"مفاجآت إدراكية":|ملامح الجيل الجديد للثورات العربية
9-8-2011


*

لا ينفصم جيل الانتفاضات والثورات العربية الذي هيمنت عليه الشرائح الشبابية عن الواقع والبنية الاجتماعية القائمة في الدول العربية، إذ إن الثورات لا تبدأ من العدم، أو تقوم في فراغ سياسي او اجتماعي ، لكنها تعبر عن تراكم طويل المدي ، يحدث في البني السوسيولوجية وأنظمة السلطة.

ورغم أن المدركات التي سادت الدراسات والبحوث الاجتماعية، قبل موجة الانتفاضات الأخيرة ، تمترست حول أننا إزاء شرائح شبابية  تشكل 60% من  السكان العرب - انغمست إما في الثقافة الاستهلاكية الأمريكية و حالة اللا سياسة واللا أدلجة والتسطيح تارة ، وإما في " الانخراط " في الهويات المحلية الدينية أو الطائفية تارة أخري.

إلا أن "المفاجأة الإدراكية" أن تلك المكونات التي اعتبرها البعض تستعصي علي ولوج التغيير بدت أكثر فاعلية في التحريك والحشد والإصرار علي دفع تكلفة التغيير، عبر أطر وممارسات شبكية افتراضية وغير سلطوية، سواء في مصر أو تونس أو اليمن وغيرها، باختلاف الدرجات والفاعلية.إن السطور القادمة تسعي لمحاولة إجلاء الغيمة عن بعض من ملامح جيل الثورات العربية ومدركاته وآليات تفاعله، وقدرته علي صنع التغيير الثوري.

أولا - ملامح جيل الثورات:

إذا كان مفهوم الجيل يعبر عن التجربة السياسية والاجتماعية المشتركة لمجموعة الأفراد ، سواء كان صراعا أو تواصلا أو حتي تمردا ، وليس مجرد السن، فإن جيل الانتفاضات العربية اتسم بمجموعة من الملامح التي تراوحت ما بين انخراطه في العولمة بقيمها وآلياتها وأفقها، وارتباطه بمحلية تكوينه السوسيولوجي، لجهة الهوية العربية والإسلامية .

ولعل شعار " الشعب يريد إسقاط النظام " الذي رفعته ثورتا مصر وتونس، وامتد لليمن وليبيا، لم يكن تعبيرا فحسب عن محاولة التمرد علي سيطرة جيل علي الحياة السياسية والمجتمعية العربية لعقود، وإنما يمكن فهمه علي أنه توجه لهذا الجيل لبناء عالم جديد (حرية، عدالة، كرامة) يناسب مدركات هذا الجيل التي تشكلت في ظل انسداد الحراك المجتمعي وتجلط شرايين السلطة.وعلي ذلك ، فثمة ملامح أساسية لجيل الثورات والانتفاضات العربية يمكن تحديدها فيما يلي:

1- تنشئة سياسية شبكية لا هرمية، إذ خرج جيل الثورات العربية من رحم تنشئة شبكية لم تدركها الأبنية السياسية السلطوية في المنطقة العربية، سواء الأحزاب أو مؤسسات التعليم أو غيرها. فاستخدام الفيس بوك وبقية وسائل الاتصال الاجتماعي ليس مجرد أداة تواصل كما يراها البعض فحسب، بل تحمل قيما تسللت لتلك الشريحة الجيلية. فالممارسات في هذا العالم الشبكي تكسر السلطة، وترفض التابوهات، وتدفع مستخدميها إلي "بلوغ الخيال السياسي".

ولعل هذا هو الذي جعل نخبة من الأجيال القديمة تتصور أن ما يقوم به الشباب في مصر وتونس لا يمكن أن يصل إلي إسقاط النظام، دون إدراك أن الثقافة الشبكية للجيل الجديد تأسست علي كسر أي تابو ، وعدم الانقياد وراء سقف طموحات معين، حتي إننا نجد أن حركة المتظاهرين في مصر كانت تذهب بالمطالب إلي أقصي الطريق كلما تنازل النظام ، لأن خيالهم ليس محدودا بالحسابات السلطوية للجيل القديم.

2- تمازج العالمي والمحلي ، وهو ملمح مهم في فهم الجيل الجديد للثورات العربية ، إذ إن هذا الجيل تخطي مرحلة الأدلجة أو - إن صح التعبير - يمكن وصفه بأنه ما بعد حداثي" تختلط فيه القيم. ولعل نموذج الشاب وائل غنيم، مؤسس صفحة خالد سعيد، الذي يعمل في جوجل، هو تعبير عن هذه الحالة، فهو خريج جامعة القاهرة، وحصل علي ماجستير من الجامعة الأمريكية. ورغم أنه غير مؤدلج، فإنه انخرط في مواجهة الدولة البوليسية بذات طريقة التنشئة الشبكية عبر صفحته خالد سعيد.

النموذج ذاته تكرر في تونس، إذ إنها من دول التعليم المرتفع المرتبط بالثقافة الفرنسية.ولذا، كان هناك إدراك خاطئ بأن قضية جيل المتظاهرين هي البطالة فحسب، وإنما تطلعهم إلي بناء عالم جديد يوائم بين عالميتهم ومحليتهم.

3- إعلام ووعي بديل، إذ إنه منذ بداية الألفية الجديدة، تعرض هذا الجيل إلي وسائل اتصال (إنترنت، فضائيات) لم تكن متاحة من قبل لغيره، أشبعته برسائل إعلامية قوامها فكرة التمرد والرفض لكل ما يأتي من إعلام السلطة. وبينما كانت الاتهامات لشباب الفيس بوك قبل الثوراتالعربية بأنهم يقومون بعمليات تنفيس عما يجول في نفوسهم علي هذا الإعلام البديل، وأنهم يعانون عزلة شعورية عن العالم الواقعي، فإن المفاجأة أن هذا الإعلام البديل وفر وعيا مستقلا وحركيا عن السلطة القائمة،ودمج بين العالمين الافتراضي والواقعي.

لقد كشفت الثورة المصرية عن أن ظاهرة المواطن الصحفي تفوقت في الأخبار علي الشبكات الإعلامية التقليدية، لاسيما بما تمتلكه من سرعة وقدرة التأثير وعدم الانسياق لحسابات المصالح الإعلامية. وفي هذا الصدد، برزت مجموعة أو "شبكة رصد" علي الفيس بوك، باعتبارها مصدرا رئيسيا للأخبار والمعلومات عن الثورة المصرية، خاصة عندما قررت السلطات عزل مصر عن العالم في ليلة الثامن والعشرين من يناير 2011، أو ما عرف بجمعة الغضب ولمدة ثلاثة أيام. وبالتعاون بين مجموعات من الشباب تتراوح اعمارهم بين 18و25  داخل مصر وخارجها، تمكن العالم من متابعة الأحداث المثيرة في جميع محافظات مصر.

4- القدرة علي دفع ضريبة التغيير، إذ إن أحد المدركات الخاطئة التي راهنت عليها السلطات العربية في مواجهة الجيل الجديد هو رفضها لدفع أي ضريبة تغيير، مستندة إلي طبيعة الطبقة الوسطي التي هيمنت عليها ثقافة الاستقرار والسلبية والخوف من الطبيعة البوليسية للدولة. إلا أن هذا الجيل الجديد الذي خرج من رحم هذه الطبقة فاجأ السلطة بقدرته علي دفع ضريبة التغيير. فغالبية من قتلوا في الثورة المصرية ينتمون للطبقة الوسطي بمستوياتها المختلفة. كما شهدت مجموعات الإنترنت دعوات للعصيان المدني انضم إليها عشرات الآلاف من الشباب، وقد وفرت بيئة مناسبة لتطوير الوعي السياسي والثقافي وتطوير أساليب الحركة السياسية والاحتجاجية.

ومن أبرز هذه المجموعات علي الفيس بوك جروب "خالد سعيد" الذي ضم قبل ثورة 25 يناير ما يزيد علي 350 ألفا، و"الحملة الشعبية لدعم البرادعي" التي وصل عدد المنضمين إليها إلي أكثر من 300 ألف، وقد تضاعفت هذه الأعداد بالتأكيد بعد نجاح الثورة.

5- إسقاط أسطورة التنظيمات السياسية، إذ إن الجيل الجديد للثورات العربية أسقط فكرة أن التنظيمات السياسية تقود متظاهرين إلي الاحتجاج وعكست المعادلة. فالدعوة للمظاهرة لا تستلزم بالضرورة وجود تنظيم محكم ودقيق يدعو وينظم الشباب، ولكن يتم الاكتفاء بإعلان الدعوة علي الفيس بوك، فينزل الشباب في مختلف المحافظات في توقيت محدد وفي أماكن محددة، دون وجود قيادة، وهو أحد أبرز ملامح ثورة 25 يناير.

وبدأت هذه الظاهرة من خلال الدعوة في السادس من أبريل 2008 إلي إضراب عام في مصر، وما ترتب عليه ذلك من أحداث صاخبة وعنيفة في مدينة المحلة الكبري، أثبتت فاعلية دور الشباب ونجاحهم في استغلال الفرص التكنولوجية المتاحة، وأسهمت في بلورة وتشكيل الكثير من المجموعاتوالحركات الشبابية الجديدة، مثل 6 أبريل، والحرية والعدالة، والحملة الشعبية لدعم البرادعي، إلي جانب تنشيط الحركات التقليدية وبث الحيوية والنشاط فيها من قبيل شباب الإخوان والاشتراكيين الثوريين، وكذلك بعض الأحزاب الشابة مثل الغد والكرامة.

لقد ظهرت أنماط جديدة من التعبئة والمشاركة السياسية في مصر، حيث يلاحظ أن الحركات الشبابية تتسم بقدر عال من المرونة والسيولة، وضعف التنظيم، وسرعة انتقال النشطاء فيما بينها، نظرا لغياب أيديولوجيات واضحة أو رءوس جامدة. فالنشطاء الشباب يتحركون بين المنظمات والأحزاب بحرية ودونما قيود. وبينما التف الكثير من النشطاء حول حزب الغد وحركة كفاية، باعتبارهما نقطة جذب أساسية للنشطاء أثناء الحراك السياسي في 2005 و2006، فقد ظهرت مراكز أخري لجذب الشباب، مثل شباب من أجل التغيير، ثم حركة السادس من أبريل، وصولا إلي الحملة الشعبية لدعم البرادعي.

وفي بعض الأحيان، يفضل الشباب التخلي عن يافطة الأحزاب السياسية التي ينتمون إليها، ويبادرون إلي الانضمام إلي حركات جديدة، ولكنهم قد يعودون مرة أخري إلي تنظيماتهم إذا تعثر الكيان الجديد. وفي الحقيقة، فإن بعض  الناشطين ربما يفضل العمل عبر المجموعات والحركات الشبابية.

ثانيا- الجيل الجديد والفعل الثوري:

إن العناصر السالفة التي تشكل بعضا من ملامح الجيل الجديد للثورات العربية لم يتحقق لها الفعل الثوري في بعض الحالات العربية، إلا بتوافر بيئة تدفع الطبقات والشرائح الجيلية الأخري داخل المجتمع إلي التحالف معها، والتشابك مع مطالبها. ومن أبرز صفاتها ما يلي:

1- تراكم احتجاجي، إذ إن الجيل الجديد للثورات العربية ما كان له ليحقق الفعل الثوري بدون التقاطع مع ميراث التراكم الاحتجاجي. ففي مصرمثلا، أدت السياسات النيوليبرالية التي انتهجها النظام المصري منذ تشكيل حكومة أحمد نظيف في 2004 إلي خلل اجتماعي أصاب معظم الشرائح والطبقات الاجتماعية خلال السنوات الأخيرة، وهو ما أفرز موجة واسعة من الحركات الاحتجاجية والتظاهرات خلال الفترة من 2007 إلي2010 .

وقد شاركت كل قطاعات المجتمع المصري تقريبا في هذه الاحتجاجات التي شملت العمال والفلاحين، والموظفين، والمدرسين، وقطاعات من الطبقة الوسطي من المهنيين وأساتذة الجامعات، والتي عانت تراجعا ملحوظا في مستوي معيشتها.

2- اتساع الفجوات وتحالف الطبقات، إذ استفاد الجيل الجديد في قدرته علي الفعل الثوري من اتساع الفجوات الاقتصادية والمجتمعية داخل المجتمعية العربية.ولعل أبرز مظاهر هذه الفجوات تشكل طبقة شديدة الثراء من المنتفعين والعائلات التي تستأثر بعوائد المجتمع والسلطة (التزاوج بين المال والسلطة) كما حدث في مصر وتونس، في مواجهة طبقة عريضة تشكلت من الطبقة الوسطي (موظفين، فئات مجتمعية أخري من محامين وأطباء وغيرهم ) التي أجبرت علي دخول أحزمة الفقر بسبب ارتفاع التضخم وتدني رواتبها، وانخفاض مستوي تعليمها وخدمات الصحة، وكذا الطبقة الدنيا التي واجهت بطالة ومحاولات هجرة غير شرعية.وبذلك، نزلت الطبقة الوسطي إلي أدني لتذوب مع الطبقة الدنيا، وأصبحت الاثنتان تشكلان كتلة كبيرة واحدة يعاني أفرادها المشاكل نفسها، ولهم الآمال نفسها (أو بالأحري فقدوا كلهم الآمال نفسها).

ورغم أن الطبقات العمالية والفلاحية وغيرها عانت تدهورا حادا في وضعها الاجتماعي، فإن شباب وأبناء الطبقة الوسطي وجدوا في وسائل التواصل التكنولوجي، مثل الفيس بوك والتويتر والإنترنت بصفة عامة، مجالا خصبا لإبراز رفضهم واحتجاجهم ليس فقط علي تدهور أوضاعهم الخاصة، ولكن علي مجمل التدهور السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

3- أزمة حراك اجتماعي، إذ إن الجيل الجديد واجه أزمة حراك اجتماعي، كما في مصر، بدأت منذ نهاية السبعينيات، وأخذت تتعمق أكثر في التسعينيات لتصل إلي انسداد شبه كلي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومعني ذلك أن ثلاثة أجيال علي الأقل عانت مشكلات حقيقية في عملية الحراك الاجتماعي، مما جعلهم في وضع الساخطين علي المجتمع.

وفي حين ينسب لشباب جيل الألفية الجديدة الفضل في هذا الحراك والفعل السياسي الثوري ، فإن الأجيال السابقة من جيلي الثمانينيات والتسعينيات شاركت بكل قوة وفعالية في الثورة، وقدمت العديد من التضحيات. وفي حين بدا أن الثورة في يومها الأول، أي الخامس والعشرين من يناير، حركة شبابية في الأساس، فإن مراحلها اللاحقة شهدت مشاركة جميع القطاعات الشعبية والسياسية والطبقية وعلي مستوي جميع محافظات الجمهورية، وليس القاهرة فقط.

إن الملامح الإداركية للجيل الجديد التي شكلت مفاجأة للأنظمة العربية السلطوية ، تضافرت مع خصائص سياسية واجتماعية أخري ، مما أدي إلي خلق فعل انتفاضي وثوري من طراز فريد لم تشهده المنطقة العربية، اتسم بالانفعال والغضب والرغبة في بناء مجتمع جديد يوافق مدركاته التي يبدو أن الأنظمة لم تعها أو تلمحها إلا بعد فوات الأوان.


رابط دائم: