الرئاسة تعيد الفوضويين للمشهد!!
24-1-2018

أحمد بديوي
* كاتب وصحفي مصري
من مظاهر التحضير لانتخابات رئاسة الجمهورية فى مصر أنها أعادت للمشهد العام تيارات وجماعات فوضوية، تحاول جميعها الالتفاف حول مرشحين محتملين في الانتخابات.. يظهر ذلك من واقع التوكيلات الرسمية التى يحررونها لهم بمصلحة الشهر العقاري.. هذا ليس حكمًا مطلقًا، بل نتيجة واضحة، مدعومة بمعطيات يظهرها الخطاب السياسي والإعلامي، الذى يتبناه هؤلاء منذ سنوات، وحتى الآن.. تحركاتهم المثيرة للريبة بين صفوف الجماهير تكشف عن ترسيخهم لأفكار شديدة التطرف ضد مفهوم الدولة والمؤسسات الوطنية.. يدغدغون مشاعر البسطاء بـ"الحرية الفردية"؛ حيث لا سلطة على الفرد إلا نفسه! 
تسرب هؤلاء الفوضويون لواجهة المشهد فى زمن الوهن العام (اقتصاديًا وسياسيًا) قبل عودة الدولة لتحمل مسئولياتها، بعد 30 يونيو 2013.. وسط حالة زخم عبرت عنها جموع شعبية حاشدة توافدت (في مثل هذا التوقيت، قبل سبع سنوات) على الميادين العامة فى مصر، انتشرت هذه العناصر الفوضوية الهدامة بين الجماهير.. شرعوا في الترويج لشعاراتهم، التى يختصرها هتافهم الشهير: "الشعب يريد إسقاط النظام"!
المطالب شديدة الإلحاح (اقتصاديًا، وسياسيًا، واجتماعيًا)، التى حفزت جموع شعبية على الخروج للميادين العامة فى 25 يناير 2011، جعلت الأغلبية منهم تدعو (في البداية) لإصلاح هيكل الدولة (المؤسسات، والسياسات الحكومية)؛ لكن "قوى خفية" وجهت الطموحات الشعبية.. انتقلت بها من دائرة "المشروع" إلى مربع "اللامشروع".. لم ينتبه البعض إلى طريق "الفوضى الشاملة"، أو من يدفع بهذه الجموع للسير فيه.. اختلطت الأمور، وغاب التقييم المتعلق بالتبعات والعواقب!!
لم يكن هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام" حالة مصرية خاصة، بل شعار جرى تعميمه بين صفوف الجماهير في دول عربية استهدفتها المؤامرة.. واصلت الأطراف المحركة لهذه الحالة، والداعمة لها تعزيز الاحتقان المجتمعي، عبر قوى وجماعات جرى ترميزها، والتسويق لها (قبل فترة معقولة من اشتعال موجة الثورات المتزامنة).. أصبحت عناصرها هى الأعلى صوتًا، بحكم إمكانات لوجيستية وتنظيمية.. كان دورهم في عمليات توجيه المحتجين في تونس ومصر، وليبيا، وسوريا، واليمن شاهد عيان.
جرى تطوير الهتاف "الخبيث"، الذى بدأ بـ"الشعب يريد إسقاط الحكومة"، إلى "الشعب يريد إسقاط الرئيس"، ثم كشف هؤلاء عن وجوههم السافرة بـ"الشعب يريد إسقاط النظام".. كانت هناك رغبة ممن يدفعون بـ"الفوضويين" إلى استمرار حالة الثورة الدائمة.. إلى تحويل مفهوم "الفوضى الخلاقة" (الذى بشّرت به الإدارة الأمريكية في وقت سابق) إلى واقع عملي.
السياسة الأمريكية التى تبنتها إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، كانت امتدادًا لإدارة جورج بوش الابن.. اعتمدت بالأساس على تصدير الأزمة الاقتصادية الطاحنة في الداخل.. فتحت جبهة صراع جديدة فى المنطقة العربية.. كان ذلك يعنى الكثير فى المخطط "الجيوسياسي" الأمريكي.. هى طريقة مضمونة، ومجربة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وعلو شأن "الأحادية الأمريكية".. دوائر صنع القرار، كانت ترغب في مكاسب كتلك التى حققتها واشنطن في حرب الخليج الثانية (عملية عاصفة الصحراء).. من خلالها، تم تدمير قوة العراق، قبل تأميم ثروته النفطية في جولة الغزو اللاحقة.
الحسم الأمريكي راح يعتمد هذه المرة على مخطط متعددة الجوانب، يقوم على توظيف "الفوضى المتعمدة" (عبر قوى وتيارات، وميليشيات مسلحة، وشركات أمنية، وعسكرية خاصة).. جميعها راحت تؤدى دورها المرسوم في إحداث أكبر قدر من التخريب والعنف وإراقة الدماء.. الهدف: تعديل مسار الأحداث، وتوجيه الرأى العام للقبول بسياسات وقوى وتيارات، تقدم خدماتها لقوى المصالح الدولية.. تأتمر بأوامرها، رغم ما تبديه من عداء زائف لهذه القوى الدولية.
اكتسب مصطلح "الفوضى الخلاقة"، شهرته خلال العقدين الأخيرين، على يد، مايكل ليدين (المستشار السابق لمجلس الأمن القومي الأمريكي).. الرجل أعاد طرح فكرة "الفوضى البناءة"، عام 2003.. تباحث "المحافظون الجدد"، من اليمن الصهيوني المتطرف حول آلية تفعيل الفكرة؛ لكن وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كونداليزا رايس، حولتها (عام 2005) إلى خارطة طريق.. اعتبرتها الوسيلة الأهم لتنفيذ مشروع "الشرق الأوسط الجديد" (تقسيم المنطقة العربية، وفق أسس ومعطيات جديدة) بـ"الفوضى الخلاقة"!
فلسفة "الفوضى الخلاقة"، وفق المخطط الأمريكي، ترى أن انتقال الدول المستهدفة من "الديكتاتورية" إلى "الديمقراطية" يتطلب: "زعزعة استقرار الأنظمة المستهدفة، لا فرق بين المطالب الشعبية، والاحتجاجات، وتنفيذ العمليات الإرهابية.. زيادة الاحتقان المجتمعي من أجل الوصول إلى حالة الفوضى المربكة.. توجيه الفوضى لخدمة أهداف سياسية، وقوى سياسية يتم التنسيق معها منذ البداية.. حسم الفوضى، عبر الأدوات التى شاركت في إحداثها.. تثبيت الوضع الجديد الذى يتوافق مع مخطط الأطراف الدولية المحركة للأحداث".
المتخصصون فى رصد "الوعي الشعبي"، لديهم اقتناع بأنه لا يخضع للمنطق، ولا علاقة له بلغة المصلحة؛ لكنه وعي طفولي، انفعالي، فطري.. يتميز بالكثير من البراءة، والعفوية.. يسهل توجيهه سلبًا، عبر خطط ممنهجة من الأكاذيب والشائعات، لاسيما إذا كانت تستهدف المؤسسات الوطنية، وتتهمها بالتخاذل والخيانة.. يمكن لهذه الخطط المشبوهة أن تضفى على أفعال خصوم وأعداء الأنظمة الحاكمة المشروعية.. تتكفل أدوات العولمة (لاسيما مواقع ووسائل التواصل الاجتماعي) بالدور الأخطر في العملية.
هذه الأجواء تسمح للتيارات والجماعات "الفوضوية" بالتمدد.. ولِمَ لا، وهى ترفع شعارات زائفة، مفادها: السعي لتحقيق مجتمع الحرية والعدالة المنشود، مما يسمح لها بأن تشق طريقها بين الجماهير.. يجمع هؤلاء بين خلاصة النظريتين السياسيتين الأشهر عالميا (الرأسمالية.. الاشتراكية).. ينتصران للفرد والعقل والحرية.. يرفعان شعارات الدفاع عن حقوق الطبقات الكادحة.. يطالبان بالمساواة بين كل الأفراد، بغض النظر عن انتمائهم الديني أو العرقي.. وسط هذا وذاك، يرسخون لمشروعهم "التفكيكي- التفتيتي".. يهاجمون تدخل السلطة (أدوات الضبط الاجتماعي) في تنظيم المجتمعات.. يروجون بين الطبقات الكادحة (عمال، فلاحين، مهمشين...) إنها أداة تسلطية.. تمتلك أدوات القوة، ومن ثم تفرض منطقها على المواطنين.. تستخدم القوانين والتشريعات فى تكبيل الأفراد، بدلا من أن تتركهم لما تمليه عليهم حريتهم المطلقة!!
الفوضوية (بحسب المعاجم السياسية) اتجاه يعادي النظامَ الاجتماعي، ممثلا في مفهوم الدولة التقليدي (المؤسسات، والدستور، والتشريعات...).. يروج لمجتمع لا تحكمه السلطة.. العلاقة بين أفراده مبنية على إرادتهم الحرة.. كل إنسان سيد نفسه.. يحدد مصيره.. يرون أن السبيل لنيل الحقوق يبدأ بالكفاح الذاتي والنضال المشترك، عبر اللاعنف (الاستنزاف) والعنف (استخدام القوة المتاحة فى التخريب والتدمير) المباشر.. استراتيجيتهم هدم المؤسسات، حتى يقوم على أنقاضها مجتمع "الحريات الفردية"، حيث لا سلطة ولا عقاب، بل حالة شاملة من التحرر الشهواني.
فى الحالة المصرية تلاقت الرغبات بين عناصر متشددة داخل هذا التيار الفوضوي (مجموعات العدميين، الأكثر ميلًا للعنف) مع جماعة الإخوان ضد الدولة ومؤسساتها.. الإخوان، يرغبون فى هدم المؤسسات وقيام مؤسسات جديدة تعتمد على عناصرهم وكوادرهم (عملية الأخونة).. الفوضويون العدميون، يرغبون في مجتمع بلا مؤسسات مقيدة لأفكارهم الهدامة.. كلتا الحالتين، تفسر عمليات العنف التى شهدتها مصر خلال السنوات السبع الأخيرة (بداية من إحراق مقرات أمنية، ومحاولات اقتحام منشآت تتصدرها وزارة الداخلية، إلى سلسلة من الاحتجاجات الدموية، وعمليات إرهابية لا تزال تطل برأسها حتى الآن).
يناقض هؤلاء أنفسهم، يتحدثون عن حق جميع البشر فى الحصول على الاحتياجات الأساسية (خاصة الغذاء، والكساء، والسكن)؛ لكنهم يتآمرون على الإطار المنظم الذى توفره الدولة، ومؤسساتها فى تحقيق وحماية هذه الاحتياجات من الصراعات الفردية، التى يحسمها ويحتكرها الأكثر قوة، وفقًا لمنطق "شريعة الغاب".
"النظام" الذى يحاربه هؤلاء في معناه البسيط، هو العناصر المتفاعلة لتحقيق أهداف اجتماعية ٍمعينة.. العلاقات الإنسانية، فى زمن الحضارة تستلزم إطارا عاما ينظم الحركة اليومية (الترتيب.. التخطيط.. الانضباط.. تحديد مسار الحاضر.. تهيئة المجتمع لمستقبل أفضل).. يتم هذا عبر بيئة تتميز بالتعاون، والعمل الجاد بين كافة الأفراد والمؤسسات.
"النظام السياسي"، عقد اجتماعي معني بالقيام بأدوار ووظائف متعددة (إدارة موارد المجتمع.... تحقيق الأمن الداخلي، والخارجي.. تحقيق أكبر قدر من المكاسب والمصالح العامة.. الحد من التناقضات الاجتماعية.. إضفاء المشروعية على حياة الأفراد السياسية بتطبيق أحكام وقواعد القانون.. العمل على ضمان العدل والمساواة بين أفراد المجتمع، عبر المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية).. هو معني أيضًا بوضع السياسات العامة القابلة للتنفيذ، والحفاظ على الحقوق العامة والخاصة.
أزمة هؤلاء الفوضويين (قوى وجماعات) أنهم يتجاهلون تاريخ مصر، وأنها قدمت للإنسانية أقدم نظام سياسي في العالم.. على ضفاف نهر النيل نشأت أول دولة مركزية موحدة في تاريخ البشرية.. سبقنا العالم كله بـ"الأطر المؤسسية"، التى كان لها دور واضح في صياغة حياة الشعب، وتعزيز قيم الحرية والديمقراطية. من الماضى للحاضر، تحرص مؤسسات الدولة على سيادة القانون واستقلال القضاء كأساس للحكم.. دستور 2013 دعم التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمي للسلطة، والفصل بين السلطات، والتوازن بينهما.. تلازم المسئولية مع السلطة، واحترام حقوق الإٍنسان وحرياته، تدعمت السيادة الشعبية، المنصوص عليها فى الدستور، مع مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين.
الخصوصية التاريخية لمصر أعانتها على مواجهة الجماعات الفوضوية (فى الماضي القريب، كما الآن).. خطة التنمية الشاملة التى تركز على الأطراف قبل المركز قطعت الطريق على محاولات استغلال المطالب الشعبية المشروعة في التحريض على مؤسسات الدولة الوطنية.. يسعى الفوضويون لإضفاء المشروعية على نهجهم الهدام، عبر دعم مرشحين منقادين، يسهل التأثير فيهم، وشطبهم لاحقا من المعادلة بكل سهولة.. مطلوب من المؤسسات الوطنية إعادة النظر فى التجربة الحزبية فى مصر على أسس وطنية.. إعادة إحياء التجربة (التى عانت كثيرًا طوال العقود الماضية) رافد مهم لطرح وجهات النظر، والتعبير عن المطالب الشعبية.. مطلوب أيضًا دعم هيئات المجتمع المدني (بعد تطهيرها من العناصر الممولة خارجيا، والمتقاطعة مع قوى معادية).. عندئذ سيحدث التكامل بين المؤسسات، وتغلق الدولة (للأبد) الأبواب في وجه الفوضويين، ومن يدعمهم من قوى التآمر الدولية.

رابط دائم: