالنسبة إلى مصير الودائع الليبية ويرفض الإفراج عن 1.5 مليار دولار عندها بل تتناقش صحفها مصير 110 مليارات من الودائع الليبية في دول الغرب؟

كما يتساءل البعض عن أثر معركة البترول والشركات الكبرى ذات الأصل العربي تجاه الاستثمارات في بترول ليبيا أو تعويض الغرب عن نقص بترول ليبيا المؤقت.

كاد بعضنا يسأل إزاء تحولات، وتقلبات في الموقف الأفريقي والشمالي العربي على السواء، هل نتذكر صورة صراع قديم في بدايات التحرر الأفريقي بين مجموعة الدار البيضاء المتحررة ومجموعة منروفيا المحافظة والتي انتهت بإقامة منظمة الوحدة الأفريقية ووقف الحرب الباردة الأفريقية نتيجة حكمة زعماء التحرر الوطني وقتها، أم ترى أن الحرب الباردة هذه المرة تدور في دوائر تابعة لتأثيرات أجنبية عالمية قد تؤدي لمزيد من الانقسام الأفريقي وليس التوحد، بما يهدد بحكم طابع هذه الحرب، وآليات العولمة الرأسمالية الموحدة إلى تهديد الوحدة أفريقياً وعربياً على السواء؟.

(*) نقلا عن صحيفة الاتحاد الإماراتية
 


رابط دائم: