تأطير حرية الرأي
4-2-2018

د. إلهــام سيــف الدولــة حمــدان
* أستاذ العلوم اللغوية بأكاديمية الفنون وعضو اتحاد كتاب مصر
إن حرية التعبير لابد أن يعرف ممارسوها أن علاقة الفرد بالمجتمع هي علاقة مباشرة تفرض عليه المشاركة بالرأي مع عدم الإخلال بالأمن والسلم والنظام، وعدم تحريض العامة، أو التشكيك في نزاهة الحكم والسلطة الحاكمة بمبرر أو بغير مبرر، وعدم الخلط بين الحق في حرية التعبير والتجاوز غير المقبول؛ الذي يؤدي إلى الاحتقان والكراهية، وتأجيج جذوة الصراع داخل المجتمع، وليكن الفيصل والبقاء للمعارضة البناءة المعطاءة لكل ما يهدف إلى خير الوطن: تضاريس وبشرًا . فقد يُقصد بحرية الرأي الانطلاق في التعبير عن الأفكار والآراء عن طريق التخاطب المباشر، أو الكتابة للأعمال الفنية والإبداعية من مقال ورواية وشعر ورسم ومسرح وسينما دون رقابة أو قيود، ولا يحكمها إلا رقابة الضمير السوي المتسق مع توجهات المجتمع اقتصاديًا وسياسيًا؛ بمشروطيات تمثل طريقة ومضمون الأفكار أو الآراء، مما يمكن أن يُعد خرقًا لقوانين وأعراف الدولة التي سمحت بحرية التعبير، ويصاحب هذه الحرية غالبًا بعض أنواع الحقوق والحدود، مثل حق حرية العقيدة، أو الصحافة، أو التظاهرات السلمية … إلخ .
فهي تُعد من القضايا الشائكة والحساسة، خاصة في مجموعة دول ما يسمَّى العالم الثالث؛ إذ إن الحدود التي ترسمها الدول المانحة لهذه الحرية قد تتغير وفقًا للظروف الأمنية والتركيبة السكانية التي تشتمل على العرقيات والعصبيات والطوائف والديانات المختلفة التي تعيش في كنف الدولة وتحت جناحها، وأحيانًا قد تلعب ظروف خارج نطاق الدولة دورًا في تغيير حدود تلك الحريات .
ولأن البشرية دائمة البحث عن إقرار لحرية التعبير في مجال الصحافة؛ لذا تم اختيار الثالث من مايو لإحياء ذكرى اعتماد إعلان “ويندهوك” التاريخي خلال اجتماع للصحافيين الإفريقيين نظّمته اليونسكو وعُقِد في ناميبيا في 3 مايو 1991، وينص الإعلان على أنّه ”لا يمكن تحقيق حرية الصحافة إلا من خلال ضمان بيئة إعلامية حرّة ومستقلّة وقائمة على التعدّدية”، وهذا شرط مسبَّق لضمان أمن الصحفيين فى أثناء تأدية مهامهم، ولكفالة التحقيق في الجرائم ضد حرية الصحافة تحقيقًا سريعًا ودقيقًا. ويمثل هذا اليوم فرصة للاحتفاء بالمباديء الأساسية لحرية الصحافة؛ وتقييم حال مساحة الحرية لديها في كل أنحاء العالم؛ والدفاع عن وسائط الإعلام أمام الهجمات التي تشن على حريتها؛ والإشادة بالصحفيين والمراسلين الذين فقدوا أرواحهم فى أثناء أداء واجبهم .
ويُتَّخذ هذا اليوم مناسبة لتذكير الحكومات بضرورة احترام التزامها بهذه الحرية، ومناسبة أيضا لتأمل قوافل وسائل الإعلام في قضيتَيْ حرية الصحافة وأخلاقيات المهنة، وقد تم التركيز في هذا اليوم العالمي عام 2016 على الحق في الوصول للمعلومات، والحصول على الحريات الأساسيّة، والتركيز على حرية المعلومات والتنمية المستدامة، وحماية حرية الإعلام من الرقابة المفرطة، وضمان سلامة الصحفيين في الإعلام المكتوب والإلكتروني على حدّ سواء .
هذه بانوراما سريعة لاستعراض الصراع على إقرار حرية الرأي والتعبير عالميًا، ولكن ما بالنا بالساحة المصرية التي يهمنا أمرها في المقام الأول؛ خاصة في ظل ما تشهده مصر من برامج تعمل على التحريض انتهازاً لبعض ما يعانيه المواطن من بعض المشكلات هنا وهناك، ويتم كل ذلك تحت ستار حرية الإعلام لجذب المشاهدين؛ للحصول على أكبر نسبة مشاهدة بمصاحبة الإعلانات عن أي شيء وكل شيء؛ سعداء بما تصبه آلة الإعلام الجهنمية في جيوبهم من ملايين الدولارات؛ ضاربين عرض الحائط بالمصلحة القومية العليا للبلاد؛ برغم معلومية الجميع أن الوطن يخوض حالة حرب حقيقية مع أعداء الداخل والخارج .
إن الحرية اللامحدودة وغير المؤطرة بقوانين حاكمة وأعراف ملزمة دون ضوابط في ظل هذه الهجمات الشرسة، واستهداف عناصر الجيش والشرطة، وحالة الحرب المُعيشة؛ هي نوع ٌمن الفوضى التي يجب أن تحكمها الدولة بأجهزتها الأمنية ذات القبضة الحديدية؛ للحفاظ على مكتسبات الشعب من خطط الإصلاح التي تنتهجها بجديَّة لإعادة بناء البنية التحتية لخدمة الاقتصاد والسياسة والمجتمع، فنحن لا نطالب بإحكام القبضة الخانقة لتصل إلى نوع ٍمن أنواع الديكتاتورية في أي صورة من صورها؛ ونرفض الحرية المطلقة بلا سقف من المعايير الأخلاقية والإنسانية والوطنية؛ لأن الحرية المنفلتة تجرد الإنسان من رتبته الإنسانية، فهل يمكن أن تشكل الحرية مبررًا للتآمر والإفساد مثلاً؟! لهذا فإننا نهدف وندعو إلى ضرورة إحكام القبضة بمعنى تعميم الإلزام والالتزام بشرف الكلمة وأخلاقيات المهنة؛ دون العمل على إثارة التوتر والقلق داخل المجتمع تحت مسمَّى الحرية الإعلامية المزعومة، وهذا يستلزم إقرار المعايير التي تحقق الأمن عصب الاستقرار الاقتصادي؛ وبوابة جلب الاستثمارات الخارجية بلا خوف من المغامرة برأس المال، الأمر الذي سينعكس بالضرورة على رفاهية الفرد والمجتمع والدولة.
وفي محاولة لشرح وتقنين أبعاد الحرية الملتزمة والمهذبة، نستشهد بلقطة رائعة بين سيدنا موسى عليه السلام ورب العزة، وهى الحديث الذي دار في الوادي المقدس بعدما وجد موسى على النار هُدى .. “فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾ طه: 11-12؛ وهُنا أراد الله أن يعلمنا كيف تكون الحرية الملتزمة مع الأدب، وعدم استغلال منحه الحرية في التخاطب ليكون كليم الله؛ حتى ينسى نفسه وبشريته ولا يلتزم بالحدود التي منحه الله إياها؛ وليعلم أن الحرية لها حدود وسقف والتزام أدبي وأخلاقي .
هذه دعوة لنا جميعًا لاحترام المعايير الأخلاقية في استخدام حق حرية الرأي والتعبير؛ دون قهر أو ديكتاتورية، ولتكن القوانين هي الحَكم والفيصل؛ ليظل ميثاق الشرف هو المعيار والمعوّل على تحقيق الالتزام المرجو من عدمه داخل الإطار المعتدل، بعيدًا عن الفوضى المغرضة.
 

رابط دائم: