" حسابات تل أبيب"| كيف تتعامل إسرائيل مع الثورات العربية ؟
15-8-2011

د. حسن البراري
* أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية

كانت نشأة إسرائيل بقرار أممي، لم يحظ بتأييد جيرانها الإقليميين، سببا في أن يصبح محيطها القريب وعمقه الجيوستراتيجي، المنطوي أصلا علي تقارب ثقافي بين أطرافه، مصدرا مستمرا للتهديد بالمعني الوجودي في بعض الفترات، وبالتالي بنت إسرائيل علي الدوام سياستها الأمنية والدفاعية وفقا لتغيرات البيئة الإقليمية التي تنتمي إليها.

فعلي حين تميزت المرحلة من 1948 إلي 1979 بتحديات أمنية ذات طابع "وجودي"، كون مصادر التهديد للأمن الإسرائيلي "دولا" تتبني عقيدة إزالة الدولة العبرية، كحل نهائي لمشكلة الصراع العربي -  الإسرائيلي، فإن المرحلة اللاحقة التي امتدت من عام 1979 (تاريخ توقيع إسرائيل لمعاهدة السلام مع مصر) وحتى نهاية عام 2010 شهدت تغير نوع التهديد ومستواه، والذي أتي بالدرجة الأولي من كيانات "تحت دولة" (حزب الله، وحركات التحرر الفلسطيني مثل حماس والجهاد).

ونظرا لمحدودية قدرة هذه التنظيمات أو الكيانات عسكريا واقتصاديا، فقد تبنت عقيدة "إنهاك" إسرائيل بعمليات نوعية استهدفت تقويض الأمن اليومي للمواطن الإسرائيلي، انتظارا لتغييرات قد تتحقق في الأوضاع الإقليمية تزيد من قوة ومناعة محور ممانعة، تقوده دول (إيران، سوريا) لم تتخل - ولو ظاهريا - عن إزالة إسرائيل من الوجود.

وإذا كانت إسرائيل قد تعاملت بنجاح مع مصادر التهديد الأولي، وتمكنت بعد حروب عديدة معها من انتزاع اعتراف منها بحقها في الوجود، بل ووقعت اتفاقات سلام مع مصر والأردن،كما تمكنت من توسيع نطاق التطبيع بإقامة علاقات دبلوماسية ذات مستوي تمثيلي منخفض مع عدد من الدول العربية، عقب توقيع اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين عام 1993، فإن مصادر التهديد الثانية طرحت بشكل متواتر تحديات أمنية صعبة على إسرائيل، قادتها إلي حربيين كبيرتين نسبيا مع حزب الله عام 2006، وحماس عام 2008. ورغم الهدوء النسبي الذي تمتعت به إسرائيل علي حدودها الشمالية والجنوبية حتى اليوم، فإن تزايد احتمالات المواجهة مع تلك الكيانات لا يزال قائما.

 وتدفع تصريحات القادة الإيرانيين التي لا تخفي رغبتها في اختفاء الدولة العبرية من خريطة الشرق الأوسط، جنبا إلي جنب مع الثورات البازغة في المنطقة العربية، والتي أطاحت بنظام حكم الرئيس مبارك في مصر وبن علي في تونس، وانتقال عدوي هذه الثورات بنسب متفاوتة في ليبيا واليمن والبحرين، مع عدم استبعاد إمكانية امتدادها لبلدان عربية أخري مستقبلا، وأيضا التحولات الجارية في السياسة الخارجية التركية - تدفع كل هذه التطورات بقلق إسرائيلي بالغ علي أمنها وبقائها، خاصة مع حصول التنظيمات الإسلامية التي كانت محظورة في السابق علي الشرعية في مصر - علي وجه الخصوص - ونيتها للسعي إلي السلطة عبر الديمقراطية، دون أن تغير موقفها من إسرائيل، والذي يتماهى مع موقف إيران وسوريا والكيانات تحت الدولة التي ذكرناها، الأمر الذي يحول الشرق الأوسط إلي بيئة تنطوي على تهديدات مزدوجة للأمن الإسرائيلي، خاصة مع قدرة تنظيمات، مثل حماس وحزب الله، على استغلال الأوضاع القائمة لتوريط أكثر من بلد عربي، يشهد قلاقل وتغييرات سياسية واسعة حاليا، في حروب ضد إسرائيل مستقبلا. فكيف نظرت إسرائيل إلى مثل هذا الوضع الجديد؟ وما هي السياسات التي ستتبعها مستقبلا للتعامل معه؟.

مصر مصدر الخطورة الكبرى:

بعد نجاح المصريين في ثورتهم الأخيرة، شعرت إسرائيل بحيرة استراتيجية غير مسبوقة من حيث النوع، فقد أخفقت كل أجهزتها الاستخبارية في توقع اندلاع المظاهرات السلمية وقوتها وهدفها النهائي. فبعد اندلاع الثورة المصرية، حذر رئيس الوزراء الإسرائيلي "نتنياهو" الغرب منمغبة السماح بهزيمة الرئيس مبارك، لأنها ستكون فاتحة لتغيرات كبيرة لا تخدم الغرب ولا إسرائيل.

 وفي مقال للمحلل الإسرائيلي "الوف بن"، نشرته صحيفة هآرتس، تناول فيه التوجه الإسرائيلي الاستراتيجي، إذا ما وصلت الأمور في مصر لنهايتها المنطقية، ورحل النظام - وهو ما حدث بالفعل - استعرض خسائر إسرائيل في تحالفاتها الإقليمية عبر العقود الثلاثة الأخيرة قائلا: فقدنا إيران كحليف بسقوط الشاه وصعود النظام الإسلامي في طهران، ونخسر تركيا الآن بعد التحولات الكبيرة في سياستها الخارجية، مما يعني أن الدول غير العربية التي كانت تتحالف مع تل أبيب وتشتت الجهد العربي تاريخيا، أصبحت خارج حسبة التحالف، بل وأصبحت تنافس إسرائيل إقليميا.

وإذا ما حدث تغيير جذري في مصر- وهو بالفعل ما حصل- وجاء نظام يمثل موقف الشارع المصري الحقيقي من إسرائيل، فإن الأخيرة ستعاني الأمرين، وستتعمق عزلة إسرائيل، وهي فرضية يرى "ألوف بن" أن علي إسرائيل بناء سياساتها في المرحلة القادمة استنادا عليها.

يؤكد الرؤية نفسها نائب رئيس الحكومة الإسرائيلية سيلفان شالوم، بقوله: إذا ما استبدل بالأنظمة المحيطة بإسرائيل أنظمة ديمقراطية، فإن من شأن ذلك أن يوجه تهديدا كبيرا للأمن القومي الإسرائيلي. فالدول العربية وإسرائيل- علي حد تعبير الوزير شالوم- تشترك في عدائها للأصولية الإسلامية والتنظيمات الناجمة عنها، وهي تهدد إسرائيل. ويصر شالوم على أن التهديد الناتج عن الأصولية الإسلامية هو السبب الرئيسي في التنسيق الاستخباري المباشر وغير المباشر بين إسرائيل وعدد من الأنظمة العربية.

غير أن أنظمة عربية ديمقراطية لن تتعاون مع إسرائيل علي حساب الحقوق العربية. ولهذا السبب، فإن خشية الإسرائيليين من الشارع العربي هي أمر مفهوم، فالجماهير العربية لها مواقف متشددة من إسرائيل بسبب سياسات الأخيرة تجاه الفلسطينيين وسياسة استمرار الاستيطان، ومصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ومن المستبعد أن يحدث تحول في الرأي العام العربي الذي يري أكثر من 90% منه أن إسرائيل هي عدو، كما تكشف عنه الكثير من استطلاعات مراكز مسحية عالمية، أهمها مؤسسة جالوب الأمريكية.

ونشير هنا إلي أن الحركات الإسلامية استعملت في السابق، ولا تزال، كفزاعة لاستنفار المجتمع الدولي لمساعدة الأنظمة العربية التسلطية ومباركة وجودها، حتي لو كانت هذه الأنظمة فاسدة ومفسدة. ورأينا كيف حاول العقيد معمر القذافي توظيف هذه الفزاعة - في محاولة بائسة لحشد تأييد الغرب لحربه علي الشعب الليبي- عندما قال إن تنظيم القاعدة هو وراء ما يحدث في ليبيا، وإنه في حال انتصار تنظيم القاعدة علي النظام الليبي، فإنها ستهدد المنطقة حتى إسرائيل. واللافت أن القذافي يخطب ود الإسرائيليين، عسى أن يمارسوا ضغطا على واشنطن، لكيلا تتدخل، حتى يقضي القذافي على الثورة الليبية.

والقذافي بهذا المعني يعرض على إسرائيل تعاونا بشكل غير مباشر، ويذكر الأوروبيين بأنه أسهم في الحفاظ على أمن المتوسط حتى اليوم.  ويروي بن فؤاد إليعازر -في مقابلة تليفزيونية على القناة الإسرائيلية- كيف حذره مبارك من انتقال العصيانات المدنية إلى كل الدول العربية، متوقعا أن ذلك لن يستثني دولة عربية واحدة. كما أكد أن الإسلاميين والمتطرفين سيتولون دفة الحكم في أكثر من بلد، وما يعنيه ذلك من إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار الإقليمي.

والدرس الذي استنتجه الإسرائيليون في النهاية هو أن أي تحالف تقيمه إسرائيل مع أي دولة غير ديمقراطية يمكن أن ينتهي خلال أيام، إذا ما تحرك الشارع، كما حدث في مصر.

وقد حذر إيميلي لاندو من أن طريق الديمقراطية التي يبشر بها الغرب هي طويلة. فحكم الأغلبية لا يضمن الديمقراطية على حد تعبيره، لأن ذلك يتطلب من المجتمع بشكل أوسع فهم ضرورة احترام حقوق الأقليات والتسامح، وحرية الإعلام، وتوازن السلطات، وحقوق الإنسان، ولهذا السبب احتاج الغرب لمائتي عام تقريبا، حتى تكون عنده ديمقراطيات مستقرة.

 اتجاهات تحليلية مخالفة:

مع كل هذه المخاوف التي تراها النخب الإسرائيلية مخاوف مشروعة، هناك اتجاه تحليلي في إسرائيل يرى فيما حدث فرصة، على إسرائيل اغتنامها خدمة لمصالحها طويلة الأجل. فقراءة سريعة في تاريخ الصراع في الأعوام الأربعين الماضية تكشف عن أن التحرك باتجاه السلام يأتي بعد أن تكون هناك حالة من عدم الاستقرار في المنطقة، بدليل أن حرب عام 1973 مهدت لاتفاقية السلام، ومهدت الحرب على العراق لمؤتمر مدريد، ولكن بشرط أن تقبل إسرائيل بحل الدولتين في حدود الرابع من يونيو 1967 .

غير أن هناك اتجاها تحليليا آخر يرى أن الفوضى "الخلاقة" تقدم فرصة لإسرائيل لحل مشاكلها الديموجرافية. ويعبر عن هذا التصور توم سيجف، أحد أهم المؤرخين الإسرائيليين، الذي يتمني أن تحدث ثورة في الأردن، بحيث تتم الإطاحة بالنظام الأردني. وهو يعلل ذلك بأن ثورة في الأردن ستفضي في نهاية الأمر إلى إنهاء القضية الفلسطينية عن طريق تحقيق الوحدة بين الضفة الغربية والأردن الذي تسكن فيه أعداد كبيرة من الفلسطينيين.

 إيران هي الهاجس الأهم:

غير أن النقطة الأكثر أهمية بالنسبة لإسرائيل هي كيف سينعكس التغيير في مصر تحديدا على موقف إيران الاستراتيجي، حيث إن أحدا لا يعرف كيف ستتصرف القيادة المصرية الجديدة بعد أن تستقر الأوضاع. وهناك قلق إسرائيلي من مستقبل العلاقة بين مصر وإيران، خاصة إذا تشكلت حكومة إسلامية في مصر، وتحالفت مع إيران، بما يفرض علىإسرائيل معدلات إنفاق عسكرية باهظة، وسيكون ذلك على حساب رفاهية المجتمع، كما كان سائدا قبل اتفاقات كامب ديفيد.

غير أن هناك أغلبية من المحللين الإسرائيليين يستبعدون مثل هذا التحول، ويرون أن التغير الذي حدث في مصر لم ولن يذهب بأي شكل باتجاه التغير الذي حدث في إيران في عام 1979، عندما أنهت إيران وبجرة قلم واحدة تاريخ العلاقات الوثيقة بين شاه إيران وتل أبيب. وحتى هذه اللحظة، لم تستعد إسرائيل علاقاتها مع طهران، بل على العكس من ذلك فهناك درجة عالية من العداء المتبادل، وتحضيرات في السر والعلانية للتعامل مع إمكانية تطوير إيران لقدرات نووية تقلق مضاجع الإسرائيليين.

التقديرات الإسرائيلية الأكثر قوة هي أن الحالة المصرية ستكون أقرب للتجربة التركية منها للتجربة الإيرانية. صحيح أن تل أبيب قلقة من تنامي المشاعر التركية المعادية لإسرائيل وسياساتها، لكن لم تلوح أنقرة، ولو مجرد تلميح، بالصدام المسلح مع تل أبيب. فكل ما هناك هو أن تركيا تريد أن ترى تقدما في عملية السلام، وهو عكس ما تريده إيران التي تستفيد من فشل مقاربة السلام. بمعني أن مصر ستطور نظاما لن يكون بالقرب نفسه، كما هو الحال مع نظام حسني مبارك، لكنه قد يكون أقرب للنموذج التركي منه إلى سياسة إيران التي تثير الرعب في تل أبيب.

 ومما لا شك فيه أن الشرق الأوسط يتغير سريعا، ويضع إسرائيل أمام تحديات صعبة، ربما أهمها اضطرارها للتعامل مع اللا يقين الغالب على السيناريوهات المنظرة، وهو ما يحتاج إلى دينامكية في التعامل، ورسم استراتيجيات متوافقة مع معدلات تغيير كثيفة وسريعة. إلا أن حالة الانقسام الشديدة الغالبة على مؤسسات صنع القرار في إسرائيل تضع قيودا كبيرة أمام التعامل مع شرق أوسط يحتوي على تنافس مشروعات مختلفة، لا يتنازل أقطابها عن لعبة الجمع الصفري zero  sum game   التي تناسب تاريخا مضى في العلاقات الدولية والإقليمية، ولا تتواءم مع مستجدات العصر.

 مراجع أساسية  :

- ليف جرينبورج ،سلام متخيل، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، رام الله، ديسمبر 2007.

- تريتا بارزي ، حلف المصالح المشتركة، الدار العربية للعلوم، بيروت 2008.

---------------------------

(*) التحليل نشر في ملحق تحولات استراتيجية، مجلة السياسة الدولية، العدد 184 أبريل 2011.


رابط دائم: