سيناريوهات ما بعد قمة الكوريتين .. عودة الصراع أم إحلال السلام؟
8-5-2018

د. رضا محمد هلال
* مدرس العلوم السياسية- جامعة 6 أكتوبر
أخيرا، وبعد طول انتظار، وبعد المفأجاة غير المتوقعة من كيم جونج أون، رئيس كوريا الشمالية، فى فبراير 2018 بإعلانه الاستعداد عن اتخاذ إجراءات لنزع التوتر والصراع فى المنطقة، اجتمع مع نظيره الرئيس الكورى الجنوبى مون جيه-إن فى منطقة بانمونجوم منزوعة السلاح فى شبه الجزيرة الكورية يوم الجمعة الماضى 28 أبريل فى أول قمة رفيعة المستوى بين الكوريتين الشمالية والجنوبية منذ أكثر من عشر سنوات . وعلى الرغم من اتفاق الرئيسين خلال القمة على تضمين عدة نقاط فى البيان الختامى تضمنت: تحسين العلاقات بين الكوريتين، والسعى سويا نحوتحقيق الهدف الأسمى، وهو إعادة توحيدهما، وتقليل التوترات، وتقويض خطر الحرب بينهما، وتأسيس نظام سلام قوى فى شبه الجزيرة الكورية –غير أن الشكوك لا تزال مثارة حول جدية والتزام كوريا الشمالية بهذه الغايات والأهداف، خاصة فى ظل أن مضمون "إعلان بانمونجوم" لا يختلف فى جوهره كثيرا عن الاتفاقيات والإعلانات السابقة بين الدولتين فى أعوام 1992 و2000 و2007، والتى انتهت جميعها الى الفشل؛ وهو ما يدفعنا لمحاولة وضع تصورات أو سيناريوهات مستقبلية لمسار التقارب وعودة الاستقرار والأمن فى هذه المنطقة الحيوية من العالم فى غضون السنوات العشر القادمة.
أولا- المصلحة الوطنية والسعى الكورى الشمالى لتحقيقها: 
يمكن تفسير وتحليل منطلقات وأهداف السياسة الخارجية الكورية الشمالية فى شبه الجزيرة الكورية بصفة خاصة، وشرق آسيا عموما بالرجوع لمقولات وإسهامات المدرسة الواقعية التقليدية الجديدة فى السياسة الخارجية، حيث حاولت هذه المدرسة -خلافا للمدارس الأخرى فى تحليل السياسة الخارجية للدول- تخفيف حدة الفصل بين أثر البيئتين الداخلية والخارجية فى تفسير السياسات الخارجية، لتشكل بذلك مبادرة إيجابية فى إعطاء أهمية للمحددات الداخلية، إلى جانب المحددات النسقية والخارجية، حيث يتفق جميع منظرى هذه المدرسة على الاعتراف والإقرار بدور وتأثير البنية الداخلية وإدراكات صانع القرار على توجهات وأهداف السياسة الخارجية. ومع ذلك، تميز الواقعية التقليدية الجديدة بين النظرية الدفاعية والنظرية الهجومية. وتفترض الواقعية الدفاعية أن فوضوية النظام / النسق الدولي أقل خطورة، وبأن الأمن متوفر أكثر من كونه مفقودا؛ وبالتالى يركز قادة الدول فى سياساتهم الخارجية على امتلاك الوسائل الكفيلة بالدفاع عن نفسها دون تهديد الآخرين، وبالتالي لا يحاولون وضع دبلوماسية عنيفة واستراتيجية هجومية إلا في حالة الإحساس بالخطر، وبالتالي فإنه فى غياب الأخطار الخارجية، فإن الدول ليس لها دوافع آلية إلى اتباع هذه السياسات العنيفة . 
 وعليه، فقد طورت الواقعية الدفاعية فرضياتها لتبين مـن خلالها أثر إدراكات صناع القرار وضغوط البنيات الداخلية للدولة في تحديد طبيعة التوجه الخارجي لها. ففي حالة وجود خطر خارجي، فالدولة تجند مجموع القدرات العسكرية، والاقتصادية والبشرية للدفاع عن المصالح الحيوية فقط، وفى مقدمتها قضية الأمن. واعتمدت هذه المدرسسة مصطلح "الواقعية التعاونية Co-operative Realism الذى يركز على تفادي الحرب ووضع سياسات مشتركة لتحقيق الأمن. بينما جاءت النظرية الهجومية كرد فعل على مقولات وتوجهات النظرية الدفاعية، وتذهب إلى أن حالة الفوضى الدولية الفوضى تفرض باستمرار على الدول تعظيم وزيادة القوة الخاصة بها، والمبادرة للهجوم والحد من قدرات الخصوم والمنافسين لها. مما سبق يتبين أن مقولات الواقعية التقليدية الجديدة أحدثت تحولا عميقا فى فهم وتفسير السياسات الخارجية للدول فيما يتعلق بإزالة الحدود الفاصلة بين ما هو داخلي وما هو خارجي؛ لتفتح المجال أمام ضرورة إعادة النظر حول تأثير المحددات الداخلية في توجيه السياسة الخارجية، وإزالة ذلك الفصل الصلب بينهما.
وقد تضافرت العوامل والمحددات الداخلية مع أثر عوامل ومحددات البيئة الإقليمية والدولية فى قرار الرئيس الكورى الشمالى كيم جونج أون فى فبراير 2018 بالإعلان عن "الاستعداد للتخلى عن إجراء التجارب النووية، ووقف برامج تطوير الصواريخ الباليستية"؛ واختياره لرئيس جهاز الأمن الوطنى الكورى –المخابرات الخارجية– لنقل هذه الرغبة والاستعداد للرئيس الأمريكى دونالد ترامب التى عَدّها خطوة جريئة، وسيتم التواصل مع القيادة الكورية الشمالية لترتيب وتنفيذ هذه المبادرة التى تلقفتها القيادة الكورية الجنوبية التى واجهت ضغوطا داخلية متزايدة لوقف المناورات العسكرية مع الولايات المتحدة، ونشر منظومة الصواريخ الأمريكية المضادة للصواريخ فى القواعد الأمريكية الموجودة فى كوريا واليابان . 
وقد واجه صانع القرار الكورى الشمالى، ممثلا فى الرئيس كيم جونج أون، عدة ضغوط محلية ودولية بالغة الحدة، مما دفعه لطرح مبادرته بالاستعداد عن التخلى عن التجارب النووية، وتطوير منظومة الصواريخ الباليستية لديه. هذه الضغوط من أهمها: تزايد حدة العقوبات الاقتصادية الدولية على كوريا الشمالية والتى بدأت فى عام 2012 بعد تولى كيم جونج أون لمقاليد الحكم خلفا لوالده، وإعلانه استئناف تجارب تخصيب اليورانيوم، وبدء برنامج لتطوير وتحديث الصواريخ الباليسستية الكورية. ويعد القرار رقم 2397، الصادر عن مجلس الأمن في ديسمبر 2017، والذى نص على "حظر توريد جميع أنواع النفط الخام، أو بيعه، أو نقله إلى جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية...."، إلى جانب العقوبات الأخرى المفروضة عليها، سببا مباشرا فى تزايد حدة الأزمات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية التى واجهتها كوريا الشمالية، إلى جانب تحول علاقات التحالف والصداقة مع الصين والتى بدأت منذ أوائل الخمسينيات من القرن العشرين إلى الجمود والفتور، بدءا من يناير 2017، حيث بدأت العلاقات الصينية - الكورية الشمالية منذ عام 2006 تشهد فتورا وتوترا ملحوظا وتحولت اللهجة ولغة الخطاب السائد بينهما، بدءا من سبتمبر 2017، من الدبلوماسية إلى العقاب؛ حيث أيدت الصين ودعمت قرارات العقوبات الاقتصادية والفنية والعلمية والتكنولوجية الصادرة عن الأمم المتحدة، ومنها القرار رقم 2397، الصادر عن مجلس الأمن في ديسمبر 2017، حيث علقت شركة الصين الوطنية للبترول مبيعات الوقود، إضافة إلى قيام البنوك الصينية بتقييد الأنشطة المالية للأفراد والشركات الكورية الشمالية؛ كما توقفت الصين عن استيراد الفحم وبعض المعادن الثمينة من كوريا الشمالية، وحظرت بيعها للوقود والمواد الأخرى المرتبطة ببرنامج الأسلحة.
ويتعين التوقف إزاء تطورات الموقف والسياسة الكورية الشمالية من الأمن والاستقرار فى شبه الجزيرة أمام عدة ملاحظات، أهمها: أن هدف كوريا الشمالية هو "التفاوض على وقف التجارب" وليس التخلى عن السلاح النووى الذى بحوزتها، بالإضافة إلى أن الإنجازات التى تحققت فى إطار الضغوط الدولية على كوريا الشمالية تعزى فى جلها الأكبر إلى السياسة الصينية وتوجهاتها العقابية لسوء التصرف والانفلات غير المحسوب للقيادة الكورية الشمالية؛ وضمان السلام والأمن شبه الجزيرة الكورية، وحل المشكلات المتعلقة بها، من خلال المفاوضات والمناقشات السياسية. يضاف إلى ما سبق تطلع الرئيس الكورى الشمالى للاستفادة من تجارب الصين وفيتنام وأخيرا كوبا فى الانتقال لاقتصاد السوق المخطط الذى يعتمد على جذب الاستثمارات الخارجية والتكنولوجيا المتقدمة وتوطينها، وبالتالى تحسين معدلات النموالاقتصادى، وزيادة متوسط دخل الأفراد، ومواجهة أزمات توفير المواد الغذائية، خاصة فى فترات الجفاف، وندرة موارد المياه اللازمة للزراعة.
ثانيا- خطوات ما بعد القمة ومستقبل الأمن فى شبه الجزيرة الكورية: 
أسفرت القمة المشتركة للرئيسيين الكورى الشمالى والكورى الجنوبى، إلى جانب النتائج المعنوية عن إصدار بيان مشترك تضمن ثلاث نقاط رئيسية هي: تحسين العلاقات بين الكوريتين، مع تحقيق الهدف الأسمى وهو إعادة توحيدهما، وتقليل التوترات، وتقويض خطر الحرب، وتأسيس نظام سلام قوى. وتطبيقا للبند الأول والخاص بتحسين العلاقات بين الكوريتين، أعلنت وزارة الدفاع الكورية الجنوبية فى 30 أبريل –وبعد يوم واحد من القمة- أن الجيش سيقوم بإزالة مكبرات الصوت المستخدمة فى بث الحرب النفسية ضد كوريا الشمالية على امتداد الخط العسكرى الفاصل ابتداء من الأول من مايو؛ بحسبان أن هذه الإجراءات تأتى كجزء من مساعى الالتزام ببيان بانمونجوم الذى ينص على وقف جميع أعمال الاعتداء بالقرب من الخط العسكرى الفاصل بين الكوريتين، وإزالة المرافق المستخدمة لذلك مثل بث الدعاية المناوئة عبر مكبرات الصوت أوإرسال منشورات. ومع ذلك، أكد البيان الصادر عن الجيش الكورى الجنوبى أنه "يسعى لاتخاذ الإجراءات اللاحقة لتنفيذ اتفاقية بانمونجوم مع الاحتفاظ بجاهزية عسكرية قوية" .
وفى تحرك مواز، وفى الوقت ذاته، قررت اللجنة الدائمة لمجلس الشعب الأعلى فى كوريا الشمالية تقديم توقيت بيونج يانج الزمنى القياسى الحالى بنصف ساعة، اعتمادا على خط الطول الشرقى 135 درجة؛ وقد أرجعت اللجنة القرار إلى أن الزعيم كيم جونج أون شعر بأسى عميق، عندما رأى ساعتين معلقتين بتوقيتين مختلفين لبيونج يانج وسول فى موقع لقاء القمة بين الكوريتين، لذا بادر بتوحيد التوقيت الزمنى بين الكوريتين أولا- كأول خطوة للتصالح والوحدة للأمة الكورية.
وعلى الرغم من هامشية وبساطة الخطوتين السابقتين ، فإنه قد صاحبها تغير إيجابى فى الرأى العام الكورى الجنوبى، والذى كشف أحد الاستطلاعات لقياسه عن  أن أكثر من 65% من الشعب الكورى الجنوبى يثقون فى نية ومصداقية كوريا الشمالية لنزع السلاح النووى فى شبه الجزيرة الكورية، وإحلال السلام مع كوريا الجنوبية، فى حين ذكر 26.2% أنهم لا يثقون فيها حاليا. 
ومع كل ماسبق يتعين التذكير بأن ما تم التوصل إليه فى القمة المشتركة هو "بيان مشترك" يتعين استكماله بالتفاوض الجاد وطويل النفس للتوصل لإتفاقية سلام بين الدولتين بدلا من اتفاق وقف إطلاق النار ومنع الاشتباك السائد حاليا، علاوة على أنه على الرغم من أن التقدم بين الكوريتين هو أهم عامل يحدد السلام الدائم فى شبه الجزيرة الكورية، فإن هناك بعض الدول يتعين مشاركتها لضمان تحقيق ذلك، مثل الصين، واليابان، والولايات المتحدة، حيث يؤدى غياب اليابان وروسيا حتى الآن إلى تعقيد الأمور وعدم وصولها لغايتها المنشودة، بالإضافة إلى ضرورة استكمال الإجراءات السابقة بتدابير أخرى كثيرة لبناء الثقة بين الكوريتين، منها:
1- تدابير تبادل المعلومات : تسعى هذه التدابير إلى تحسين التفاهم بشأن القدرات والأنشطة العسكرية الوطنية؛ وتيسر أيضا التواصل المنتظم بين الكوريتين لتفادي المواجهات العسكرية المباغتة أو غير المنشودة. ومن أمثلة ذلك التحديد المتبادل لنقاط الاتصال العسكرية، وإنشاء خط ساخن بين كبار الضباط، وتبادل المعلومات العسكرية عن القوات والأسلحة الوطنية، والإخطار المسبق بالمناورات والأنشطة العسكرية. ويمكن أيضا أن يكون من بين هذه التدابير الإخطار الانفرادي بالحد من الأسلحة والذخائر والتخلص منها.
2- تدابير المراقبة والتحقق: تهدف هذه التدابير إلى خلق الثقة بالسماح للدول المشاركة، ومنها كوريا الجنوبية، والولايات المتحدة، واليابان، والصين، وروسيا بزيارة المرافق والأنشطة العسكرية الكورية الشمالية. وتساعد تدابير المراقبة على إثبات أن الأنشطة العسكرية لكوريا الشمالية ذات طابع غير عدواني، وأنها لا تتم إلا في سياق الأنشطة العسكرية، أو تخطيط هذه الأنشطة بما يتفق وميثاق الأمم المتحدة. ومن أمثلة ذلك دعوة المراقبين لمراقبة التدريبات العسكرية الكبرى، ودعوة البعثات لإجراء تقييم موقعي للمعلومات التي تقدمها الحكومة الكورية الشمالية عن وحداتها ومعداتها العسكرية. 
3- تدابير تقييد النشاط العسكري: المقصود بهذه التدابير الحد من قدرة الأطراف على جانبى الحدود القيام بهجمات عسكرية مباغتة. ومن أمثلة ذلك فرض قيود على عدد ونطاق التدريبات العسكرية الكبرى، والحد من تحركات القوات، وإلغاء حالة التأهب، وتوسيع المنطقة منزوعة السلاح والخالية من الأسلحة.
ويفضل فى الحالة الكورية الاتفاق على معظم تدابير بناء الثقة بين الدولتين، كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، في سياقات إقليمية تضم إلى جانب الكوريتين كلا من اليابان، والصين، وروسيا، والولايات المتحدة، والأمم المتحدة؛ بالإضافة إلى الترتيبات الثنائية التى تنظمها اتفاقيات إنهاء حالة الحرب، وإحلال السلام بينهما فى المستقبل. 
 

رابط دائم: