الإجراءات المسبقة لتجنب الثورات الشعبية في الخليج
30-7-2011

د. معتز سلامة
* رئيس وحدة دراسات الخليج بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

ربما تكون أنظمة الخليج هي الوحيدة في العالم العربي التي يوفر لها التاريخ فرصة للنجاة من موجة الاقتلاع العاصف للأنظمة مع موجة الثورات الراهنة. ولو أحسنت هذه الأنظمة انتهازها، لفوتت علي نفسها ملاقاة المصير نفسه، مهما يطل الزمن، لو استمرت الأمور علي حالها.

فإذا كان الشباب هم الفاعل الأساسي في الثورتين التونسية والمصرية، فإنهم في بلدان الخليج أكثر وجودا ومطلبية، يزيد من خطورتها تقاطعها مع القبلية والمذهبية والمناطقية وتفاوتات الغني والفقر. وإذا كانت شبكات التواصل الاجتماعي (فيس بوك، وتويتر، ويوتيوب ..) الأداة الرئيسية للثورة المصرية، فإنها موجودة بدول الخليج بالمقدار نفسه بل ربما أكثر. وإذا كان هناك تسلط في أنظمة الحكم وتباطؤ في العمل السياسي، فإن الوضع في دول الخليج أشد وطأة. وإذا كان الفساد الدافع الرئيسي للثورات، فإنه مستوطن في الخليج منذ زمن.

ويستبعد البعض نجاح الثورات في الخليج لعدم توافر قوي سياسية ومدنية تشكل قواعد القوة الناعمة للثورات. ويشير البعض إلي أن طبيعة الأنظمة الوراثية تفرض سقفا محددا للمطالب السياسية، ويشير البعض الآخر إلي العامل الخارجي والمصالح النفطية. ولكن يبدو أن العامل الخاص بالاعتبارات الريعية النفطية هو الأساس الذي يعمل ضد الثورات في الخليج. ويدل علي ذلك تركز البؤر الثورية بكل من سلطنة عمان والبحرين الأقل غني بين دول الخليج، حيث تمكن الوفرة النفطية والعوائد الريعية هذه الأنظمة من "شراء" الثورات بالمال أو "رشوتها" بالحوافز.

جنين الثورات :

وفي الحقيقة، لم تكن دول مجلس التعاون الخليجي بعيدة عن الفكر الإصلاحي علي مدي العقدين الماضيين بوجه خاص. ونظرا لأن أغلبها لم يشهد بعد انطلاق عربة التطور الديمقراطي الحقيقية، فقد جاءت مطالب نخبها المثقفة بكرا تماما. وكانت الدفعة الأولي لمطالبات الإصلاح الخليجية عقب غزو وتحرير الكويت 1990 - 1991، وتمثلت بشكل أساسي في العرائض التي رفعها التياران الديني والليبرالي إلي الملك فهد بن عبد العزيز بين عامي 1991 و1992، مطالبة بإجراء إصلاحات سياسية.

وشهدت المطالبات بالإصلاح دفعة جديدة عقب أحداث 11 سبتمبر. فنزولا علي تسليط الأضواء الدولية عليها -إثر انخراط شباب من دول الخليج في تنظيم القاعدة ومناصرتهم أسامة بن لادن واشتراكهم في 11 سبتمبر- سمحت دول مجلس التعاون الخليجي بمجموعة من الإصلاحات التي دفع إليها أيضا تفاقم أعمال العنف الداخلية. وعزز من تلك الإصلاحات ما ترافق مع هذه الفترة وسبقها من تجديد بالخلافة السياسية بعدد من دول المنطقة.

في هذه الفترة (خصوصا عام 2003)، قدمت العديد من العرائض الإصلاحية من قبل مختلف التيارات المجتمعية (وفي السعودية تحديدا)، من العلماء وأساتذة الجامعات والمثقفين ورجال الأعمال المهتمين بالشأن العام، حملت هموم النخب الخليجية المثقفة بشأن بلدانها، وأكدت عدم انعزال هذه النخب، واستعدادها لتحمل تبعات ذلك، ولو تعرضوا حتي للسجن.

فدعت عريضة "رؤية لحاضر الوطن ومستقبله" -التي تم تقديمها إلي ولي العهد السعودي حينئذ (الملك عبد الله بن عبد العزيز) (يناير 2003)، ووقعها ما يزيد علي 100 من الشخصيات، يمثلون مختلف مكونات المجتمع السعودي- إلي بناء دولة المؤسسات الدستورية، عبر تطوير النظام الأساسي للحكم، بما يرسخ المفهوم الدستوري القائم علي الفصل بين السلطات وضمان الحقوق الأساسية للمواطنين.

وطالب الموقعون علي بيان "دفاعا عن الوطن" (أكتوبر 2003)، الذي رفع إلي ولي العهد السعودي، بضرورة البدء في تنفيذ عملية الإصلاح الجذري الشامل لكافة المؤسسات الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في السعودية، باعتباره الرد العملي الناجع علي كافة التحديات في الحاضر والمستقبل.

ودعت عريضة "نداء وطني إلي القيادة والشعب معا: الإصلاح الدستوري أولا" الموجهة إلي ولي العهد (ديسمبر 2003)، والتي وقعها 116 شخصية أغلبها من الاتجاه الإسلامي من مختلف مناطق المملكة، إلي إعلان القيادة "مبادرة بتطوير نظام الحكم إلي ملكية دستورية"، وتشكيل هيئة وطنية مستقلة لإعداد دستور دائم للبلاد، والبدء في تطبيقه خلال فترة انتقالية لا تتجاوز ثلاثة أعوام.

وفي ظل "ثورة" العرائض، قدمت بعض الطوائف الأقلياتية في السعودية عرائض هي الأخري لولي العهد تفصح عن أوضاعها وهمومها الخاصة، فقدم الشيعة وثيقة بعنوان "شركاء في الوطن" (أبريل 2003)، وقعها 450 شخصية شيعية من مختلف مناطق المملكة السعودية، بينهم 24 سيدة، إضافة إلي علماء دين وأكاديميين ورجال أعمال، دعت إلي وأد الفتن، وتجاوز الخلاف من خلال الإعلان الصريح عن احترام المملكة لجميع المذاهب، بما فيها المذهب الشيعي، وعبرت عن تطلع المواطنين الشيعة لمساواتهم مع بقية المواطنين.

فضلا عن ذلك، شهدت هذه الفترة العديد من الوثائق التي تضمنت حوارا ومقارعة للرأي والحجة علي أعلي مستوي بين المثقفين السعوديين ونظرائهم الأمريكيين. وعلي سبيل المثال، بيان المثقفين السعوديين الذي حمل عنوان "علي أي أساس نتعايش"، الذي جاء ردا علي بيان المثقفين الأمريكيين في سياق أحداث 11 سبتمبر والحرب ضد الإرهاب الذي جاء بعنوان "علي أي أساس نقاتل"، وأيضا بيان (معا في خندق الشرفاء) الذي وقعه عدد من المثقفين السعوديين في أغسطس 2002، والذي جاء مناهضا تماما للسياسات الأمريكية بشأن الحرب علي الإرهاب.

لقد أخرجت هذه البيانات والعرائض جميعها أحشاء المجتمع السعودي، وأشارت إلي وجود أجنة لتيارات إصلاحية وليبرالية، في ظل طغيان التيارات السلفية الساحقة.

وشهدت بلدان الخليج الأخري عرائض مماثلة، وعلي سبيل المثال العريضة الدستورية التي أرسلتها أربع جمعيات بحرينية (الوفاق، العمل الإسلامي، العمل الديمقراطي، التجمع القومي) في يناير 2005، إلي الملك حمد بن عيسي آل خليفة بالبريد، بعد أن رفض  الديوان الملكي تنظيم مقابلة لمقدمي العريضة مع الملك لتسليمها له. وقد حملت هذه العريضة 75 ألف توقيع في سابقة غير معهودة في المنطقة، وتضمنت طلب: إجراء التعديلات الدستورية التي أذن بها ميثاق العمل الوطني علي دستور 1973 بطريقة تحافظ علي سمته التعاقدية، وتلبي شرط الإقرار الشعبي، واقتصار سلطة التشريع والرقابة علي مجلس يتكون من ممثلي الشعب المنتخبين، والالتزام بالمبادئ الواردة في ميثاق العمل الوطني بشأن المملكة الدستورية.

بل اهتدت الحركة السياسية في البحرين إلي فكرة خلاقة، حين سلمت عام 2006 الأمين العام للأمم المتحدة عريضة دستورية ضخمة حملت توقيع أكثر من 82 ألف مواطن بحريني، طلبوا توثيقها ضمن سجلات وثائق الأمين العام للأمم المتحدة، تدعو إلي إصدار دستور جديد بخلاف الذي أصدره ملك البلاد عام 2002، علي أن تسند كتابته إلي هيئة منتخبة شعبيا وتحت إشراف الأمم المتحدة، مما يشير إلي مساع مبكرة من جانب شيعة البحرين بشكل خاص إلي التأثير في شرعية النظام، واستيلاء شرعية أخري إلي جواره كحل للعجز عن إسماع صوتها للسلطة.

في تلك السنوات أيضا، شهدت دول الخليج ما يشبه حالة من التنافس فيما بينها علي الإصلاح، فأجري بعضها انتخابات تشريعية، وجري توسيع لسلطات بعض هذه المجالس، ومنحت بعض الحقوق للمرأة، فشاركت النساء في الانتخابات تصويتا وترشيحا، كما جري توزير سيدات في الوزارات، وجري أيضا انفتاح علي هياكل المجتمع المدني وانتخابات في الأندية الاجتماعية والمهنية، وجري التصريح بإنشاء جمعيات وطنية لحقوق الإنسان، ومجالس لحقوق الإنسان حكومية وغير حكومية. كما شهد الإعلام المكتوب والمرئي بعض مظاهر الانفتاح، وانفتحت بعض الدول علي المطالبات المذهبية والحريات الدينية، وجري السماح بنقد بعض الهيئات الدينية السلفية المتشددة، علي أثر بعض الحوادث المؤسفة والمفجعة، وعقدت مؤتمرات للحوار الوطني.

لكن علي الرغم من الزخم الذي أحدثته هذه الموجة من الإصلاحات السياسية، فقد كانت أقرب إلي الموجة الانتهازية التي لم تتأسس علي قناعات وصدق توجهات من جانب الأنظمة، وإنما انحناءة للعاصفة. لأنه ما إن تخففت هذه الأنظمة من الضغوط ومن العنف الداخلي وموجات المد الجهادي، حتي نكصت علي عقبيها، وأصبحت مبادراتها الإصلاحية حبرا علي ورق، ولم تنته إلي أي تطور في صيغ الحكم الخليجية. وترتب علي ذلك أن السنوات من 2005 حتي 2011 لم تضف في الحقيقة إضافات ذات شأن إلي تجارب الإصلاح السياسي الخليجية.

بين الإصلاح والثورة :

في 2011، تكررت المطالب والعرائض ذاتها التي يبدو أنها امتلكت رؤية أشمل في الطرح، وأخذت تجتذب دوائر أوسع من النخبة. فدعت العريضة التي أرسلت إلي الملك عبد الله بن عبد العزيز (مارس 2011)، وحملت عنوان "إعلان وطني للإصلاح .. نداء من مثقفين سعوديين إلي القيادة السياسية" إلي إقامة "نظام ملكي دستوري" عبر "إعلان ملكي يؤكد بوضوح التزام الدولة بالتحول إلي "ملكية دستورية"، ودعا أعضاؤها إلي وضع برنامج زمني يحدد تاريخ البدء بالإصلاحات المنشودة، والشروع في تطبيقها وتاريخ الانتهاء منها. وطرحت العريضة برنامجا إصلاحيا تضمن اثني عشر عنصرا تتضمن آليات التحول إلي ملكية دستورية.

وشهدت دول مجلس التعاون الخليجي الأخري (الإمارات وعمان والبحرين) مطالب مماثلة. لكن حالتي البحرين وعمان خرجتا عن السياق المكتوم لتتجها إلي أشكال من التحرك الثوري في البحرين. وتدرجت الشعارات المعارضة من المطالبة بتغيير الحكومة وإزاحة رئيس الوزراء، إلي المطالبة بملكية دستورية، إلي مطالبات بإسقاط النظام والتجمهر في دوار اللؤلؤة، الأمر الذي حدث ما يقترب منه في سلطنة عمان. وفي كلا البلدين، وقعت أحداث عنف بين السلطات والمتظاهرين. وانتهت حركة البحرين إلي الإعلان عن ائتلاف جديد من تيار "الوفاء الإسلامي" وحركتي "حق" و"أحرار البحرين" باسم "التحالف من أجل الجمهورية"، يسعي لإلغاء النظام الملكي وتحويل البلاد إلي جمهورية.

وفي سلطنة عمان، قدم الشباب عريضة إلي السلطان قابوس (فبراير 2011) تضمنت مطالبات بالحقوق المدنية والسياسية، منها: تعديل صلاحيات مجلس الشوري، وتعديل قوانين الترشح للمجلس، وتعيين رئيس لمجلس الوزراء كل خمس سنوات، مهمته تنفيذ خطة خمسية محددة، ويحاسب من قبل مجلس الشوري في نهاية فترته، وحماية المال العام من خلال تفعيل دور جهاز الرقابة المالية للدولة، والقضاء علي المحسوبية والوساطات في التعيينات الوظيفية، وتعزيز استقلالية القضاء بإنشاء محكمة دستورية مستقلة، وتعديل قانون المطبوعات والنشر، وتأكيد الحق في إنشاء نقابات وجمعيات مهنية.

وفي الإمارات، وجه مثقفون وأكاديميون رسالة غير مسبوقة (مارس 2011) إلي رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان وحكام الإمارات، حصرت مطالبها في اثنين يتعلقان بالمجلس الوطني الاتحادي (التشريعي). فطلبت إعادة النظر في تحديد طريقة اختيار ممثلي الإمارات في المجلس الوطني علي نحو يحقق انتخاب جميع أعضاء المجلس من قبل كافة المواطنين، وتعديل المواد الدستورية ذات الصلة بالمجلس، بما يكفل له الصلاحيات التشريعية والرقابية الكاملة.

ويتضح بشكل عام أن مطالبات الإصلاح قائمة في الخليج منذ عقد من الزمان، أضافت إليها الثورتان التونسية والمصرية زخما يغازل العقول. ولكن موجة الثورات الراهنة شجعت قوي ذات مظلوميات قديمة وتاريخية علي الخروج (القوي الشيعية) طارحة خيار الثورة وليس غيره. وعلي الرغم من أهمية تلبية هذه المطالب في ظل أي تغيير وطني مقبل، فإن القلاقل الطائفية الشيعية الراهنة ربما تهدد باغتيال حركة الإصلاح الوطنية التي كانت قائمة منذ عقدين، وقد تحرف مطالبات الإصلاح الليبرالية من الإطار الوطني الشامل إلي مستنقع المذهبية الضيق، وقد تجعل القوي الإصلاحية التي تتمسك بالوطن تتراجع وتعيد الاصطفاف خلف النظام في لحظة خطرة، وبما يمنح الدول مبررات لإجهاض حركة الإصلاح.

الثورات المضادة :

من خلال السلوك الذي تتبناه دول مجلس التعاون الخليجي حاليا، يتضح أن هذه الدول شرعت في استباق الثورات في الخليج، عبر تفعيل ثورات مضادة تلاحق أجنة الثورات الحقيقية وتستبقها وتصارعها. ومن ثم، تقلب دول المجلس النموذج الاعتيادي للثورات. فبينما من المعتاد أن تشهد الثورات ثورات مضادة تالية، فإن دول المجلس تشهد حالة معاكسة بدأت فيها الثورات المضادة تعمل بكل طاقتها، وتشغيل آلتها التقليدية، مستبقة قيام الثورات الأصلية علي الصعيد الداخلي، السياسي والإعلامي والاقتصادي والديني، وعلي الصعيد الخارجي بإحكام التحالفات البينية، وتفعيل آليات الدفاع المشترك التي كانت معطلة منذ سنين، مع العمل بكل السبل لتضخيم حالة ثورة أخري (في ليبيا) بما يكفل لها التحرك ضد أجنة الثورات في بلدانها، بعيدا عن أنظار الآلة الإعلامية الخطرة.

فعلي الصعيد السياسي، خرجت في بعض دول المجلس مظاهرات تحت مسمي مظاهرات الولاء للقيادة مضادة للمظاهرات الأصلية، وأنشئت صفحات إلكترونية مؤيدة مضادة لصفحات "فيس بوك" ثورية. وتردد خبر عن عرض الملك عبد الله بن عبد العزيز شراء موقع فيس بوك مقابل 150 مليار دولار، وهو ما نفاه مصدر سعودي، مركزا علي أن" المبلغ ضخم جدا". ويبدو أن ثمة قوي خفية توظفها هذه الدول في إغراق المواقع الإلكترونية المعارضة بالرسائل المؤيدة للدولة والنظام. وعندما حملت صفحة علي الفيس بوك مجموعة من البيانات (دعت إلي "ثورة الحرية 16 مارس" في قطر)، تم السطو علي الصفحة وحذف المحتوي القديم لها.

ولعبت الآلة الإعلامية المرئية والمقروءة هي الأخري دورا رئيسيا في تسليط الضوء علي الثورة الليبية، وإبعاد الأنظار عن التطورات بدول المجلس. وهناك ما يشبه حربا خفية لفرض الحالة الليبية دون منازع علي المشهد العربي، بما يواري ما يجري في الخليج. ولقد كانت دول المجلس الداعم الرئيسي وراء دعوة الجامعة العربية أخيرا لتأييد فرض منطقة حظر طيران علي ليبيا، واتخذ القرار في اجتماع المجلس الوزاري لدول مجلس التعاون قبل اتخاذه من مجلس الجامعة العربية، وربما ذلك ما دفع البعض للحديث عن مقايضة بين دول المجلس والغرب، قايض الخليج بمقتضاها ليبيا بالبحرين.

وعلي الصعيد الاقتصادي، أعلن عدد من دول الخليج عن تقديم مكرمات ملكية بمليارات الدولارات. في السعودية، أطلق الملك في 17 مارس 2011 ما أشير إليه علي أنه "ثورة اقتصادية" في المملكة، من خلال إصدار عشرين قرارا ملكيا لتحسين أوضاع السعوديين، تضمنت: صرف رواتب ومكافآت، ومقابل شهري للباحثين عن عمل، واستحداث 60 ألف وظيفة عسكرية جديدة، واعتماد 250 مليار ريال لدعم الخطط الإسكانية. وتضمنت القرارات إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وإنشاء "المجمع الفقهي السعودي". ويبلغ الحجم المالي لهذه القرارات -طبقا لبعض التقديرات- نحو 350 مليار ريال. وإذا أضيف إلي ذلك تكلفة القرارات التي كانت قد صدرت في 27 فبراير 2011، فور عودة الملك من رحلته العلاجية، والتي تضمنت مكرمات ومنحا بلغت تكلفتها 135 مليار ريال، فإن التكلفة الإجمالية لهذه القرارات تكون نحو 485 مليار ريال (129 مليار دولار)، بما يوازي مصروفات تعادل 83% من حجم المصروفات العامة للمملكة.

في السياق ذاته، قرر ملك البحرين صرف ألف دينار بحريني (نحو 2630 دولارا أمريكيا) لكل أسرة، وكشف عن توفير 20 ألف فرصة عمل جديدة. وفي عمان، أعلن السلطان قابوس عن توفير 50 ألف فرصة عمل للمواطنين، ومنح 150 ريالا شهريا لكل باحث عن عمل حتي توظيفه. وكانت المبادرة الأوسع مدي إعلان دول مجلس التعاون الخليجي عن تخصيص 20 مليار دولار للبحرين وعمان، فيما يشبه "مشروع مارشال خليجيا"، يركز علي تحسين الظروف المعيشية في الدولتين.

ويبقي أهم مجالات الثورة المضادة هو الجانب الديني، الذي يحتل مساحة كبيرة في المشهد الخليجي العام. ففي الوقت الذي أصدرت فيه هيئة كبار العلماء في السعودية بيانا اعتبرت فيه معمر القذافي "ملحدا" و("كافرا وضالا مضلا")، أصدرت الهيئة ذاتها فتوي حرمت التظاهر في المملكة، معتبرة إياه ليس من الإسلام، ومؤكدة أن للإصلاح والنصيحة أسلوبهما الشرعي الذي يجلب المصلحة ويدرأ المفسدة، وليس بإصدار بيانات فيها تهويل وإثارة فتن، وأخذ التواقيع عليها، لمخالفة ذلك ما أمر الله عز وجل به.

وسعت دول الخليج إلي ملاحقة الثورات علي الأرض عبر التدخل العسكري في البحرين. وليس ثمة تبرير لقرار التدخل في البحرين عبر قوات درع الجزيرة -وهي القوات التي يفترض أنها مخصصة للدفاع عن الأمن الإقليمي وليس الأمن الداخلي- سوي اعتبار السعودية ودول المجلس أن سقوط النظام في البحرين هو الخطوة السابقة لسقوطها.

هكذا، تبدو الثورات المضادة في الخليج أكثر ضراوة من الثورات المضادة التي تشهدها دول الثورات العربية (مصر وتونس)، وفي الوقت الذي لا تزال فيه قوي الثورات الحقيقية هزيلة ومنزوية في هامش المشهد الإعلامي، تبدو الثورات المضادة طاغية ومسيطرة ولديها وسائل القوة والتعبير اللازمة لإجهاض الثورات الأصلية. إن قوي الثورة المضادة متمترسة في قلب النظام، وتتمثل في المؤسسات الدينية التي أقامت تحالفا حديديا مع السلطة، وتستقطب الأنصار، وتغدق الحوافز، وتتمثل أيضا في أجهزة إعلام قوية لديها القدرة علي التستر علي المشهد الداخلي الحقيقي، وتصدير مشهد مغاير، ولديها أيضا القدرة علي استيراد مشاهد قلق إقليمية، والصمت علي مشاهد القلق الداخلي.

ولكن يبقي أن ما يمكن أن يخلص إليه أي عاقل بعد الثورة المصرية هو أن الثورات العربية لا يمكن توقعها، وأن البيئة العربية حبلي بكل خمائر الثورة. لا خلاف في ذلك بين دول الفقر ودول الثروة، وأن الثورات لا يمكن وقفها قبل أن تجرف كل شيء، وأنه علي قدر ما يقترب أي نظام سياسي من الإحساس الطاغي بالثقة بالاستقرار، وإنكار احتمال الثورة، علي قدر ما تقترب أقدامه من الغوص فيها. وخلف مشاهد الولاء والطاعة والمكرمات الملكية، والمشاهد التي يبدو منها ملوك وحكام مكللين بتيجان الملك يحيط بهم خدم ينثرون عليهم العطور والبخور، هناك مشاهد أخري تتطور في الظل، تهدد بالإتيان علي كل جوانب الصورة.

إن علو صوت الثورات المضادة الاستباقية في الخليج هو ترمومتر للثورات الأصلية، وربما لم يبلغ صوت الثورات المضادة هذا المقدار من قبل. لكن يبقي أمام دول الخليج طريق للنجاة، إذا وفرت لها حالتا البحرين وعمان فرصة لالتقاط الأنفاس. والنظام الذكي والحكيم هو من يتعامل منذ اللحظة الراهنة مع مطالبات ثورة، ولا يغتر بمشهد الاستقرار مهما يطل. وذلك يعني إحداث ثورات سلمية للإصلاح والتغيير، تنقل عروش الخليج إلي ملكيات دستورية، يرتفع بها مقام الشعوب والملوك معا، لأنه ربما تكون هذه المرة الأخيرة التي يمكن فيها "رشوة" الثورات في الخليج.


رابط دائم: