مذكرات إبنة دبلوماسي (5).. إيران بين التاج والعمامة: بريجينسكى يدعو لمخططه الدينى الجديد
5-2-2018

معتزة أحمد مهابة
* خبيرة إعلامية مصرية
لا أزال أسرد مقتطفات من كتاب أبى رحمة الله عليه، والذى كان شاهد عيان على التغييرات العاصفة التى حدثت فى إيران وما ترتب عليها من إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط .. اللافت للنظر والمثير للدهشة أن مخططات الغرب لتفكيك الدول، سواء أوروبا الشرقية، أو الشرق الأوسط، واحدة منذ عقود طويلة، تتبدل فقط الاشخاص، لكن المخطط رسم لينفذ بكل دقة وحزم. أما ما يثير الغضب والأسى، فهو أننا شعوب لا تقرأ، ولا تتعلم، ولا تتعظ، بل نحن دمى تحرك خيوطها كيفما تشاء قوى خفية ومعلومة تريد السيطرة على مقدرات الشعوب وثرواته، ولا نفعل نحن شيئا سوى البكاء على اللبن المسكوب .. لكن يبقى الأمل فى أن تكون الأجيال الجديدة أكثر وعيا وأكثر حرصا على ما تبقى من أوطانها .. ولنقرأ معا ماذا خطط بريجينسكى مهندس السياسة الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط.
فى عام 1977، أعلن بريجينسكى على الملأ رأيه بأن التمسك بالإسلام هو حصن ضد الشيوعية. ففى مقابلة مع جريدة (نيويورك تايمز) بعد الثورة الإيرانية، صرح بريجينسكى بأن واشنطن سترحب بقوة الاسلام التى بدأت تظهر فى الشرق الاوسط، لانها كأيديولوجية تتعارض مع تلك القوى فى المنطقة التى يمكن أن تكون مؤيدة للاتحاد السوفيتى.
ولقد أعاد سكرتير الرئيس كارتر الصحفى جودى باول هذا الرأى فى 7 نوفمبر 1979 وذلك بعد ثلاثة أيام من أخذ 53 من الرهائن الأمريكيين فى طهران. وعلى الرغم من أن مصادر موثوقة تقول ان بريجينسكى يكاد يكون على جهل تام بالظروف السياسية فى الشرق الاوسط، فإنه كان مشغولا بشكل مستمر بأستخدام الاديان والمذاهب الدينية كأدوات للحرب السياسية، فهو قد تدرب على أيدى اليسوعيين فى جامعة (ماكجل)، وقد قال إنه يعتبر نفسه قريبا من اليسوعيين فى طريقة تفكيرهم إلى درجة أنه رقى الى درجة عضو شرف فى جمعيتهم.
وتسيطر عليه كذلك بحكم خلفيته كمنتسب الى الارستقراطية الرجعية فى بولندا الاقطاعية، فكرة تحرير أوروبا الشرقية. ولقد قام بدراسة إمكانية إشعال ثورة هناك تقودها شبكات اليسوعيين. ومن هذا المنطلق، لم يكن من الصعب على بريجينسكى أن يصل الى استنتاج أن سلسلة من الحكومات الدينية فى الشرق الاوسط يمكن أن تخدم نفس الغرض، ومن هنا ساعد بريجينسكى وإدارة كارتر البابا فى ذلك الوقت وهو مواطن بولندى على ان يكون ريئسا للفاتيكان، وقام بزيارة بولندا فى يونيو عام 1979، وأصبحت الكنيسة البولندية بعدها تأخذ جانب الحركة العمالية البولندية ضد الحكومة البولندية كخطوة لتفكيك وزعزعة وحدة الدول الاشتراكية، الامر الذى بدأت تجنى ثماره فى بولندا. كما لعبت نفس الدور فى جمهورية بنما.
وكان بريجينسكى قد القى خطابا أمام الجمعية السياسية الخارجية فى واشنطن فى 20 ديسمبر 1978، وهو أول خطاب يكشف فيه عن التفكير الاستراتيجى الجديد للولايات المتحدة، والذى يركز فيه بشكل خاص على مبررات وجود أمريكا فى الخليج. 
وفى المذكرة الرئاسية رقم 18 فى صيف عام 1977، أمر الرئيس كارتر بإجراء مراجعة شاملة للوضع العسكرى للولايات المتحدة، وقد ارتكز بريجينسكى فى نظريته على ضرورة التحالف مع قوى التغيير الجديدة والتودد اليها حالما تنتصر فقال ما نصه:
"إن الامن الامريكى القومى يعتمد على قدرته على تقديم توجيه ايجابى لهذه العملية الصاخبة من اليقظة السياسية والموجات الثورية التحررية، وهذا يعنى أن على الولايات المتحدة أن تنغمس انغماسا نشطا فى الشئون العالمية لتعزز صلاتها بالتطورات عن طريق التزامها بالتغيير الايجابى فقط، ذلك أننا إذا خلقنا عراقيل مصطنعة فى وجه التغيير من أجل الحفاظ على الوضع الراهن فإننا سنعزل أنفسنا فقط و سنهدد أمننا القومى"
وفى ذروة الازمة ضد الشاه أصدر بريجينسكى تصريحه الشهير الذى يقول فيه "إن المنطقة تشكل هلالا للأزمات يمتد من شمال وشرق إفريقيا عبر الشرق الاوسط وتركيا وإيران وباكستان". واضاف "فى هذا الجزء من العالم، يقوم الاتحاد السوفيتى بلعبة للسيطرة على منابع النفط فى الخليج والتى تعتمد عليها الصناعة فى الغرب" 
ولم تكن الفكرة جديدة، فقد اقترح بريجينسكى فى يوليو 1978 بحث هذه الفكرة، حيث يرى أنه الى جانب الاستفادة من تنظيمات اليسوعيين ومختلف المنفيين فى اوروبا الشرقية وتطوير ورقة الصين فى آسيا، يمكن للتعاون مع التنظيم الاسلامى أن يساعد على تطويق الاتحاد السوفيتى بجيوش معادية له ايديولوجيا.
ولذلك كانت الولايات المتحدة الأمريكية ترى حسبما ورد فى النشرة الاستراتيجية الرسمية للحكومة الأمريكية، والتى ظهرت عام 1979 .. أن ولاء المواطنين المسلمين فى الاتحاد السوفيتى على طول جبهته الحيوية (اى إيران) 1500 ميل، يمكن أن يكون عاملا مساعدا على تفتيت الاتحاد السوفيتى عقب حرب نووية عامة.
وبتأثيرات هذه التطورات فى بريجينسكى، كلف الاخير لجنة التنسيق الخاصة بمجلس الامن القومى للقيام بدراسات عن التأثيرات الممكنة لصحوة اسلامية فى الشعوب الاسلامية المتاخمة لحدود الاتحاد السوفيتى، ويأتى الشعب الإيرانى بطبيعة الحال فى مقدمة هذه الشعوب. اذ ان هناك ما يزيد على خمسين مليونا من المسلمين السوفيت يشكلون ربع سكانه، خاصة أن هذا الجزء من سكان الاتحاد السوفيتى يعتبر اسرع الاجزاء نموا فى التركيب السكانى غير المتجانس لهذا البلد.
يضاف الى ذلك أن الأمريكيين كانوا على ثقة بأن الطبقة المتوسطة قد تشربت جماهيريا الثقافة الغربية، واصبحوا لا خوف عليهم من الشيوعية، لكن الأمريكيين كانوا فى حاجة الى طبقة اخرى لدعم العناصر المتطرفة والمعادية للنفوذ السوفيتى، وانه اذا كانت سيطرتهم على عقول الطبقة المتوسطة تتم عبر أجهزة الاعلام والانماط الاستهلاكية، فإن السيطرة على الطبقات الفقيرة لا تكون بغير رجال الدين، الذين وإن كانوا يعتبرون من الطبقة المتوسطة، فإنهم يسيطرون فى نفس الوقت على الطبقات الدنيا والتى هم فى حاجة الى استخدامها الان ..
ويزيد من أهمية رجال الدين فى إيران، فى نظر بريجينسكى، أنهم المجموعة الوحيدة فى إيران المهيأة للدخول فى انشطة المعارضة، لانها تملك نظاما متقدما للاتصالات والتسهيلات المحلية فى شكل مؤسسات دينيية كالمساجد وكمؤسسة (ارشاد حسينية) المرتبطة بها، وكل ذلك يجعلهم يتمتعون بحصانة فى مواجهة بطش الشاة.
وبناء على ذلك وفى ديسمبر 1978، وهو الوقت الذى تصاعد فيه المد الثورى ضد الشاه، قررت لجنة التنسيق الخاصة بمجلس الامن القومى، بشكل سرى، زيادة إذاعات وكالة المخابرات الأمريكية باللغات السائدة فى المناطق الاسلامية السوفيتية زيادة كبيرة.
كذلك تقول الاميرة أشرف شقيقة الشاه "إنه فى السبعينيات راح الاعلام الغربى يعدد ويضخم مشاكل وأخطاء الشاه، وكان هناك نحو ستين جمعية ومجلة، بالاضافة الى الدوريات الأمريكية كلها تنشر مقالات معادية للشاه، وكانت ترسل بالبريد لعشرات الالوف من الإيرانيين داخل وخارج إيران وان بعض هذه الدوريات كان يصدرها محترفون يتلقون تمويلا مكنهم من اخراجها فى شكل جذاب جعلها تنجح فى شن حرب باردة ضد الشاه"
ولقد ثبت انه كان هناك قدر من المعلومات المتوافرة عن طبيعة الخمينى ونواياه الحقيقية، وكانت كتبه موجودة فى مكتبات الجامعات الأمريكية وكان هناك العديد من الباحثين الأمريكيين فى الولايات المتحدة الذين يعرفون تعاليمه معرفة جيدة، وكان البروفسيور مارفين زونس من جامعة شيكاجو قد أجرى نقاشا مطولا معه، نقل تفاصيله لعدد كبير من المسئولين بوزارة الخارجية الأمريكية بعد ذلك بوقت قصير، وقال هذا الاستاذ الجامعى، الذى كان مهندس الحرب النفسية ضد الشاه، إنه وجد نفسه فى مواجهة الخمينى امام شخص يفتقر الى المنطقية بدرجة كبيرة.
علاوة على ذلك، فإنه منذ إقامة الخمينى فى فيلته الصغيرة بباريس أصبح على اتصال بالصحافة والتليفزيون ولكنه فى نفس الوقت كان موضع متابعة مستمرة من المخابرات المركزية الأمريكية، التى قامت باستئجار منزل بالقرب من فيلا الخمينى. واجرى اعضاء السفارة الأمريكية اتصالات منتظمة مع اقرب مستشار الخمينى أمثال بنى صدر، وصادق قطب زادة، وابراهيم يزدى الذى يحمل جواز سفر أمريكيا، ومتزوج من أمريكية، وهو اول من استخدم لتنفيذ فكرة الانقلاب فى إيران، حين اسس منظمة للطبلة المسلمين فى الولايات المتحدة، وجند لها الطلبة الإيرانيين وغير الإيرانيين، وكان همزة وصل بين رجال المخابرات الأمريكين والخمينى للاعداد لقلب عرش الطاووس فى إيران، حيث يعيش فى الولايات المتحدة منذ 18 عاما، ورفضت زوجته سرور التى تقيم بصورة دائمة مع اطفالها الستة فى مدينة هيوستن الأمريكية العودة الى إيران او التنازل عن الجنسية الأمريكية. 
لكل ذلك، اقتنعت الولايات المتحدة بفكرة الدولة الدينية (الاسلامية) ورصدت كل امكانيتها المادية والاعلامية لخدمتها.
 

رابط دائم: