كيف تفكر أنقرة؟:| حسابات تركيا الداخلية والإقليمية بشأن التصعيد مع إسرائيل
13-9-2011

محمد عبد القادر
* باحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

اتسمت العلاقات التركية الإسرائيلية بعدم الاستقرار منذ أن صعد حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا عام 2002؛ فالأزمات توالت بين البلدين اللذين وقّعا في تسعينيات القرن الماضي اتفاقات عسكرية واسعة النطاق، جعلت البعض يرى أن ثمة نمطا جديدا للتحالفات الإقليمية على مسرح عمليات الشرق الأوسط، أحد محاوره الرئيسية محور "أنقرة – تل أبيب".

غير أنه سرعان ما تبدلت العلاقات بين البلدين؛ من الاستقرار إلى التوتر، ومن التحالف إلى التصدع والاضطرابات التي عانت منها علاقات الدولتين من جراء تنامي حدة الانتقادات التركية للسياسات الإسرائيلية؛ حيث اعتبرت أنقرة أن هذه السياسات تمثل أحد أهم عناصر عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.

 وعلى الرغم من اعتقاد تركيا بإمكانية أن تضطلع بدور "الدولة الوسيط" أو "الدولة المركز" من أجل تسوية الصراع العربي الإسرائيلي؛ إلا أن حادثة قافلة الحرية ومقتل 9 أتراك في المياه الدولية على يد الجنود الإسرائيليين في مايو 2010 دفعت لغة الخطاب التركي حيال السياسات الإسرائيلية إلى التصاعد والتشدد، على أمل أن تدرك تل أبيب أن من الخطأ تحويل تركيا من "دولة حياد" إلى "دولة عداء".

بيد أن عدم الاستجابة الإسرائيلية للمطالب التركية، والخاصة بتقديم اعتذار رسمي ودفْع تعويضات لأهالي الضحايا؛ دفعَت وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في الثاني من سبتمبر 2011، لاستغلال فرصة صدور تقرير الأمم المتحدة حول الحادث، والذي اعتبر أنه يضفى شرعية على الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، ولا يدين سوى "الاستخدام المفرط للقوة"، ليعلن في مؤتمر صحفي طرد السفير الإسرائيلي من أنقرة، وتخفيض العلاقات معها إلى مستوى السكرتير الثاني، وتعليق كافة الاتفاقات العسكرية بين البلدين.

التصعيد التركي المتواصل للضغط على الجانب الإسرائيلي بدا أنه محكوم بحسابات ومحددات ما زالت تغفلها تل أبيب، بما جعل دوائر التوتر المغلقة التي تعاني منها العلاقات التركية الإسرائيلية، يرتبط استمرارها بثلاث متغيرات غير منعزلة، أولها يتعلق بالسياق المحلي الذي شهد تغيرات دراماتيكية خلال الأعوام الماضية، بما أعطى حزب العدالة والتنمية الحاكم سلطات شبه مطلقة.

 أما المتغير الثاني، فيتعلق بنمط "المد الثوري" الذي بات يجتاح كامل مشهد الشرق الأوسط، بما يؤشر لتبدل مختلف أنماط التحالفات الإقليمية التقليدية، وثالث تلك المتغيرات يرتبط بما يشهده السياق الدولي من تغيرات وتحولات هي بنظر الأتراك تمهد لمشهد عالمي مغاير خلال السنوات القادمة.

موازين القوى الداخلية

على الصعيد الداخلي؛ لم تعد تركيا هي نفسها الدولة التي وقعت مع إسرائيل عددا من الاتفاقات العسكرية في عام 1996، وذلك من حيث الظروف الداخلية سواء على المستوى الاقتصادي أو العسكري أو السياسي، فعلاقات القوى الداخلية لم تعد تصب في اتجاه النخب البيروقراطية والعلمانية التي تتجسد أبرز قلاعها في العديد من مؤسسات الدولة، وعلى رأسها مؤسستا الجيش والقضاء، والتي طالما استحكمت رؤاها حيال نمط توجهات السياسة الخارجية التركية حيال إسرائيل على حساب النخب المنتخبة.

ويعد أبرز نموذج على ذلك إجبار نجم الدين أربكان، والذي يعد الأب الروحي للإسلام السياسي في تركيا وصاحب مشروع "السوق الإسلامية المشتركة" لأن يوقع على اتفاقات تقضي بالتعاون العسكري مع إسرائيل.

تغير موازين القوى الداخلية تأسس على عناصر عديدة؛ منها قدرة حزب العدالة والتنمية على السيطرة على أغلب مؤسسات الدولة، وأن يفرض رؤاه على مختلف هذه المؤسسات، بما دفعه بعد ذلك إلى الارتكاز على "شرعية الإنجاز" التي تحققت أيضا بفعل ما شهده المجال الاقتصادي من تطورات هائلة، مهدت السبيل لأن يحيّد المؤسسة العسكرية نفسها، وأن يطيح بأبرز معارضيه من قادتها في أكبر حركة تغييرات تشهدها القوات العسكرية التركية، وأن يتلاعب في الوقت ذاته بأكبر أحزاب المعارضة عبر استغلال إخفاقاتها وفساد نخبتها، ووقوع بعضها فريسة للنزوات والسلوكيات الخاطئة.

على محور متصل؛ كان الاتجاه التركي نحو الاعتماد على بديلين رئيسيين عن مشروعات التعاون العسكري مع إسرائيل، أولهما يتعلق بتطوير الصناعات العسكرية التركية اعتمادا على القدرات الذاتية، وقد حققت بالفعل الصناعات العسكرية التركية في هذا المجال عددا من النجاحات الملموسة، دفعت تركيا للتطلع إلى احتلال مكانة بين الدول المصدرة للسلاح، وليس المستوردة له.

 أما المحور الثاني فيتعلق بتنويع الشركاء الاستراتيجيين من خلال تطوير العلاقات مع عدد من الفاعلين الإقليمين والدوليين الجدد، ويكفي في هذا السياق أن تركيا هي الدولة الوحيدة من دول حلف الناتو التي أجرت مناورات عسكرية مع دولة من خارج الناتو عبر تاريخه، وذلك بعد أن أجرت مناورات مشتركة مع روسيا في يونيو 2008.

ومع ذلك؛ فجرأة حزب العدالة حيال التصعيد مع إسرائيل وعواقبه لا ترتبط وحسب بتلك التطورات، وإنما تتعلق كذلك برغبة حزب العدالة في استنفار قواعده الانتخابية الأكثر تدينا، وذلك استعدادا للمعارك السياسية القادمة، وعلى رأسها معركة تغيير الدستور التركي، وتحويل النظام السياسي للدولة من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، والقضاء على أي "نوافذ دستورية" يمكن أن تقضي إلى عودة نفوذ جنرالات الجيش في المجال السياسي، فضلا عن انتخاب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان كرئيس للجمهورية في محاولة لاستلهام "النمودج الأوزالي" Ozalian model، على أن يرتبط ذلك بتمتع الرئيس بصلاحيات تنفيذية.

تحولات المشهد الإقليمي

المشهد الإقليمي مثل أحد العناصر الرئيسية في تحولات العلاقات التركية الإسرائيلية؛ فأنقرة تعي جيدا أن تل أبيب باتت دولة منعزلة، تواجه تحديات داخلية متصاعدة بشأن تزايد المطالب بتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية.

كما تواجه تحديات في البيئة الخارجية تتعلق بانهيار مختلف علاقاتها الإقليمية التقليدية؛ فبعد سقوط نظام الشاه في إيران ارتكزت إسرائيل على ضلعي مثلث يتمثل أولهما في إرساء وصيانة السلام مع مصر، وثانيهما يتعلق بتوطيد العلاقات المتشعبة مع تركيا.

 غير أن سقوط نظام مبارك في مصر وتدهور العلاقات مع تركيا جعل تل أبيب تواجه عزلة إقليمية لم تواجهها منذ تأسيسها، وذلك بالنظر إلى أن تركيا هي أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل في عام 1949.

تعي تركيا أيضا أن اندلاع مظاهرات مصرية كبيرة حول مبني السفارة الإسرائيلية بالقاهرة وقيام أحد المتظاهرين بتسلق مبنى السفارة وانتزاع العلم الإسرائيلي ووضع العلم المصري بدلا منه، هذا بالإضافة إلى تصاعد الموقف المصري الرسمي حيال حادث مقتل عدد من الجنود المصريين على الحدود مع إسرائيل، بالمقارنة بحوادث شبيهة حدثت في فترات زمنية متفاوتة؛ يحمل دلالة رمزية تؤشر على تغير أنماط ومحددات صنع السياسة الخارجية المصرية.

كما يؤشر ذلك أيضا على المأزق الذي تواجهه إسرائيل، بما دفع كل من وزير الداخلية الإسرائيلي إيهود باراك ورئيس الدولة شيمون بيريز إلى الإعراب عن أسفهم لوقوع الحادث، واستعداد إسرائيل لتشكيل لجنة تحقيق مشتركة في الحادث، فضلا عما تردد عن التراجع الإسرائيلي عن شن حملة عسكرية حيال قطاع غزة استجابة للمطالب المصرية، فضلا عن دراسة السماح بزيادة عدد القوات المصرية في سيناء.

كل هذه التطورات أوحت لتركيا بأن إسرائيل تواجه مأزقا إقليميا كبيرا يتمثل فيما يواجه السلام مع مصر من مخاطر، وما تشهده سيناء من اضطرابات طالت آثارها العمق الإسرائيلي، وما يواجهه نظام الأسد في سوريا من تحديات تتعلق ببقائه، بالإضافة إلى تصاعد أدوار الشعوب العربية في تشكيل أنماط النظم السياسية، وطبيعة التوجهات الخارجية.

يأتي ذلك بالتوازي مع ما تشهده القدرات العسكرية الإيرانية من قفزات متواصلة، كل ذلك المناخ الإقليمي اعتبرته تركيا فرصة مثالية للثأر من إسرائيل بعد حادث قافلة الحرية، وذلك في الوقت الذي اعتقدت فيه أن رد الفعل الإسرائيلي لا يمكن أن يرقى إلى مستوى الحدث، فلا يمكن لتل أبيب ترك مثل هذه التحديات وتتجه للتصعيد مع تركيا.

مأزق غربي

استتبعت تركيا قراراتها بشأن التصعيد مع إسرائيل، بإعلان قبولها نشر الدرع الصاروخية على أراضيها، وذلك رغم التحفظات العديدة التي كانت تبديها حيال المشروع قبل ذلك، رغبة منها في تفادي ضغط دولي غربي على تركيا من ناحية، وإدراكا من ناحية أخرى أن تسويق نشر الدرع الصاروخية محليا يحتاج إلى سياسة تشتيت الانتباه عبر التصعيد مع إسرائيل.

على جانب آخر؛ فإن تركيا باتت تدرك المأزق الذي تواجهه الدول الغربية في المنطقة العربية في ظل تصاعد وتيرة الثورات وتنامي أدوار التيارات الإسلامية، بما يدفع إلى الرغبة الغربية في استخدام أنقرة إما كوسيط أو وكيل لحلحلة بعض الأزمات كالأزمة السورية، أو للترويج للنموذج التركي في مواجهة التيارات المتشددة، كما في حالة كل من مصر وتونس، أو كفاعل إقليمي مهم في مواجهة النفوذ الإيراني الذي يحاول التغلغل على مختلف الساحات العربية.

 وتدرك القيادة التركية أيضا أن العالم الغربي يعاني من شدة أزماته الاقتصادية المتواصلة مند عام 2008، وأن الولايات المتحدة تواجه مأزقا في العراق وأفغانستان قد يدفعها إلى مغادرة الدولتين بنهاية هذا العام، بما يطلق مساحات شاسعة لحركة إيران الإقليمية، بما من شأنه أن يعيد تركيا إلى "رتبة حليف إستراتيجي لا يمكن الاستغناء عنه"، كما كان الحال إبان الحرب الباردة.

وبالإضافة إلى ذلك فإن القراءة التركية لطبيعة الأحداث الإقليمية والدولية، تشير إلى أن منطقة الشرق الأوسط قد تشهد تصاعد أدوار إقليمية لبعض الدول على رأسها مصر، كما قد تشهد عددا من الصراعات تتراجع بفعلها أهمية الصراع العربي الإسرائيلي.

من الغرب إلى الشرق

وفيما يتعلق بالساحة الدولية، فإن القراءة التركية تشير إلى أن ثمة حركة لموازين القوى تتجه من الغرب إلى الشرق، وأن العقود القادمة قد تشهد تصاعد القوة السياسية والاقتصادية لعدد من الدول على رأسها كل من الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا وتركيا، لذلك فإن "المثالية" في التفكير التركي قد تكون أحد العوامل الرئيسية لتشكل توجهات السياسية الخارجية التركية.

 خلاصة القول: إن دوائر التوتر المغلقة في العلاقات التركية الإسرائيلية قد تستمر لسنوات، بما قد يجعل من استعراض القوة البحرية التركية عبر شرق المتوسط وإعلان ضمان حرية الملاحة في المياه الدولية، وقيام إسرائيل في المقابل بتعبئة بعض وحداتها البحرية، ما هي إلا سلسلة من حلقات التوتر التي لا يمكن أن تنفرج أو تشتعل، إلا من خلال عوامل طارئة قد تحدث تغيرات جوهرية على أي من الساحتين الداخليتين في الدولتين، أو بفعل تبدل في المشهدين الإقليمي أو الدولي، وهي عوامل تبدو بوادرها غائبة عن هذه الساحات.


رابط دائم: