أبعاد ودلالات زيارة الرئيس السيسي لألمانيا
14-11-2018

د. منى سليمان
* باحثة فى العلوم السياسية.
مثلت زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الأخيرة لألمانيا نقطة تحول في العلاقات بين البلدين على المستويين الثنائي والإقليمي، بل وفي جميع المجالات، حيث جددت الدولتان أهمية استمرار التنسيق والتشاور السياسي والأمني بينهما لمواجهة تحديات منطقة الشرق الأوسط كالإرهاب، والهجرة غير الشرعية، ودعمت الدولتان التوصل لحل سلمي لمختلف نزاعات الشرق الأوسط. وقد استمرت الزيارة أربعة أيام من (28 إلى 31) أكتوبر 2018، عقد خلالها الرئيس السيسي لقاءات عدة مع القيادة السياسية الألمانية ممثلة في الرئيس فرانك شتانماير، والمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، كما حضر القمة الألمانية الإفريقية المصغرة التي عقدت بدعوة من "ميركل" يوم 30 أكتوبر 2018. 
عهد جديد للتعاون:
المتابع لفعاليات زيارة الرئيس السيسي لبرلين، من حيث تنوع اللقاءات التي أجراها كمًا وكيفًا، يدرك جيدًا أن القيادة السياسية في الدولتين تسعي لتحويل التعاون  المصري الألماني لتحالف سياسي اقتصادي قوي قائم على تبادل المنافع فى جميع المجالات، حيث لا يتسنى لرئيس دولة أجنبية عقد عشرات اللقاءات مع النخبة السياسية الألمانية في برنامج حافل على مدى أربعة أيام.
* دعم سياسي أمني مستمر: جددت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل دعم مصر في الإصلاحات الاقتصادية التى تقوم بها، وأعلنت عن تقديم 500 مليون يورو كمنحة للقاهرة، كما أكدت دعم بلادها للقاهرة لمواجهة النمو السكانى، وتطوير التعليم، من خلال تنفيذ (برنامج 100 مدرسة)، وأوضحت أن مصر باتت تمثل نموذجاً ناجحاً يحتذى به للاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن دورها الرائد فى التنمية ومكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، حيث لم تسجل أى حالة هجرة من السواحل المصرية منذ سبتمبر 2016. وقد كشف الرئيس السيسي إلى أنه اتفق وميركل على تطوير التعاون الأمني والعسكري المشترك بين دولتيهما، بما يمكن من التعامل مع كل التهديدات الآنية، مثل الإرهاب واللاجئين، وقدم شكره علي الدعم الذي تقدمه ألمانيا في ملف اللاجئين.
بدوره، جدد هذا الموقف الداعم لمصر الرئيس الألماني فرانك شتاينماير الذي عقد الرئيس السيسي لقاء معه، وكذلك قام الرئيس المصرى بزيارة للمقر التاريخى للبرلمان الألمانى "البوندستاج" وعقد اجتماع مع رئيسه. وفي ختام الزيارة استقبل الرئيس السيسي وزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر، ودعا لتبني المجتمع الدولي استراتيجية شاملة تسعى إلى علاج جذور تلك المشكلات، عبر دعم جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية. (جدير بالذكر أن البلدين وقعا اتفاقا للتعاون الأمني في يوليو 2016، وآخر للتعاون للحد من الهجرة غير الشرعية في أغسطس 2017). كما استقبل الرئيس السيسي وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، وأكد الطرفان ضرورة التوصل لحلول سلمية لأزمات الشرق الأوسط في سوريا، وليبيا، واليمن، والصومال، واستئناف عملية السلام بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي علي أساس حل الدولتين. 
* تعاون اقتصادي تكنولوجي: حرص الرئيس المصري "عبدالفتاح السيسي" على عقد أكثر من عشرة لقاءات مع الوزراء بالحكومة الألمانية لبحث سبل تطوير التعاون المشترك بين الدولتين، حيث التقي مع أندرياس شوير وزير النقل والبنية الرقمية الألماني لبحث تحديث منظومة النقل بجميع أنواعه، وتحسين البنية التحتية المرتبطة بقطاع النقل، وتحديث قطاع السكك الحديدية، ورفع جودتها وقدرتها الاستيعابية. كما التقى وزير التعاون الاقتصادي والإنمائي الألماني جيرد مولر الذي جدد دعم بلاده لمصر من خلال إرساء شراكة بينهما لإنجاز التنمية داخليًا وإقليميًا وقاريًا. وشهد السيسي توقيع الطرفين خمس اتفاقيات تعاون فى التعليم والاقتصاد والتصنيع والاستثمار والطاقة، لتطوير هذه القطاعات بمصر، حيث تم التوقيع علي بروتوكول تعاون اقتصادى بقيمة 129 مليون يورو، إلى جانب توقيع إعلان نيات بشأن المبادرة المصرية الألمانية الشاملة الجديدة للتعليم والتدريب الفنى والمهنى والتعليم المزدوج، وإنشاء هيئة لمراقبة الجودة التعليمية، وإنشاء أكاديمية لتدريب المعلمين. كما تم توقيع عقد لاختيار 15 مدرسة فنية بمحافظات الدلتا لتطبيق تخصصات الطاقة الشمسية والرياح، لتخريج فنيين ماهرين فى الطاقة المتجددة. وتهدف الدولتان لمضاعفة حجم التبادل التجاري بينهما الذي لا يزال لا يتناسب مع طموح الدولتين، حيث تحتل ألمانيا المركز الـ20 من الدول المستثمرة بمصر باستثمارات بلغت 641.4 مليون دولار، وعدد شركات بلغ 1103 شركات تستثمر فى قطاعات المواد الكيماوية والبترول والاتصالات والغاز وصناعة السيارات والحديد والصلب. 
* طفرة سياحية: أعرب الرئيس السيسي خلال لقائه ميركل عن سعادته بعودة السياحة الألمانية لمصر لمعدلاتها عام 2010، حيث تصدرت مصر المقاصد السياحية للسائحين الألمان الوافدين، وأعلنت  شركة (توي TUI)، وهى أكبر شركة سياحة فى ألمانيا تمتلك 46 فندقا فى مصر، زيادة عدد رحلاتها إلى المقاصد السياحية المصرية بستة أضعاف مقارنة بالعام الماضي، وتخصيص 27 طائرة من أسطولها إلى المقاصد السياحية المصرية، بالإضافة إلى بدء تسيير رحلات طيران لأول مرة من فرانكفورت إلى الأقصر مباشرة يوم 5 نوفمبر 2018.
* تعاون عسكري متقدم: عقد الرئيس السيسي اجتماعا مع عدد من رؤساء الشركات الأعضاء فى الاتحاد الفيدرالى الألمانى للصناعات الأمنية والدفاعية، وأشاد خلاله بتطور التعاون بين الجانبين فى المجالين العسكرى والأمنى، مما أدى لدعم القدرات القتالية والفنية للقوات المسلحة المصرية، وتطويرها وفقا لأحدث النظم القتالية العالمية، خاصة بعد أن تسلمت القوات المسلحة المصرية ثانى غواصة حديثة فى أغسطس 2017، ضمن صفقة تضم 4 غواصات (من طراز دولفين، وهي أحدث الغواصات ألمانية الصنع).
* تعاون إقليمي دولي: سيشهد عام 2019 رئاسة مصر للاتحاد الإفريقى، ورئاسة ألمانيا لمجلس الأمن الدولي، مما سيتيح للدولتين آفاقا جديدة للتعاون، وتطبيق رؤيتهما في السياسة الخارجية، وحل الأزمات الإفريقية والدولية، وهو ما أشارت إليه ميركل خلال لقائها السيسي، حيث أكدت أن ألمانيا تتعاون مع مصر فى العديد من الملفات الإقليمية والإفريقية، ومنها استئناف عملية السلام والأوضاع فى غزة، ومكافحة الإرهاب، وتفعيل برامج التنمية في القارة الإفريقية. وهذا التعاون الدولي سيمنح العلاقات بين الدولتين أبعاداً جديدة، وسيتيح لهما التعاون معا لطرح مبادرات للسلام والتنمية في القارة الإفريقية ومنطقة الشرق الأوسط تحديدا.
 
القمة الألمانية- الإفريقية:  
أطلقت المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل "المبادرة الألمانية للشراكة مع إفريقيا" عام 2017 خلال رئاستها لقمة العشرين، وتهدف المبادرة لتكثيف التعاون في مجالات التنمية الاقتصادية المستدامة، وتشجيع الاستثمار، وزيادة استخدام الطاقة المتجددة، وتوظيف الشباب، والإسهام في التعليم الرقمي للفتيات والسيدات، بالتعاون مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فضلًا عن بنك التنمية الإفريقي. وذلك من خلال التدابير اللازمة لتحسين البيئة المالية لتشجيع الاستثمار في الدول الإفريقية، وانضم لها 11 دولة هي (مصر، والمغرب، وتونس، وإثيوبيا، ورواندا، وبنين، وكوت ديفوار، وغانا، وغينيا، والسنغال، وتوجو، وجنوب إفريقيا). وفي إطار المبادرة، حصلت غانا، وتونس، وكوت ديفوار على قروض مالية ألمانية بقيمة 365 مليون يورو، وعقدت المبادرة مؤتمرها الأول في يوليو 2017، والثاني عقد ببرلين في 30 أكتوبر 2018. 
* الموقف الألماني: أعلنت ميركل عن تأسيس صندوق بقيمة مليار يورو لتسهيل استثمارات الشركات الأوروبية الصغيرة والمتوسطة في إفريقيا. في إطار المبادرة، التي تأتي في مسعى من برلين للحدّ من تدفق المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا. من خلال تنمية الدول المصدرة للمهاجرين، وتوطينهم ببلدانهم عبر مشروعات اقتصادية فيها. والمبادرة تمثل تحولاً ألمانياً تجاه إفريقيا، حيث اعترفت ميركل بأن بلادها قد أهملت الاستثمار وتعزيز التعاون مع القارة الإفريقية لمصلحة دول آسيا، رغم أن القارة السمراء بدولها الـ54 تختزن قدرة كبيرة من النمو والفرص الاستثمارية التي لم تكتشف بعد، كما أن برلين لها ميزة نسبية في الاستثمار بإفريقيا، لأنها لم تكن من الدول المستعمرة بإفريقيا، وليس هناك أى تاريخ سلبي أو حاجز نفسي بين الطرفين بعكس دول أوروبية أخرى كفرنسا.
* الموقف المصري: تعد مصر من أولى الدول الإفريقية التي شاركت بالمبادرة ودعيت لها، وقد أوضح الرئيس السيسى فى الجلسة الافتتاحية لها أن مصر أقرت استراتيجية تنموية تتسم بالشمول والتنوع، بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، تتمثل في رؤية مصر 2030، التى تتضمن العديد من البرامج والأهداف الرامية إلى وضع مصر ضمن أكبر ثلاثين اقتصاد عالمي بحلول عام 2030. وذلك من خلال تنفيذ برنامج وطنى طموح للإصلاح الاقتصادى، وكشف عن إجراء مفاوضات للربط الكهربائى بين إفريقيا وأوروبا عبر قبرص واليونان، كما يجرى الإعداد لتصبح مصر مركزا إقليميا لتداول وتجارة الغاز والبترول على نحو يدعم التنمية الاقتصادية علي ضفتي المتوسط، وهو ما يتسق مع المبادرة الألمانية للشراكة مع إفريقيا، ومع أجندة إفريقيا 2063، وسيسهم في تضييق الفجوة الآخذة فى الاتساع بين الشمال والجنوب. 
 
دلالات متعددة:  
* التوقيت: تعد زيارة الرئيس السيسي الثالثة لألمانيا منذ توليه منصبه في 2014. بيد أنه عقد 6 لقاءات مع ميركل في محافل دولية عدة، وقامت الاخيرة بزيارة القاهرة في 2017. وتأتي الزيارة لتصبح الأولى للسيسي بعد إعادة انتخابه، وكذلك بعد الانتخابات البرلمانية الألمانية، ورغم إعلان "ميركل" تخليها عن منصبها. إلا أن جدول الزيارة لم يتغير حرصا منها على التواصل المستمر مع الرئيس السيسي. ونظرا للأهمية التي توليها لمصر كدولة إقليمية ذات امتداد عربي شرق أوسطي إفريقي متوسطي، يمكن لبرلين الاعتماد عليها لحل ملفات عدة كالهجرة غير الشرعية، ومحاربة الإرهاب، وإرساء الاستقرار بالشرق الأوسط. 
* تقدير شخصي: المتابع لفعاليات الزيارة يلاحظ تقديراً ألمانياً كبيراً لشخص الرئيس السيسي، حيث حرص معظم الوزراء على لقائه، وكذلك رجال الاقتصاد ووسائل الإعلام الألمانية التي التقته عشية الزيارة ووصفته بأنه نجح في تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي ومكافحة الإرهاب بمصر، وأثنت كثيرا عليه لجديته ووطنيته، وهي صفات معروفة عن الشعب الألماني. كما تثمن برلين حرص السيسي على التواصل المستمر مع القيادات السياسية بها ولكل الدول الكبرى والمعنية بالشأن العربي والإفريقي، كما أنه لم يسع لافتعال أزمات أو لتوتير العلاقات مع دول أخرى او التدخل في ِأمنها الداخلي أو تسييس عمل الجاليات المصرية بالخارج. فعلي سبيل المثال، (شهدت زيارة الرئيس التركي لألمانيا في 30 سبتمبر 2018 تلاسن لفظي بينه وبين نظيره الألماني مما فاقم التوتر بين أنقرة وبرلين). وهذا التقدير الكبير لشخص الرئيس "السيسي" سيسهم في استمرار التواصل مع القيادة السياسية الألمانية حتى بعد رحيل ميركل.
* سيمنز: نجحت شركة "سيمنز" الألمانية في بناء 3 محطات كهرباء عملاقة بمصر، مما  ضاعف القدرة الكهربائية خلال 30 شهرا، وأضاف 14.4 جيجاوات لها. وقد حرص الرئيس السيسي على توجيه الشكر للشركة علي مجهودها في تنمية قطاع الكهرباء بمصر. وقد نقلت الشركة للدولة الألمانية صورة إيجابية عن بيئة العمل في مصر، من خلال إرساء الاستقرار والجدية والالتزام بالخطط الاقتصادية الموضوعة، لاسيما برنامج الإصلاح الاقتصادي، مما يسهم في تشجيع مجتمع رجال الأعمال والاقتصاد الألماني علي ضخ المزيد من الاستثمارات في مصر. كما أن التجربة الألمانية في مصر تعد نموذجا يحتذى له في الدول الإفريقية التي تسعى برلين للاستثمار فيها. 
* توافق الرؤى السياسية: شهدت الزيارة توافقا بين الرؤية المصرية والألمانية لمعالجة القضايا الراهنة كافة، لاسيما قضية اللاجئين. كما أيدت "ميركل" رؤية مصر التي طرحها الرئيس السيسي التي تقوم على التمسك بالدولة الوطنية، والحل السلمي للنزاعات في سوريا واليمن وليبيا وفق المرجعية الأممية، والدولتان يشاركان ويضطلعان بدور مهم لحل الأزمة السورية لأنهما عضوان في المجموعة المصغرة لها. ودفع جهود عملية السلام (جدير بالذكر أن برلين تنحاز للمواقف العربية المؤيدة للحقوق الفلسطينية، ورفضت الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، وأدانت قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل سفارة بلاده إليها). وعلى الصعيد الدولي، تدعم الدولتان استمرار التنسيق والتشاور لتعزيز السلم والأمن الدوليين، وتسوية المنازعات بالطرق السلمية، وتحقيق التنمية فى إفريقيا، والعمل على إصلاح الأمم المتحدة، وتوسيع مجلس الأمن، وتعزيز النظام العالمى لمنع الانتشار النووي، فتعزيز التعاون السياسي المصري الألماني سيسهم في تحقيق هذه الاهداف كافة. 
 
ختاما، فإن جولات الرئيس السيسي المكثفة فى الفترة الأخيرة التي بدأها بحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم زيارة جزيرة كريت اليونانية لعقد القمة السادسة للتحالف المصري-القبرصي، ثم زيارة روسيا والسودان فألمانيا، والتي سيستكملها بزيارة مرتقبة لفرنسا وإيطاليا، إنما تدل على وجود تنوع وتوازن في رؤية السياسة الخارجية للدولة المصرية، كما تؤكد استعادة مصر لدورها الإقليمي الرائد في الدوائر العربية والإفريقية والمتوسطية والشرق أوسطية، كما تجدد الدعم الدولي للرؤية المصرية لحل الملفات الإقليمية الراهنة.
 

رابط دائم: