الديون تقود التنمية الاقتصادية العالمية (2-3)
5-7-2018

د. شيماء سراج عمارة
* دكتوراه في الاقتصاد وخبير تقييم مشروعات
تناولنا في المقال السابق ماهية الديون، ولماذا تلجأ الدول إلى الاستدانة، وألقينا الضوء على الجذور التاريخية للديون، وكيف أنها يمكن أن تكون أداة لهدم دول، في حين أنها تتحول إلى أداة بناء في دول أخرى، إذا ما تم استخدامها بشكل أكثر تخطيطاً ورشادة.
كما تم إلقاء الضوء على اتفاق Bretton Woods بريتون وودز، وما استهدفه من الاستقرار المالي للدول، وإيجاد آلية لإعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية، وما أعقبه من إنشاء لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ودورهما في توفير القروض قصيرة الأجل، بحيث يتم سدادها خلال فترة زمنية لا تزيد على عام، لمساعدة الأعضاء الذين يواجهون عجزًا في ميزان المدفوعات، أو القروض ذات آجال طويلة يتم سدادها على فترات زمنية تزيد عن العام، وتستخدم بشكل رئيسي في استهداف التنمية.
واستخلصنا أن استخدام القروض ينبغي أن يتحلى بالرشادة في أوجه الإنفاق والتخطيط السليم، كي لا تشكل القروض أعباء على كاهل الدولة. فيمكن لدول أن تستخدمها في أغراض توسعية، وتغطية نفقات غير تنموية كالحروب والأهداف التوسعية، ومن ثم تصبح القروض في تلك الحالة أداة لهدم تلك الدول، مثلما حدث مع الإمبراطورية العثمانية، في حين قد تستخدم القروض في تحقيق النهضة الاقتصادية لدول أخرى، مثلما حدث مع مصر في عهد الخديوي إسماعيل. 
وقبل الخوض في تحليلات هذا المقال، والتي ستتناول التوجهات الدولية المعاصرة للقروض، وذلك بالاستناد إلى أحدث التقارير العالمية، سنلقي الضوء على مصطلح "الحدود الآمنة للدين العام". فالدين العام هو مجموع كلٍ من الدين الداخلي والخارجي للدولة، ولا يوجد حد معين ثابت يمكن الاستناد إليه وعدِّه حد الأمان بالنسبة للديون، إلا إنه يمكن الاستناد إلى اتفاقية ماستريخت للوحدة الأوروبية، والتي نصت على أن الحدود الآمنة للدين العام ينبغى ألا تزيد على 60% من الناتج المحلى الإجمالى، فإذا ما تجاوز الدين العام تلك النسبة يؤدي ذلك إلى تهديد لاقتصاد الدولة.
ويعد «حد الأمان» للدين العام مسألة نسبية تتباين بشدة بين دول العالم، ولتأكيد ذلك، نجد مثلاً أن حجم الدين العام الإجمالى لدولة كسنغافورة، والذى بلغ وفقا لبيانات 2017 أكثر من 400% من الناتج المحلى الإجمالى، فى حين أنه يبلغ 167% لإسبانيا، وعلى الرغم من ذلك فالمخاوف المحلية والدولية بشأن تبعات الدين العام على الاقتصاد الإسبانى أعلى بكثير من حالتها بالنسبة للاقتصاد السنغافوري.
إلا إنه يوجد عامل آخر رئيسي تجب الإشارة إليه عند الحديث عن خطورة الديون على اقتصاد الدولة، ألا وهو قيمة نمو الناتج الإجمالي المحلي للدولة نفسه، مقارنةً بفوائد الديون المطلوب سدادها، فإذا ما تجاوزت قيمة أسعار فائدة الدين قيمة نمو الناتج المحلي الإجمالي، فهنا تصبح الخطورة على اقتصاد الدولة، أما إذا كانت قيمة نمو الناتج المحلى أعلى من قيمة سعر الفائدة على الدين العام، أي أن اقتصاد الدولة ينمو بشكل جيد، بما يمكنه من سداد التزامات وأعباء الديون، فإن ديون الدولة تصبح في إطار الحدود الآمنة.
وفي إطار تقييم نمو اقتصاد الدولة، يتم الاستناد إلى كلٍ من صادرات الدولة، والاحتياطي الأجنبي لديها، فكلما ارتفعت نسبة الاحتياطي الأجنبي، وقيمة صادرات الدولة، كلما تحسن الوضع الاقتصادي للدولة، وهي مؤشرات تستند إليها مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية، كي تقيِّم الوضع والأداء الاقتصادي للدولة، إلا أنه لا يمكن الاستناد إليها في كونها مؤشرات تعكس قدرة الدولة على الوفاء بإلتزاماتها.
ومؤسسات التصنيف الائتماني هي شركات خاصة مستقلة تقوم بتقييم الجدارة الائتمانية لمُصدريِ السندات من دول وشركات، أي مدى قدرة الشركة أو الدولة على سداد الديون أو قابلية الاستثمار فيها، وينعكس هذا التصنيف الذي تصدره هذه المؤسسات بالإيجاب أو السلب على ثقة المستثمرين في الدولة أو الشركة المعنيتين.
فمثلاً، إذا كان التصنيف الائتماني لدولة أو شركة  ما ضعيفاً فهذا يعنى وجود احتمال كبير بعدم إمكانية سداد الديون، ومن ثم تقل ثقة المستثمرين، مما يجعل حصول تلك الدولة أو الشركة على القروض مشروط بطلب نسبة فائدة أعلى ومدد سداد أقل، والعكس صحيح عندما يكون التصنيف الائتماني لهذه الدولة أو الشركة قوياً، فنلاحظ نسبة الفائدة على قروضها تقل ومدد السداد تكون أطول.
وهناك مؤسسات كثيرة تقوم بالتصنيف الائتماني، لكن أشهرها المؤسسات الأمريكية الثلاث، وهى فيتش (Fitch)، وموديز(Moody’s) ، وستاندر أند بورز(Standards & Poor’s)، ومن الجدير بالذكر أن درجة التصنيف لا تعتبر حقيقة مطلقة، بل هي مجرد تعبير عن رأي وتوقع لوضع المؤسسة المالي الحالي، ومطلوب منهم المزيد من الشفافية وتحسين الأداء.
وبتتبع البيانات الدولية، يلاحظ أن هناك تزايداً كبيراً في قيمة الديون العالمية، سواء للشركات أو الدول. فوفقاً لتقديرات معهد التمويل الدولي، بلغت قيمة الديون العالمية نحو 233 تريليون دولار عام 2017 بزيادة 16 تريليون دولار عن نهاية عام 2016.
وبالنسبة للدول منخفضة ومتوسطة الدخل، فقد بلغ معدل نمو ديونها الخارجية أكثر من 50%، وذلك وفقاً لإحصائيات عام 2017، مقارنة بالعام السابق، فبلغت قيمة ديون تلك الدول نحو 6.7 تريليون دولار، وتستحوذ كل من آسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية على النصيب الأكبر من إجمالي تلك الديون بنسبة تصل إلى نحو 96% من إجمالي ديون دول العالم منخفضة ومتوسطة الدخل بنصيب 6.4 تريليون دولار، 
في حين لم يتجاوز نصيب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 3% من إجمالي الديون العالمية للدول منخفضة ومتوسطة الدخل، إذ بلغت إجمالي تلك الديون نحو 225 مليار دولار وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي عام 2018. ومن الملاحظ استحواذ باقي الدول الإفريقية على نصيب 1% فقط من إجمالي الديون العالمية للدول منخفضة ومتوسطة الدخل.
ويلاحظ أن التكتلات الإقليمية الأكثر توجها نحو تحقيق التنمية الاقتصادية بالنسبة للدول منخفضة ومتوسطة الدخل هي التكتلات التي تعتمد على الديون بدرجة كبيرة.
وبالنظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية نجد أنها تتربع على عرش أكبر الدول بالنسبة للمديونية العالمية، لتتجاوز حجم مديونيتها الخارجية 20 تريليون دولار (20 ألف مليار دولار)، وتتجاوز بذلك المديونية الخارجية بخلاف الداخلية نسبة 114% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، وبالتالي تتخطى تلك النسبة الحدود الآمنة للديون، والتي تم وضع حد استرشادي لها، يقدر بنحو 60% كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي كما تم تحليله في الفقرات السابقة. 
وبتحليل قيمة ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي نجد أنه يقدر بنحو 1.6 تريليون دولار عام 2017، وتصل فوائد الديون الخارجية الأمريكية إلى نصف تريليون دولار، وهي نسبة يعتد بها من الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. وإذا ما تتبعنا وضع الاقتصاد الأمريكي بصورة أكبر، نجد أن الديون الخارجية الأمريكية تمثل نحو 1300% من صادراتها، حيث بلغت الصادرات الأمريكية عام 2017 نحو 1.5 تريليون دولار (1500 مليار دولار)، وهو الأمر الذي يؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية، ووفقاً لتحليل بياناتها، قد تكون على أعتاب أزمات اقتصادية مستقبلية. 
وتأكيداً على ذلك، سنلاحظ تعاقب الأزمات المالية التي مر بها الاقتصاد الأمريكي ، مثل؛ الأزمة المالية عام 2008، والتي ارتبطت بأن يقترض المواطن الأمريكي من البنك حتى يشتري من الشركات العقارية بيتاً له عن طريق البطاقات الائتمانية، على أن يتم سداد القروض العقارية عن طريق البنوك التي تعتمد على أسعار الفائدة في تعاملاتها المالية. وسعر الفائدة يزيد بزيادة سعر العقار لكل سنة، وأدى ذلك في النهاية إلى عدم قدرة المواطن الأمريكي على سداد الرهن العقاري، وعدم القدرة على الالتزام بالدفعات التي ألزم بها.
ومن الجدير بالذكر أن  مؤسسات التصنيف الائتمانية قد فشلت في تقدير المخاطر المتعلقة بسندات الرهون العقارية، والتي أدت إلى نشوء الأزمة المالية العالمية عام 2008، وتعرضها لانتقادات واسعة إثر ذلك، وهو الأمر الذي دعاها إلى أن تتخذ مواقف أكثر تشددا من ذي قبل في تقدير المخاطر، حيث قامت مؤسسة ستاندرد آند بورز بتخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة، لتفقد بذلك تصنيفها الائتماني المتميز، أي أن اقتصادها بدأ يتراجع ويعطي مؤشرات سلبية.
وانتقلت الأزمة المالية 2008 إلى باقي دول العالم المرتبط اقتصادها بالاقتصاد الأمريكي، مثل دول أوروبا وآسيا ودول الخليج، ولم يتأثر الاقتصاد المصري لأنه لم يتبع نفس الآلية التي كانت تتبعها تلك الدول، وبدأ التدخل الحكومي الأمريكي لإنقاذ الاقتصاد، كما بدأت أزمة تفاقم الديون الخارجية تلوح في الأفق الأمريكي بداية من عام 2011، مع ارتفاع معدلات البطالة، وازدياد النفقات الحكومية الأمريكية الموجهة نحو إعانات البطالة، بدءاً من عام 2013، ليتم وضع برنامج لإعانة البطالة يقدر بنحو 25 مليار دولار سنوياً، يتم توجيه موارده لمن فقدوا عملهم نتيجة الأزمات المالية.
ونظراً لأن أية أزمات اقتصادية تمر بها الدولة تنعكس مباشرة على أداء أسواقها المالية، فكان من الطبيعي أن تتأثر أسواق المال الأمريكية بتلك التداعيات. ومن المعروف أن أسواق المال الأمريكية تجتذب أكبر مستثمري العالم، فتأتي كلٍ من الصين والدول العربية لتتربع على عرش الاستثمار في الولايات المتحدة، من خلال شرائهم للعقار، أو السندات، أو الصناديق الخاصة والأسهم، وانهيار الاقتصاد الأمريكي يعني فقدانهم لاستثماراتهم، وهو الأمر الذي دعاهم إلى حرصهم على توجيه المزيد من الاستثمارات المتمثلة في شراء السندات الحكومية الأمريكية لمساعدة الاقتصاد الأمريكي على التعافي من تلك الأزمات المالية التي ألمت به.
فجاءت الصين لتكون أول حائز عالمي للسندات الأمريكية بقيمة تتجاوز 300 مليار دولار، تليها الدول العربية خاصةً السعودية، والكويت، والبحرين، والإمارات بقيمة تتجاوز 270 مليار دولار، في حين يصل حجم الإيداع العربي في المصارف الأمريكية نحو 700 مليار دولار، هذا بخلاف الصفقات التجارية بصفة عامة، وصفقات شراء السلاح بصفة خاصة.
وثمة معنى واحد لحرص الصين ودول الخليج العربي على الحفاظ على الاقتصاد الأمريكي من الانهيار ألا وهو حفاظهم على مصالحهم المالية، وحرصهم على عدم فقدانهم لاستثماراتهم.
وفي خطوة نحو التخلص من الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي، ثمة توجه نحو استخدام العملات المحلية بين الدول، مثل التجربة الناجحة لمجموعة "البريكس"، والتي تضم كلًا من دول "البرازيل، والصين، وروسيا، وجنوب إفريقيا، والهند"، فعندما تكون الهند مديونة للصين فإنها تدفع لها بـ"الروبية" وليس بالدولار، أي بعملتها المحلية دون اللجوء إلى تسوية مدفوعاتها بالدولار.
كما وقعت مصر والصين اتفاقية لتبادل العملات المحلية، أي أن المعاملات التجارية تتم بالعملات المحلية لكلٍ من الطرفين، تخفيفاً للضغط على العملة الأمريكية، إلا أن هذا الاتفاق لم يكتب له النجاح حتى الآن بدرجة كبيرة، نظراً لعدم الثبات النسبي في أسعار العملة المحلية للطرفين، واستنادهما في التقييم إلى الدولار.
وهناك مشاورات جارية ما بين مصر وروسيا لتطبيق فكرة التعامل بالجنيه والروبل بين البلدين في تسوية الحسابات والتعاملات التجارية الثنائية بدلا من الدولار، بما يفتح آفاقا جديدة للتجارة والتعاون بين الطرفين، وبما يسهم في زيادة الطلب على العملات المحلية للطرفين، ويرفع من قيمتها مقابل الدولار، إلا أنه من غير المتوقع أن يتم تفعيل هذا الاتفاق إلا بنهاية عام 2019، حتى انتهاء برنامج مصر مع صندوق النقد الدولي، حيث يحظر صندوق النقد الدولي على مصر عقد اتفاقيات تجارة ثنائية حتى الانتهاء من البرنامج. 
وعلى جانبٍ آخر، هناك علاقة عكسية شائكة بين الدولار والنفط. ففي الوقت الذي يؤدي فيه انخفاض الدولار إلى رفع أسعار النفط، يسهم ارتفاع أسعار النفط في خفض الدولار بسبب ارتفاع فاتورة واردات النفط الأمريكية، وزيادة العجز في ميزان المدفوعات. فانخفاض الدولار يشجع المضاربين على دخول أسواق النفط، ويسهم بدوره في زيادة أسعار النفط، نتيجة زيادة الطلب عليه، وهو ما لا تسعى الولايات المتحدة إلى استمراره، حفاظاً على استقرارها الاقتصادي، وزيادة إنتاجها المعتمد على استيراد البترول. 
وبالتالي، ومن خلال المقال الأول والثاني في قضية الديون وعلاقتها بالتنمية الاقتصادية، نلاحظ تداخل وتشعب العلاقات الدولية، وأن المصالح الاقتصادية هي المسيطرة على الأداء العالمي، ويمكن أن ندرك، بل نؤكد على أن القروض يمكن أن تكون أداة فعالة تحقق بها الدولة تنميتها، ويمكن لها أن تحيد بالدولة في الاتجاه المعاكس للتنمية لتكون أداة هدم، وكي يتحقق هدف التنمية باستخدام القروض، فعلى الدول أن تتحلى بالموازنة بين علاقاتها الدولية، على أن تراعي مصالحها الاقتصادية في المقام الأول، وألا تحيد عن التخطيط الدقيق، والرشادة في صرف تلك القروض، بتوجيهها إلى أوجه الإنفاق المستحقة، وذلك كي تصل إلى أهدافها التنموية المستهدف تحقيقها. 
ذلك مع أهمية تأكيد عناصر الأمان الاقتصادي للدولة عند الاتجاه إلى الاستدانة، من خلال متابعة قيمة نمو الناتج المحلي الإجمالي للدولة، مقارنة بالتزامات الدولة من فوائد وأقساط للديون الخارجية، فإذا ما استغلت الدولة تلك الديون في تعظيم ناتجها المحلي الإجمالي، من خلال المشروعات التنموية، والبنية التحتية المدعمة لاقتصادها، بما يسهم في جذب المزيد من الاستثمارات وزيادة الصادرات، فإنها حتماً ستعمل على زيادة حجم الاحتياطي النقدي لديها، وبالتالي تصبح الديون أداة تنموية، وخلاف ذلك ستصبح الديون عنصر ضغط سلبياً على قوة الدولة.
وفي المقال التالي أو الثالث، سيكون تركيزنا على دور الديون في تحقيق التنمية الاقتصادية المصرية الحالية، مقارنة بوضع الاستدانة السابق، واستهدافها لسد عجز الموازنة، بالإضافة إلى قدرة الاقتصاد المصري على سداد التزاماته الدولية من فوائد الديون وأقساطها.
 

رابط دائم: