ملفات ساخنة تنتظر مصر في إفريقيا
5-2-2018

أحمد بديوي
* كاتب وصحفي مصري
بعد سنوات شديدة الحساسية (بحكم تعقيدات وتشابكات، تعددت خلالها الأطراف الفاعلة، وتحولت المشكلات إلى أزمات)، عادت مصر (بجهود مؤسسية شاملة) لحضن القارة الإفريقية.. نجحت (وفق رؤية استراتيجية، وخطوات عملية) فى تبديد أزمة ثقة تسببت فيها سياسات تراكمية، كان من نتائجها تهديد الأمن القومي المصري بشكل مباشر، ممثلا في ملف الأمن المائي (مشروع سد النهضة) وعمليات تقسيم مناطق النفوذ الاستراتيجية والموارد الطبيعية، في نطاق مصالح الدولة المصرية، وعلى تخومه.
اتجاهات ومآلات العودة المصرية لحضن القارة الأم يعبر عنها الحضور الواضح للدولة المصرية فى اجتماعات القمة الثلاثين للاتحاد الإفريقي (على مستوى رؤساء الدول)، ورئاستها للدورة الحالية لمجلس الأمن والسلم الإفريقي، فضلا عن الاحتفاء الذى حظي به الرئيس عبد الفتاح السيسي (رئيس وفد مصر خلال اجتماعات أديس أبابا) وكلمته المعبرة عن توجهات السياسة الخارجية المصرية في القارة السمراء.. كل هذا يدعونا للوقوف أمام كيف حدثت هذه العودة؟ وما نتائجها؟ وماذا عن الملفات الساخنة التى تنتظر مصر فى فضائها الإفريقي؟
يستطيع المتابع لمسار العلاقات المصرية- الإفريقية، قبل 30 يونيو 2013، أن يتوقف أمام أسباب مهمة، شكلت جميعها عقبات أساسية أمام هذه العلاقات. فإلى جانب ما يمكن وصفه بالاستعلاء وتجاهل مشكلات وأزمات القارة (تحديدا منذ حادث أديس أبابا عام 1996) فقد غابت الرؤية والمشروع المشترك الذى من شأنه تقريب وجهات النظر، قبل أن تتعمق الأزمة بفعل مخططات دولية تستهدف إعادة تقسيم مناطق النفوذ فى القارة العامرة بالموارد الطبيعية، ثم اتسعت الهوة بين القاهرة وعواصم إفريقية رئيسية من خلال تغذية الفاعل الدولي لعمليات التنافس الإقليمي.
   خسرت مصر كثيرا بسبب هذه الأجواء.. دفعت الثمن مضاعفًا إثر حالة ضعف داخلية (بداية من 1997 حتى 2013) كان من نتائجها إعادة طرح مبادرة دول حوض النيل عام 1999، بدعم وإسناد وتمويل غربي- عربي، تحت إشراف البنك الدولي (تسيطر الولايات المتحدة الأمريكية على قراره بحكم قيمة مساهمتها فى رأسماله التى تقدر بأكثر من 27%) وعليه، نجحت واشنطن في إحياء مشروعها القديم الذى طرحته فى الستينيات من القرن الماضي، ردا على قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بناء السد العالي، فأعادت إثيوبيا مفاوضات جديدة حول تقسيم حصص مياه النيل مع مصر والسودان، ثم فاجأت الجميع (خلال اتفاقية عنتيبى 2010) برفض اتفاقيات قديمة تنظم عمليات تقسيم المياه، والأهم، رفض أديس أبابا لمبدأ الإخطار المسبق المعمول بها في إقامة السدود الجديدة بين دول المنبع والمصب.
وجدت إثيوبيا (وغيرها) الفرصة سانحة بسبب انشغال مصر بعمليات الإلهاء (2011، حتى 2013) فشرعت في بناء 4 سدود لحجز نحو 140 مليار متر مكعب من المياه.. أدركت إثيوبيا حالة الضعف المصري فى ظل مبادرة ما يسمى بـ"وفد الدبلوماسية الشعبية"، الذى بدا كأنه بديل للمؤسسات الوطنية القوية، فبادرت بتحويل مجرى النيل الأزرق لسد النهضة، وسط أداء مرتبك لحكومة الإخوان آنذاك، وفضيحة اجتماع محمد مرسي (والقوى المتحالفة معه) فى القصر الجمهوري للتآمر (على الهواء مباشرة) على الجانب الإثيوبي.
أتذكر فى هذا الشأن ما حدث فى وقت سابق، وكيف انفردت الولايات المتحدة الأمريكية (في غيبة مصر) بإدارة ملف صراع الثروة والسلطة فى السودان، قبل توقيع اتفاق "مشاكوس"، ولاحقا اتفاق "نيفاشا"، ثم تقسيم السودان رسميا إلى شمال وجنوب، فيما صانع القرار المصرى يراقب ما يحدث من مقاعد المتفرجين.. إنها النتيجة المباشرة لحالة الانسحاب التى بدت عليها مصر أمام مشكلات وأزمات إفريقية.. كانت أشبه بحالة شيخوخة انعكست بوضوح على أداء القاهرة في التعاطي مع ملفات مصيرية، تحدد مصير نحو 52 دولة، ومليار و100 مليون نسمة يعيشون على أرضها.
   تعاظم تداخل أطراف الصراع الرئيسيين فى القارة (فرنسا، وأمريكا والصين) وبقايا احتلال قديم (هولندا وبلجيكا وبريطانيا) تحاول أطرافه الحفاظ على وجودها (القوي، والنسبي) باتفاقيات ثقافية وأمنية وعسكرية، قبل أن تدخل على خط الأحداث عواصم جديدة بعضها شريك لقوى رئيسة (تركيا، وقطر) والآخر يحاول توسيع دائرة النفوذ (إيران)، ثم كان المتغير الأهم الذى أخذ طريقه للقارة، ممثلا في انتشار وتعدد الجماعات والتنظيمات والميليشيات الإرهابية (الوظيفية) للمحافظة على استمرار نفوذ قوى المصالح الدولية المتصارعة على القارة ومواردها.
قبل سنوات، تحولت معظم مناطق إفريقيا (فجأة) إلى أفغانستان جديدة.. أعلن تنظيم القاعدة عن نفسه، عبر عمليات نوعية.. تكفلت الولايات المتحدة الأمريكية (كما هى العادة)، بالترويج، والتخويف مما يحدث.. تتعدد الروايات فى تفسير كرة اللهب التى تمددت، لم تستبعد المعلومات صراع أجهزة استخبارات دولية، تسعى جميعها للسيطرة على المنطقة الغنية بالنفط والمواد الخام، وأدوار تلعبها أطراف أخرى فى تأجيج الصراع، لاسيما القبائل المسلحة والفصائل المتمردة.
عرفت القارة خلال العقدين الآخرين (على الأقل) أسماء تنظيمات وجماعات (حركة شباب المجاهدين الصومالية.. الجماعة السلفية للدعوة والجهاد في غرب إفريقيا.. جماعة المرابطين.. حركة التوحيد والجهاد.. بوكو حرام أنصار الشريعة في ليبيا.. جند الخلافة فى الجزائر) راحت تتمدد من منطقة القرن الإفريقى وجنوب وشمال الصحراء الكبرى حتى الجانب الآخر على المحيط الأطلنطي، وهو حزام يحيط بمنطقة مصالح وموارد طبيعية استراتيجية فى القارة.. زادت التعقيدات بعد موجة الاضطرابات التى شهدتها منطقة الشمال الإفريقى، خاصة ليبيا التى باتت ضحية لعملية تآمر دولي هدفها السيطرة على حقول النفط الضخمة، وما كان هذا ليحدث لولا دور مشبوه تلعبه ميليشيات إرهابية، توفر الذريعة للتدخل الدولي الذى سبق أن مهد بدوره الطريق لهذه الموجة الإرهابية بشعارات زائفة أطاحت بنظام الزعيم الليبي معمر القذافي.
   بالتزامن مع موجة التفكك الإفريقي، سارعت واشنطن (التى تستورد أكثر من 14% من النفط الخام من القارة السمراء) بتأسيس ما يسمي بقوات الاستجابة للأزمات الإفريقية (أفريكوم)، حتى تتولى مسئولية القيادة العسكرية والأمنية الأمريكية في عموم القارة، فيما الواقع يؤكد أنها وحدات عسكريات خاصة، لحماية الموارد النفطية للشركات الأمريكية، ولضمان تحكمها المطلق في حسم صراع المستعمرات مع فرنسا، ومواجهة كل من يعارض مخططات واشنطن أو يحاول عرقلتها، سواء كانت دولا أو قبائل أو تنظيمات، وراحت تزعم أن قوات الأفريكوم مهمتها "المحافظة على السلام.. المساعدة الإنسانية.. مكافحة الإرهاب...".
تعاملت واشنطن مع قوات الأفريكوم باعتبارها البديل المحلي للتدخل العسكري الأمريكي المباشر، حتى لا تتكرر الفضيحة التي منيت بها القوات الأمريكية في الصومال عام 1993، عندما تم سحل جنود أمريكان في شوارع العاصمة مقديشو، وسط تركيز إعلامي على الحادثة، التى تسبب لاحقا في انسحاب الجيش الأمريكي وهو يجر أذيال الخيبة، فيما ترصد وزارة الخارجية الأمريكية ووكالة التنمية الدولية حوالي 9 مليارات دولار سنويًا بحجة مساعدة الدول الإفريقية، لكنها تخصص معظم هذا المبلغ للعمليات الاستخباراتية في إفريقيا، لاسيما تمويل ودعم محطات الاستخبارات الأمريكية المنتشرة في إفريقيا.
     تعتمد فرنسا في المقابل خطة "برخان" العسكرية الفرنسية، الأكبر والأوسع لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي، عبر نشر مئات الجنود الفرنسيين (من فوج المظليين الثامن، التابع للبحرية الفرنسية)، والآليات والمعدات العسكرية، في مالي وتشاد وموريتانيا وبوركينا فاسو والنيجر، وتنتشر القوة الفرنسية فى منطقة "ممر سلفادور" (المنطقة الفاصلة بين ليبيا، وتونس، والجزائر، وتشاد، والنيجر)، بهدف تركيز الجهود والقوات في مواجهة الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل، وكل ما من شأنه زعزعة استقرار النفوذ الفرنسي هناك، كما تواصل القوات الفرنسية التمركز في قلعة "ماداما" شمال النيجر لإدارة عملياتها النوعية ضد خصومها، مدعوما بقاعدة عسكرية متقدّمة أخرى تم تركيزها في تشاد.
وسط هذا وذاك، لم يكن طريق مصر نحو الأطر القيادية للقارة (الاتحاد الإفريقي، ومجلس الأمن والسلم) سهلًا أو ميسورًا.. نجحت مصر خلال السنوات الأربع الماضية فى إعادة تصويب المواقف الدولية المتذبذبة تجاهها، وأوضحت للعالم أن جماعة "الإخوان" هى من عجلت بخروجها من السلطة، عبر استعداء كل فئات وقطاعات والتيارات السياسية فى المجتمع عليها، قبل أن تخرج الجموع الشعبية للمطالبة بإسقاط حكم الجماعة.. لقد عرف العالم، خاصة الاتحاد الافريقي، ومجلس الأمن والسلم، أكذوبة ما روجته الجماعة وكان سببا فى توتير العلاقة بين مصر ومنظمات دولية.. أدرك العالم دور مصر فى معادلة الأمن والسلم الإقليميين، ومن ثم لابد أن نرفع القبعة لمؤسسة الدبلوماسية المصرية (وزارة الخارجية) والأجهزة السيادية التى تؤدى دورها على أكمل وجه، والتى انتصرت فى معركة تكسير عظام على أطراف التآمر التى تتحسب من الدور المصري المتزايد، وتعمل جاهدة على تغييبه.
    عززتها تحركات وزيارات قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي، نجحت جميعها فى إعادة الطمأنة، ومد جسور الثقة، وقطع الطريق على محاولات الوقيعة بين مصر والدول الإفريقية التى بدأت تأخذ طريقها لصدارة المشهد العام فى القارة (إثيوبيا، وجنوب إفريقيا، وكينيا، والجزائر)، ونتذكر جميعا أن أول زيارة خارجية للرئيس كانت للجزائر، التى تشكل عاملا مهما فى منظومة العمل في القارة الإفريقية.. تبين لعقلاء العالم نتائج السياسة الخارجية المصرية، فى عهد جماعات الإسلام السياسي التى تغذى الاحتقان، وتدعم الإرهاب، وكيف أن معالجاتها ومواقفها الداخلية تدعم حالة التفكك وتقوض عمليات التعايش الاجتماعي والوطني، وما ينتج عنه من حروب طائفية- عرقية، قبل أن تتحول الدول التى تنزلق في هذه المساحات إلى دولة فاشلة، تسيطر عليها ميليشيات وجماعات إرهابية.
تحديات كثيرة ستفرض نفسها على مصر العائدة لمحيطها الإفريقي، حيث تتبنى القاهرة استراتيجية تعزيز التنمية والأمن، والحكم الرشيد فى الدول التى يستهدفها الإرهابيون، كما تضع مصر بعين الاعتبار الضغوط التى تتعرض لها العواصم الفاعلة فى القارة، من أجل أن تقدم تنازلات لقوى دولية ترغب فى توسيع دائرة نفوذها والاستحواذ على المزيد من الموارد الطبيعية. فالجزائر مثلا تعارض إطلاق يد فرنسا فى ليبيا، ومن ثم يجرى منذ سنوات فتح جبهة استنزاف جديدة على حدودها الجنوبية، بمنطقة الساحل الصحراء، بهدف جر الجزائر إلى معركة فرعية تشتت جهودها وصمودها الإقليمي.
التحرك المصرى تجاه ليبيا هو جزء من ركائز استراتيجية الأمن القومي المصرى، تماما كرؤية مصر تجاه ما يحدث فى السودان ومنطقة القرن الإفريقى، ومنطقة الساحل والصحراء.. ويشكل تحرك مصر فى هذا الشأن البند الأهم فى أجندة السياسة الخارجية المصرية، التى أثبتت خلال الفترة الممتدة من يونيو 2013 وحتى الآن مدى المسئولية الوطنية، فيما تؤدى القوات المسلحة المصرية دورا مكملا عبر المساعدة فى إعادة بناء الجيش الوطني الليبي على أسس علمية ومهنية، وتعتبر تحركاتها جوهرية فى هذا الشأن، كونها أحد العوامل المهمة فى تثبيت الوضع في ليبيا، تمهيدا لإعادة بناء الدولة وحماية مقدرتها من الإرهاب ومن يدعمه.
الثقة في الموقف المصرى تجاه ليبيا وتحركاتها الأخرى فى الملفات الأخرى فى القارة الإفريقية فرضت على منظومتي العمل السياسي والأمني (الاتحاد الإفريقي، ومجلس الأمن والسلم) الترحيب بدور مصر التى أصبحت صاحبة أدوار كبيرة.. الثقة الإقليمية باتت دولية فى ملف آخر يثير قلق الغرب الأوروبي، ممثلا فى ظاهرة الهجرة غير الشرعية، وهو تحد سياسي وأمني وإنساني، إلى جانب مردوده الاقتصادي والاجتماعي. وانطلقت جهود مصر من إنشاء اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة الهجرة غير الشرعية (مارس 2014) وهى تعمل كإطار منظم لجهود كل الجهات المعنية فى مصر، ومهمتها تذليل العقبات القانونية والميدانية والعصف بعصابات الجريمة المنظمة التى تنشط فى هذا المجال، ثم كان صدور القانون رقم 82 لسنة 2016 لمكافحة الهجرة غير الشرعية، بهدف تغليظ عقوبة مرتكبيها، مع حماية حقوق الضحايا، ودمج الجهات المختصة بمكافحة الهجرة غير الشرعية والاتجار فى البشر.
تضع السياسة الخارجية المصرية فى تحركاتها تجاه القارة الإفريقية ضرورة استفادة شعوب القارة بمواردهم الطبيعية، التى تتعرض لعمليات نهب منظم، بفعل الاضطرابات الأمنية والعسكرية التى تمنح قوى المصالح الدولية فرصة ذهبية لتثبيت وجودها، حيث تستهدف السيطرة على ثروات القارة (تنتج نحو90% من احتياطي البلاتين، كما أنها المنتج الأول لليورانيوم والذهب والألماس، وتسهم بنحو 11% من إنتاج النفط العالمي).
تحاول الدولة حاليا تصحيح الاختلالات التى شهدتها عقود سابقة فى العلاقات المصرية- الإفريقية، والتي كان ملف سد النهضة إحدى أهم نتائجها. لذا، يرسخ الرئيس عبد الفتاح السيسي لمنهج التعاون بدلا من تحويل الملف إلى صراع، من خلال ما يوصف بدبلوماسية القمة وإضفاء الطابع السياسي على المسار الفني للمشروع الإثيوبي، بعد تحول المشروع إلى أمر واقع (خلال الفترة التى ضعفت فيها الدولة المصرية) قبل أن تسترد عافيتها وتطالب (خلال القمة الثلاثية فى أديس أبابا) بتغليب مفهوم الأمن القومي المائي، وعلاقته بالأمن الغذائي، مما يحتم التعاون ومراعاة المصالح المشتركة. ترتبط السياسية المصرية فى الملف الافريقي بتغيير واتجاهات موازين القوى داخل القارة الإفريقية، وتدرك أن قوتها الداخلية أمر مهم في توسيع دائرة الخيارات بعدما ضاقت هذه الدائرة فى سنوات سابقة بسبب سياسات لم تكن أبدًا على قدر التحديات.
 

رابط دائم: