نحو صياغة إطار جيواستراتيجي قادر علي الردع
5-7-2018

أحمد ناجي قمحة
* رئيس تحرير مجلتى السياسة الدولية والديمقراطية
تعرف الجغرافيا السياسية بأنها الحقل الذي يدرس الوحدات السياسية وواقعيتها الجغرافية في العالم، من حيث وجودها وتطورها في مضمار القوة، وتحليل أسس العلاقات بين الدول، ومدي أثرها في تطور الدولة وبقائها‮. ‬وتعد الجغرافيا السياسية أحد مناهج التحليل السياسي، وتأتي أهميتها من كونها استطاعت أن تفسر بدقة كثيرا من كليات وجزئيات الظاهرة السياسية في القرون الأخيرة، خاصة ما يتعلق منها بصراع الاستراتيجيات للقوي الإقليمية، والدولية، والتسابق بين الدول علي الترتيب في السياق الإقليمي أو الدولي‮. ‬وأصبحت الاستعانة بقوانين الجغرافيا السياسية، وإدراك الإطار الجغرافي للمشكلة السياسية لا‮ ‬غني عنهما لفهم العلاقات الدولية، أو الصراعات الإقليمية علي حد سواء، بل وبدأ الحديث عن أثر الظروف الجغرافية في توجيه الأحداث السياسية في جهات العالم المختلفة، وهو الأمر الذي يؤكد تشابك وتعقد التفسيرات والتحليلات للكثير من الظواهر والقضايا السياسية، التي لم يكن من الممكن التفكير فيها لولا الربط بينها وبين أفرع أخري رئيسية في العلوم الاجتماعية، والذي ساعد علي تطورها علي مدار تاريخ العلاقات الدولية‮.‬
 
وكان أرسطو هو أول من تحدث عن قوة الدولة المستمدة من توازن ثرواتها مع عدد ساكنيها‮. ‬وظلت أفكار ربط الممارسات السياسية بالخصائص الجغرافية تتطور بإسهامات فلسفية متعاقبة‮. ‬واكتسبت هذه الأفكار دفعة قوية بما كتبه ابن خلدون في مقدمته الشهيرة‮. ‬ومع العقود الأولي للقرن الثامن عشر، شهدت فرنسا ظهور أفكار جغرافية سياسية رصينة، صاغها مونتسكيو‮. ‬ولكن مرحلة تحول هذه الأفكار إلي علم جاءت علي يد السويدي رودلف كيلين، وأيضا الألماني فردريك راتزل‮. ‬ويقسم البعض مراحل نشأة وتطور علم الجغرافيا السياسية إلي ثلاث مراحل، هي مرحلة الحتم الجغرافي‮ (‬الجغرافيا السياسية التقليدية‮)‬، ثم مرحلة الدولة ككائن حي‮ (‬الجيوبوليتيك‮)‬، حتي وصلت إلي المرحلة المعاصرة‮ (‬الجيواستراتيجي‮).‬
 
وقد ظهرت عدة نظريات تحليلية في الجغرافيا السياسية، من أبرزها نظرية القوة البرية، أو قلب الأرض للجغرافي البريطاني‮ "‬ماكيندر‮"‬، ونظرية القوة البحرية للأمريكي‮ "‬ألفرد ثاير ماهان‮"‬، ونظرية الجيوبوليتيكية الألمانية التي شرحها العالم الجغرافي الألماني‮ "‬كارل هاوسهوفر‮"‬، وهناك أيضا‮ "‬نموذج كوهين‮"‬، إضافة إلي نظرية الحدود الشفافة التي تبناها العالم الأمريكي‮ "‬بيتر تايلور‮". ‬وهناك مناهج متعددة يمكن اتباعها في دراسة الجغرافية السياسية وهي‮: ‬الإقليمي، والتحليلي‮ (‬تحليل القوة‮)‬، والتاريخي، والمورفولوجي، والوظيفي‮.‬
 
وقد ساد عالم ما بعد الحرب الباردة محاولة فرض إطار جيوبوليتيكي عالمي واحد تفرضه الهيمنة الأمريكية، ولكن هذه الهيمنة اهتزت في السنوات الأخيرة، نتيجة تورط الولايات المتحدة في حربين فاشلتين في أفغانستان والعراق، ونتيجة الأزمة المالية الراهنة، مما دفع ببعض القوي الدولية والإقليمية في عالمنا المعاصر إلي محاولة فرض قواعدها الجيوبوليتيكة، وكسر الإطار الجيوبوليتيكي الأمريكي المهيمن‮.‬
 
وكنتيجة منطقية لهذا الاتجاه الجديد لدي العديد من القوي الإقليمية والدولية، برز اتجاه آخر يهدف إلي توسيع دائرة الجيوبوليتيك بما يتفق مع المفهوم الأوسع والميدان الأرحب لعلم الجغرافيا العام، والتطور في نظريات الجغرافيا السياسية، وبالتالي ظهرت الحاجة إلي اصطلاح آخر يتفق مع الأهمية الكبري للجغرافيا بالنسبة للعلاقات القومية والدولية ككل‮. ‬ولنلاحظ صلة الموقع الجغرافي بالتجارة الخارجية، أو الأحلاف العسكرية، أو اثر طبيعة الحدود في الامتزاج الثقافي‮. ‬إن هذه المسائل وغيرها تتميز بالدينامكية أكثر مما تتميز بالثبات والجمود، وهي ذات صلة وثيقة في الوقت نفسه بأبحاث السياسة والتخطيط، إنها باختصار الجغرافيا التطبيقية في مجال العمل، أو هي‮ "‬الجيواستراتيجي‮".‬
 
وعلي ذلك، فإن الجيواستراتيجي هي التخطيط السياسي، والاقتصادي، والعسكري، الذي يهتم بالبيئة الطبيعية من ناحية استخدامها في تحليل وتفهم المشكلات الاقتصادية أو السياسية ذات الصفة الدولية‮. ‬وتبحث الجيواستراتيجي في المركز الاستراتيجي للدولة أو الوحدة السياسية، متناولة بالتحليل مجموعة من العناصر والعوامل الرئيسية، وهي‮ (‬الموقع، والحجم، والشكل، والاتصال بالبحر، والحدود، والعلاقة بالمحيطين الإقليمي والدولي، والطبوغرافيا، والمناخ، والموارد، والسكان‮).‬
 
فإذا كان الغرض من الجيوبوليتيك فهم ديناميكيات الصراع الذي يدور علي الخريطة السياسية العالمية، فقد أصبح معناها مرتبطا بمعالجة الرؤي السياسية عن العالم وكيفية تشكلها، وكذلك ربط الديناميكيات المحلية بالإقليمية والعالمية، وبالنظام العالمي ككل‮. ‬وهي بذلك تقدم الإطار المعرفي المتعدد والكافي الذي ينظم اللاعبين والعناصر والمواقع المهمة للشعوب والفاعلين الدوليين من الدول الوطنية وغيرها علي رقعة الشطرنج العالمية‮. ‬وأمام التقلص المساحي في العالم، الذي أحدثته العولمة وثورة الاتصالات والشبكات المعولمة، وما بدأ العالم يعرفه من تداخلات وتهديدات‮ ‬غير تقليدية ناتجة عن التطور السيبراني، أصبحت الرغبة في رؤية العالم من منظور واقعي أقوي من أي وقت مضي، وهو الأمر الذي لم يعد من المتصور حدوثه دون التطور نحو تبني الجيواستراتيجي‮.‬
 
والملاحظ من كل ما سبق أن كل التطورات سالفة الذكر في علم الجغرافيا السياسية قد تحققت علي نحو كبير مرتبطة بمفكرين ومنظرين تتوافر لدي دولهم الرغبة في الهيمنة الاستعمارية، والرغبة في السيطرة علي الأرض، ومد النفوذ ووجود دور مؤثر لدولهم أو للتحالفات التي تدخلها دولهم، وهو الأمر الذي ارتبط، من جهة أخري، بالتطورات الاقتصادية، والاجتماعية، والمعلوماتية، والذي فرض أن تتطور معه مصطلحات الجغرافيا السياسية لكي تتطابق مع الواقع الموجودة به‮.‬
 
ويظل الأصل في كل التطورات والمصطلحات المتعلقة بالجغرافيا السياسية مرتبطا بالرغبة في الاستيلاء علي الموارد، وهو الأمر الذي يدفع نحو الاستيلاء علي المساحات الجغرافية أو التحكم بها‮. ‬ومنذ أقدم العصور، كانت الموارد بصورها المختلفة هي المحرك الرئيسي للصراعات، وهو الأمر الذي حاول علماء الغرب أن يوفروا له الأطر النظرية والثقافية اللازمة لشرعنة القتال‮. ‬ومع استحالة العودة للاستعمار التقليدي المباشر، الذي تم فرضه علي العالم سابقا، كان لابد من البحث عن أطر نظرية جديدة تستوعب المناهج الجديدة والأدوات التي يستخدمها الفاعلون الدوليون، فكان‮ "‬صدام الحضارات‮" ‬لهنتنجتون، و"نهاية التاريخ‮" ‬لفوكوياما، و"التفوق الجيواقتصادي الغربي‮" ‬لإدوارد لوتووك، وكلها تمهد للهيمنة الأمريكية عبر استخدام أدوات العولمة ثقافيا واقتصاديا، وقدرتها علي التحكم في إرادات الشعوب، وتوجيه وإدارة نظم سياسية تابعة لها، وهو الأمر الذي كان يتناسب مع اختفاء المعسكر الاشتراكي، وحتمية توجيه الصراع نحو عدو جديد وبديل جاهز يضمن السيطرة علي موارد الطاقة والنفط من جهة، ويسمح بالوجود عبر قواعد عسكرية أمريكية مستقرة في مناطق ما بعد المحيطات التي كانت تفرض العزلة الأمريكية، وتحمي المصالح الأمريكية ومصالح الدول المتحالفة معها من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة ضمان إدارة النظم وإرادات الشعوب وفقا للمخططات الأمريكية، والتي متي فشلت فإن سيناريوهات الفوضي والتقسيم جاهزة في مراحل لاحقة‮.‬
 
والأمر الأخير أطلق عليه بيتر تايلور، أحد أشهر باحثي الجغرافيا السياسية في العقدين الأخيرين، ‮"‬الحدود الشفافة‮"‬، ويقصد به ضمان الهيمنة والسيطرة والنفوذ للولايات المتحدة الأمريكية اقتصاديا، وثقافيا، وعسكريا، والتي تتعدي علي الخرائط الحدودية للدول، وتمحوها متي أرادت، إنها‮ "‬الجغرافية الحيوية للسيطرة من دون إمبراطورية استعمارية‮" ‬بعيدا عن المواجهات العسكرية التقليدية، والتي تتيح التفوق من خلال‮ "‬اللامواجهة‮"‬، مستندة إلي مزايا الحرب السيبرانية، وحروب المعلومات، وتوظيف وكلاء وعملاء لإدارة الحرب بالإنابة، أو التدخل في لحظة محددة بعده تدخلا لمصلحة الإنسانية يخدم قيما نبيلة كالحق، والخير، والعدل، والحرية‮. ‬وهذا الإطار، يوفر للولايات المتحدة وحلفائها مجالا واسعا لتجارة السلاح بجميع أشكاله، وتحصل شركاتها علي أفضل فرص‮ "‬إعادة الإعمار‮" ‬في مرحلة التعافي من الصراعات، وتستحوذ شركات أخري علي أفضل المميزات لحقوق التنقيب عن الموارد والثروات، ومن جهة أخيرة تمكنها من مواجهة أي قوي يمكن أن تشكل لها تهديدا عسكريا، واقتصاديا، وتجاريا عبر تطويقها بشبكة من التحالفات، والسيناريوهات، والتكتيكات التي تستغل فيها أحدث تقنيات تكنولوجيا ما بعد الحداثة‮.‬
 
فمع صعوبة السيطرة الجغرافية المباشرة عبر الاستعمار، كان ابتكار هذه السياسات والأفكار لضمان الهيمنة والنفوذ السياسي والاقتصادي علي كل من هو خارج منظومة التحالف الغربي‮ - ‬الأمريكي‮ - ‬الأوروبي، وضمان مواجهة بزوغ‮ ‬أي قوة جديدة يمكن أن تشكل خطرا علي هذا التحالف، الذي سيظل ينظر للعالم بعده الشمال الغربي المتقدم الذي له كامل الحق في السيطرة علي مقدرات العالم في بقية اتجاهاته الشرقية والجنوبية‮.‬
 
والآن، ومع تبلور أهداف مخطط‮ ‬2011‮ ‬الذي استهدف الدول الكبري في المنطقة العربية، بعد إسقاط العراق في‮ ‬2003،‮ ‬والذي كان أشبه بنظرية‮ "‬الدومينوز‮" ‬التي اتبعت لإسقاط دول المعسكر الاشتراكي، ومع بدء تجلي أسباب المخطط من أهداف نفطية، ومشروعات مد خطوط أنابيب‮ ‬غاز في استهداف سوريا وليبيا، ومع اكتشافات الغاز في شرق المتوسط، خاصة بعد اتفاق ترسيم الحدود المائية المصري‮  ‬القبرصي عام‮ ‬2014،‮ ‬فإننا أمام مهددات خطيرة للجيوبوليتيكا الخاصة بالوطن العربي، الذي تآكل مزيد من أراضيه في فلسطين المحتلة من خلال الاستيلاء التدريجي لإسرائيل عليها، والمتوج بالإعلان الأمريكي عن نقل السفارة الأمريكية للقدس، إضافة إلي سيناريوهات البلقنة، ومحاولات التقسيم المستمرة للدولة الوطنية في العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، والتي تتصدي لها بوعي كبير الدولة المصرية، وبقية الدول العربية الكبري، ومحاولات تهديد مستمرة لموارده الطبيعية من نفط، وماء، وغاز لتجفيفها، وبالتالي تأزيم الأوضاع الداخلية لثروته البشرية، وإدخالها في صراعات مجتمعية وداخلية تحد من قدرات وأدوات دوله في القيام بأدوارها المؤثرة في السياسة الخارجية، وتخرجها من دائرة التأثير كفاعل في العلاقات الدولية‮.‬
 
وبالتالي، فالدول العربية، وعلي رأسها مصر، مطالبة الآن أكثر من أي وقت مضي بتبني إطار جيواستراتيجي، يضمن صياغة فعالة للمصالح العربية مع القوي التي سيطولها التهديد نفسه كالصين والهند‮. ‬فالعلاقات الدولية تقوم الآن علي إعلاء المصالح بصورة جلية، والدول المهددة بالتعرض لما لاقاه المعسكر الاشتراكي والدول الكبري في المنطقة العربية من‮ ‬2011‮ ‬وحتي الآن كثيرة، وهذه الدول لديها من الإمكانيات والقدرات ما يؤهلها‮ -‬إذا اجتمعت واستخدمت الأدوات نفسها التي يطرحها المفكرون الغربيون لخدمة مصالح دولهم‮- ‬لأن تواجه هذه التهديدات‮. ‬ولعل ما طرحه المفكر الراحل جمال حمدان وعبر عنه في كتابه‮ "‬شخصية مصر‮: ‬دراسة في عبقرية المكان‮" ‬تمثل إطارا مرجعيا يمكن البناء عليه، وتأسيس روابط جيواستراتيجية مصرية وعربية تبرز المصالح العربية وتقويها عبر علاقات تبادلية وتكاملية مع ما يجاورنا مباشرة من دول هي الأقرب لنا بحكم الثقافة والتاريخ، وأيضا مع الدوائر المحيطة بنا‮: ‬كدائرة البحر المتوسط، والدائرة الإفريقية، ودائرة شرق ووسط آسيا، وذلك شريطة أن يقترن ذلك بتوافر القدرات العسكرية الحديثة للجيوش الوطنية بما يسمح لها بأن تكون بمنزلة‮ "‬الرادع المناسب‮" ‬لمواجهة مصادر التهديدات علي مستوي الدولة الوطنية، والمستوي القومي العربي، والتصدي للتهديدات العابرة للحدود التي لا نواجه فيها العدو مباشرة، بل دائما ما نواجه عملاء أو وكلاء له‮.‬




رابط دائم: