مذكرات ابنة دبلوماسى (6) ..إيران بين التاج والعمامة : "كارتر والمواجهة الأخلاقية للسياسة الأمريكية"
20-2-2018

معتزة أحمد مهابة
* خبيرة إعلامية مصرية
نتابع فى هذه الحلقة كيف بدأت الولايات المتحدة بقدوم الرئيس جيمى كارتر وضع سياسات ومنهج جديد للتعامل مع منطقة الشرق الأوسط وفقا لمصالحها ومصالحها فقط .. واللافت للنظر أنه على الرغم من مرور نحو 40 عاما على الثورة الإيرانية والإطاحة بالشاه، فإن المنهج الأمريكى فى التعامل مع دول الشرق الأوسط ظل كما هو لم يختلف إلا الأشخاص فقط .. التلويح بحقوق الإنسان، إن لم تستجب الدول وتخضع بكامل إرادتها أو بالتهديد والوعيد لرغبات الولايات المتحدة الأمريكية .. وحشد الآلة الإعلامية لتشوية صورة أى دولة أو رئيس دولة أصبح -طبقا لنظريتها- ورقة محروقة يجب التخلص منها بأقسى وأحط الطرق والوسائل .. وهذا ما حدث مع الشاه وزعماء دول عربية أخرى توهموا أنهم بإمكانهم مناطحة الولايات المتحدة الأمريكية .. وإليكم ما حدث .
 
إيران بين التاج والعمامة:
لقد كان اختلاف وجهات النظر بين الشاه والإدارة الأمريكية بعد الرئيس ريتشارد نيكسون حول موضوعات البترول والتسليح، والدور الإيرانى فى منطقة الخليج، قد خلق شرخا فى العلاقات الإيرانية – الأمريكية، ازداد عمقا واتساعا مع الزمن، حتى جاءت انتخابات الرئاسة الأمريكية التى رشح فيها نفسه الرئيس جيمى كارتر عن الحزب الديمقراطى، وتأكدت احتملات فوزه فقضت على البقية الباقية من الأمل فى نفس الشاه وأجهزت على الثقة التى كان يضعها فى الولايات المتحدة، فلماذا؟
لقد كان طبيعيا أن يتوقع الشاه والحكومة الإيرانية أن يأتى الرئيس الجديد لأمريكا، وهو مشحون ومتأثر بموقف الحزب الديمقراطى، ليس لأنه مجرد عضو فيه، ملتزم بسياسته ومبادئه، بل لأنه كان حزب الأغلبية فى الكونجرس، وأن لجنة الشئون الخارجية التى كانت بزعامة أحد أقطاب حزب الليبرايين، وهو هيوبرت همفرى، هى التى تزعمت حملة المعارضة ضد تطبيق نظرية ريتشارد نيكسون فى الدفاع عن المصالح الأمريكية خارج حدود الولايات المتحدة، وخاصة فى مجال سياسة التسليح، حتى إنها وضعت قيودا على حرية تصرف البيت الأبيض فى بيع أسلحة للدول الاخرى، واشترطت فى حالة زيادة قيمة الصفقة عن 25 مليون دولار أن تقدم الإدارة الأمريكية تقريرا يوضح الغرض من استخدام هذه الأسلحة، وأن استخدامها لن يضر بمصالح الولايات الأمريكية أو بالدول الحليفة والصديقة لها ..
لقد تأكدت مخاوف الشاه عندما بدأ الرئيس الأمريكى المحتمل، كارتر، يعلن فى حملته الانتخابية عن مبادئه وسياسته الجديدة، التى يلتزم بتطبيقها إذا منحه الشعب الأمريكى الثقة، وكانت هذه المبادئ تستهدف تغيير الواجهة الأخلاقية للسياسة الأمريكية، وتحسين صورة الأمريكى القبيح التى خلقتها حرب فيتنام وفضيحة ووتر جيت اللتين هزتا الضمير الأمريكى، وأثقلتاه بالكثير من الشعور بالذنب.
وكان على رأس هذه المبادئ أن تعمل الولايات المتحدة على إقرار حقوق الإنسان، وجعل احترامها شرطا جوهريا لحصول أية دولة على صداقة أو معونة الولايات المتحدة. صحيح أن مثل هذا الطموح الأخلاقى كان يشمل العالم بأسره، حيثما انتهكت حقوق الإنسان وامتهنت كرامته، وصحيح أن إعلان الرئيس الأمريكى الجديد عنها قد صادف ظهور حركة المنشقين فى الاتحاد السوفيتى، والتى استقبل كارتر زعيمها  كرمز لهذه السياسة الأمريكية الجديدة. فإن هذا الامر لم يلبث أن خفت حدته وتلاشى تدريجيا أمام رغبة الولايات المتحدة الملحة فى إنجاح سياسة الوفاق بين الغرب والشرق، والإبقاء على العلاقات بينهما بعيدة عن الحرب الباردة. لذلك، برزت إيران والشاه (محمد رضا بهلوى) كمثل صارخ على انتهاك حقوق الإنسان للشعب الإيرانى، بحيث أصبح السؤال الذى يوجه للرئيس الأمريكى فى كل لقاء انتخابى أو مؤتمر صحفى أو حديث تليفزيونى هو عن موقفه من انتهاك حقوق الإنسان فى إيران بصورة بدت وكأن إعلان الرئيس كارتر، ومن ورائه الحزب الديمقراطى لهذا المبدأ وضرورة احترامه، لم يكن مقصودا به إلا الشاه فقط، وأن هذه المعزوفة الإعلامية لم تكن لتتم مصادفة بغير سبق الإصرار والتعمد، ولا سيما أنه كان من الطبيعى أن تجد المعارضة الإيرانية فرصتها الذهبية التى استغلتها أحسن استغلال للقضاء على عرش الطاووس الإيرانى.
ومما زاد من الأمر وضوحا وجلاء، وأكد أن إيران والشاه هما المقصودان بهذه الحملة الأخلاقية، أن جيمى كارتر لم يكتف بهذا فقط، تاركا الأمر ليستخلص منه كل طرف ما يتفق مع أوضاعه، بل راح ينتقد سياسة من سبقوه من الرؤساء الأمريكيين تجاه إيران، لأنها جعلت منها (الدولة الأولى بالرعاية)، إذ إنه يرى أن ذلك أضر بالمصالح الأمريكية، وبقيم وأخلاقيات ومبادئ الشعب الأمريكى.
وكان طبيعيا أن تقف إيران -ملكا وحكومة- من مرشح الحزب الديمقراطى، وهو جيمى كارتر، موقفا يتسم بالتشاؤم وعدم الحماس، حتى إن الصحف وأجهزة الإعلام الإيرانية لم تقل كلمة واحدة لتأييد الرئيس الجديد للولايات المتحدة. وعندما أعلن فوز الرئيس كارتر، لم يكن ذلك بالنبأ الذى يدخل السرور على نفس الشاه وحكومته، حتى إن الجنرال نعمة الله نصيرى، رئيس جهاز السافاك وأقوى رجل فى إيران حينذاك، قال لسفير الصومال محمد على شرمانى، الذى كان فى زيارة مجاملة له، فى بداية مباشرته لمهام وظيفته بعد تقديم أوراق الاعتماد، فقد قال له نصيرى : "إنه من المستحيل عقلا ومنطقا أن يحكم جيمى كارتر، هذا الفلاح الأمريكى، الولايات المتحدة، وندعوالله أن تمر فترة رئاسته بسلام". 
ويقول السفير الصومالى: "لقد ظل الجنرال نصيرى يتحدث معى بانفعال وغضب مدة طويلة عن عدم تفاؤل إيران بالرئيس الجديد للولايات المتحدة".
ويقول السفير: "وكأن هذا الرجل كان يرى أن مصرعه قد بات وشيكا على يد هذا الفلاح المتدين، الذى كان يتهيأ ليدير حكم الولايات المتحدة الأمريكية، كما كان يدير مزارع الفول السودانى الواسعة التى كان يملكها".
وهكذا حكمت الحساسية والعصبية منذ ذلك الحين العلاقات الأمريكية - الإيرانية، وزاد من تعقيد الموقف وإثارة عدم الارتياح المتبادل بين الشاه والرئيس الأمريكى حادثان .. الحادث الأول فقد جاء عندما سأل أحد الصحفيين الأمريكيين هنرى كيسنجر، وكان لا يزال وزيرا للخارجية، عن رأيه فيما نشر عن مطاردة السافاك للمواطنيين الإيرانيين فى الولايات المتحدة وفرض الرقابة عليهم وتصفية العناصر النشطة منهم .. فرد كيسنجر قائلا: "إنه لا يعلم شيئا عن ذلك، ولكنه سيتحرى الأمر وسيعمل على إيقافه إن ثبت أنه صحيح".
ولكن لم يكد كيسنجر ينتهى من هذا التصريح حتى انبرى له متحدث رسمى إيرانى ليرد بعنف على تصريحاته، قائلا: "إن رجال الأمن الإيرانيين موجودون فى الولايات المتحدة بعلم وموافقة الحكومة الأمريكية لأداء وظائفهم، وأنه إذا قامت الحكومة الأمريكية بأى إجراء ضدهم، فإن إيران ستقوم بنفس الإجراءات ضد رجال الأمن الأمريكيين الموجودين فى إيران على سبيل المعاملة بالمثل".
أما الواقعة الثانية، فقد كانت عندما بعث الرئيس الجديد كارتر، وقبل أن يتسلم مهام منصبه الجديد كرئيس للولايات المتحدة، برسالة الى شاه إيران من خلال الرئيس القديم جيرالد فورد ووزير خارجيته هنرى كيسنجر اللذين كانا لا يزالان فى الحكم يطلب الرئيس كارتر فيها من الشاه أن يخفف من حدة موقفه فى الاجتماع القادم لمؤتمر منظمة الأوبك للدول المنتجة للبترول، بحيث لا يتزعم تيار رفع الأسعار، وهو الموضوع الذى كان يحظى باهتمام خاص من تفكير الرئيس الأمريكى الجديد، الذى كان يعول كثيرا على إصلاح المسار الاقتصادى الأمريكى .. إلا أن رد الشاه كان غير إيجابى بصورة عمقت غضب الرئيس كارتر، وزادت من إصراره على تنفيذ ما انتواه بالنسبة لشاه إيران، وقد اعترف الشاه نفسه فيما بعد بصحة الواقعة، وإن كان قد نفى أن الرسالة كانت شديدة اللهجة، أو أنها حملت تهديدا له، إذا لم يستجب لرغبة الرئيس الأمريكى الجديد، ولكنه قال إنه رفضها .
ولكن هل كانت هذه الخلافات التى سقناها، هى كل الأسباب الحقيقية لتصميم الإدارة الأمريكية فى عهد الرئيس كارتر على هز عرش الطاووس تمهيدا لاقتلاعه؟ 
إن الأمر كان أبعد وأعمق من هذا بكثير، لقد اتخذت المخابرات الأمريكية هذا القرار بعد دراسات معمقة للوضع فى إيران سبقت اتخاذه بنحو ست سنوات، وذلك من أجل إيجاد البديل لنظام حكم أسرة بهلوى، على النحو الذى سنوضحه فى الحلقات القادمة.
 

رابط دائم: