" محاسبة الرؤساء": |التداعيات الإقليمية لمحاكمة مبارك
10-8-2011

د. عصام عبد الشافي
* باحث في العلوم السياسية

بعد أن أصبح الخامس والعشرون من يناير 2011 يوما تاريخياً ليس فقط في حياة الشعب المصري، ولكن أيضاً في حياة العديد من الشعوب العربية، سيكون يوم الثالث من أغسطس 2011 يوما تاريخياً آخر في حياة هذه الشعوب. ففي هذا اليوم، بدأت أولي جلسات محاكمة الرئيس السابق محمد حسني مبارك، وعدد من أركان نظامه، في محاكمة وطنية هي الأولي من نوعها، وفقاً لطبيعتها وظرفها في التاريخ المصري والعربي.

جاءت المحاكمة نتيجة تطورات ومطالب شعبية، وليس نتيجة ضغوط وإملاءات خارجية. وبغض النظر عما يمكن أن تنتهي إليه هذه المحاكمة من أحكام أو إدانات، تبقي المحاكمة حدثاً تاريخياً، بكل المقاييس والمعايير السياسية والاجتماعية والثقافية، يزيد من أهميتها ما يمكن أن يترتب عليها من تداعيات إقليمية، خاصة على النظم السياسية والقوي الشعبية في المنطقة العربية ، إذ إن الرئيس أو الملك لم يعد محصنا من المحاسبة ، حتى لو كان مدعوما من الخارج.

ويمكن تناول هذه التداعيات وفق عدة مستويات تحليلية ـ رئيسية وفرعية ـ وذلك على النحو التالي:

أولا- التأثيرات المحتملة فى الثورات العربية:

تشهد عدة دول عربية ثورات مستمرة منذ عدة شهور، تحول بعضها إلى مستويات عالية من العنف والدموية، وصلت إلى تدخل القوات العسكرية الأجنبية، كما في الحالة الليبية، والاستخدام المفرط للقوة من جانب القوات الأمنية، كما في سوريا ، والأزمة الحادة التي تشهدها اليمن.

وفي الحالات الثلاث، وصلت النظم السياسية إلى مراحل متدنية من الشرعية، وغياب المصداقية، وتراجع التأييد الداخلي والخارجي. وكانت البداية في ليبيا مع تشكيل مجلس وطني انتقالي وتزايد الاعتراف الدولي به، ثم جاء دور اليمن، مع خروج الرئيس علي عبد الله صالح من البلاد لتلقي العلاج في السعودية ، والآن تقترب سيناريوهات الرحيل من النظام السوري.

وفي إطار هذه المجموعة من الدول، يمكن التمييز بين مستويين فرعيين من مستويات تأثير محاكمة مبارك، أولهما على مستوي النظام السياسي، إذ وضعت محاكمة مبارك الحكام العرب في مأزق شديد أمام طموحات وتوقعات شعوبهم نحو الديمقراطية والليبرالية. ولم يعد أمام الكثير من هذه الأنظمة العربية سوى تقديم المزيد من التنازلات نحو مطالب شعوبهم هروباً من مصير النظام المصري. فالتجربة المصرية الفريدة في المحاكمة الداخلية الذاتية أعطت  الشعوب العربية الجرأة والشجاعة لتكرار ما حدث في مصر، بعد إزالة حاجز الخوف الفاصل بين الحاكم والشعوب العربية، وبالتالي سيكون سقف المطالب أكبر.

إلا أنه في المقابل، يمكن القول إن هذه المحاكمة ستزيد من صعوبة مهمة الثورات التي تناضل من أجل الحرية، فالثوار سيواجهون تمسكا أكبر للحكام بكرسي السلطة. وفي سبيل تحقيق ذلك، سيفرطون في العنف تجاه الثوار، كما أن فكرة التنحي بعد مشهد مبارك أصبحت غير واردة على الإطلاق، لأن هؤلاء الحكام سيكون لديهم خوف أكبر من محاكمتهم، كما حدث مع مبارك. يزيد من هذا الخوف الغياب المؤسسي في هذه الدول مقارنة بمصر، بما يفتح الطريق أمام محاكمات قد يغلب عليها الانتقام والتشفي وضعف معايير الموضوعية والعدالة.

أما المستوى الآخر ، فهو القوي والجماعات الثورية ، إذ إن من شأن هذه المحاكمة، وبالشكل الذي تمت به، أن ترفع الروح المعنوية لهذه القوي وتلك الجماعات، وتضاعف من قوتها وإصرارها على تحقيق أهدافها، خاصة وهي تري قوة التأثير الشعبي فى مسار الأحداث وتطوراتها في الحالة المصرية، وثقة هذه الشعوب في نفوسها، وفي أنها لا تقل عزيمة أو إصراراً عن الشعب المصري، وعن الملايين التي تخرج أسبوعياً في كل ميادين مصر، للحفاظ على ما تحقق من مكتسبات وتصحيح مسار الثورة.

ثانيا - رسائل للدول العربية الكامنة:

في مقابل المجموعة الأولي من الدول الثائرة، توجد مجموعة أخرى من الدول التي تشهد ثورات كامنة، أو مؤشرات على ثورات قادمة، في ظل النيران الكثيرة الكامنة تحت رماد هذه النظم، وفي مقدمة هذه الدول الممالك العربية الأربع (البحرين والسعودية والأردن والمغرب)، وكذلك الجزائر، ناهيك عن العراق وإيران، لو قمنا بتوسيع دائرة التأثيرات الإقليمية.

ووفق هذا المستوى، يمكن القول إن المحاكمة تشكل رسالة للنظم السياسية في دول الخليج التي تعد الأكثر تضررًا من محاكمة مبارك، لأنها تخشى من تحول المحاكمة لنموذج يحتذى به بعد ذلك، ويشجع الشعوب للخروج على تلك الأنظمة هناك، ولذلك قامت مبادرة هذه الدول لإنهاء الأزمة في اليمن، على أساس عدم محاكمة الرئيس على عبد الله صالح بعد تخليه عن السلطة.

من ناحية أخرى، فإن هذه المحاكمة تمثل رسالة لقادة هذه الدول بأن محاسبتهم أو حتى تقييد صلاحياتهم أمر ممكن، متى أراد الشعب ذلك، وأن الولايات المتحدة قد لن تقف إلى جانبهم، كما حدث مع مبارك، الذي كان الأقرب لها من الكثيرين منهم.

 ثالثا- المحاكمة والثقافة السياسية العربية:

وفق هذا المستوى، تبرز عدة تداعيات، من بينها: أن مشهد المحاكمة أعطى نموذجًا بأن سيادة القانون فوق كل شيء، وليس سيادة مبدأ الانتقام والفوضى، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، فإن المحاكمة  كما جاء في أولي جلساتها تقدم صورة حضارية سامية، لأنها استوفت شروط الادعاء والدفاع، وحضور الشهود ليدلوا بأقوالهم، رغم الشحن الإعلامي الكبير، ورغم طبيعتها السياسية وارتباطها بأشخاص كانوا في قمة النظام السياسي، بما يمكن أن يؤثر في مساراتها، وهي سابقة تعطي دلالة بأن القضاء يجب أن يتمتع باستقلاليته ونزاهته، والنهوض بدوره في الدفاع عن الحقوق والحريات ضد كل من ينتهكها أو يلتف عليها، مهما تكن سلطاته، ومهما يكن موقعه، وبغض النظر عن انتماءاته السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية أو الدينية أو العرقية.

من ناحية ثالثة، فإن ظهور الرئيس السابق، بالصورة التى كان عليها، من شأنه أن يفرز تغييراً كبيراً في نظرة القداسة التي تخلعها الشعوب العربية على حكامها، كما تشكل في الوقت نفسه آية لكل الرؤساء والحكام الذين يعيثون فسادا في شعوبهم.

رابعا- بحثاً عن العدالة .. من التالي؟

في ظل التأثيرات والتداعيات السابق الإشارة إليها، يبرز سؤال مهم حول من التالي من الرؤساء والقادة العرب الذي يمكن أن يخضع للمحاكمة، في إطار البحث عن العدالة.

إن رؤساء الدول يتمتعون بحصانات قانونية داخلية ودولية، كما أن محاكماتهم تخضع لتوازنات دولية ومصالح سياسية، فالرئيس السوداني عمر البشير صدرت ضده مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية، ولم ينفذ القرار حتى الآن، وهو ما تكرر مع العقيد الليبي معمر القذافى الذى صدرت ضده مذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية في السابع والعشرين من يونيو الماضي.

وعلى الرغم من صدور هذه المذكرة ، فإننا أمام احتمالين، الأول: أن تتم محاكمة القذافى، من خلال حلف الناتو، بعد أن يتم القبض عليه وتقديمه للمحكمة الجنائية الدولية، والثاني: أن يتم القبض على القذافي عن طريق المجلس الانتقالى الليبى والثوار الليبيين، ثم نجاحهم فى الاستيلاء على الحكم، وتقديم القذافي لمحاكمة داخلية، على غرار ما حدث في مصر.

وفيما يتعلق بالرئيس السوري، بشار الأسد، فالحالة شديدة التعقيد، خاصة مع زيادة عدد القتلي والجرحي، والاستخدام المفرط للقوة من جانب قوات الأسد، دون وجود قوات دولية تحد مما يقوم به بشار.

وعلى الرغم من تهديد كل من روسيا والصين باستخدام حق الفيتو لمنع إصدار أى قرار من مجلس الأمن بالتدخل فى سوريا، فإن تفاقم الأوضاع الإنسانية في سوريا، ومع تغير مواقف بعض الدول، وفي ظل الاعتبارات الإقليمية، التي تقوم في جانب منها على تصوير الصراع في سوريا على أنه يتم بدعم إيراني لنظام بشار، فإن ذلك يمكن أن يشكل دعما للثوار في سوريا، ويزيد من إصرارهم وتماسكهم، ويقود في نهاية المطاف لصدور مذكرة توقيف دولية بحق بشار، كمقدمة لمحاكمته، بما يتفق والتوازنات الإقليمية والدولية.

وقد بدأت بالفعل عدة مراكز ومؤسسات حقوقية التحرك في هذا الإطار، من خلال إعداد مذكرات جنائية ضد الرئيس السورى، وتقديمها إلى المحكمة الجنائية الدولية، تطالب فيها بضرورة إصدار قرار فورى بتوقيف الأسد واعتقاله، تمهيداً لمحاكمته عن تلك الجرائم بصفة المسئول عن تابعيه، بالإضافة إلى مخاطبة مجلس الأمن الدولى لحثه على اتخاذ إجراءات عاجلة تجاه السلطات السورية، وصولاً لمحاسبتها على ممارستها القمعية تجاه مواطنيها.

وأياً كانت السيناريوهات المحتملة، فإن الاعتبارات السياسية تبقى حاضرة وبقوة في هذه المحاكمات، فالدول في سياساتها الخارجية، بل وحتى في كثير من سياساتها الداخلية، نحت القيم والمبادئ الأخلاقية جانباً، وأصبحت المصالح هي الأداة التي تتحكم في تحديد المسارات ورسم السياسات.

 ومن هنا، وحفظاً للحقوق الدنيا من هذه القيم وتلك المبادئ، وحتى لا تكون هذه المحاكمات مقدمة لحمامات من الدماء تحت نزعة التشفي والرغبة في الانتقام، ومزيد من التفتيت والانقسامات في الدول العربية، فإن سيناريو المحاكمات الدولية هو البديل الأنسب، وإن كان ليس الأفضل في مثل هذه الظروف الاستثنائية، التي تمر بها منطقتنا العربية.


رابط دائم: