تحركات متوازية: كيف تتعامل الدولة المصرية مع التفاعلات الإقليمية في عام 2018؟
31-12-2017

د. محمد عز العرب
* خبير الشئون الإقليمية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية مدير تحرير التقرير الاستراتيجي العربي
درجت مقالات الصحف اليومية، وبرامج الحوارات في القنوات الفضائية، وتحليلات مراكز الدراسات الأكاديمية، وأقسام الدوريات العلمية على تخصيص مساحات ثابتة في نهاية كل عام وبداية عام جديد يجيب فيه الباحثون عن سؤال محوري بشأن الاتجاهات الحاكمة للتفاعلات الإقليمية في العام المنقضي، وكيف يمكن للدول التعامل مع توابعها في العام المقبل، لتقليص المخاطر والقيود، واستغلال المكاسب والفرص، مع الأخذ في الاعتبار إن الشرق الأوسط إقليم غير مستقر، ولا يمكن التنبؤ بمسار تطوراته نتيجة تعقد صراعاته وتفجر أزماته التي تلد واحدة بعد أخرى، وهي ليست أزمات صغيرة طارئة بقدر ما هي تهديدات أمنية كبرى متزامنة.
لذا، تنشغل مراكز التفكير الدولية والإقليمية بالرصد، والتحليل، والتقييم، والتقدير، والتنبؤ لهذه التهديدات أو المخاطر، حيث أصبحت أبرز السلع التي تنتجها "تقديرات المواقف" بما يؤدي إلى تجنب المفاجآت المتتالية على ساحة الشرق الأوسط في المدى القريب، إذ أدت حالة الفوضى التي شهدها الإقليم إلى فقدان المفاهيم الخاصة بالدولة، والأمن، والحدود، والاقتصاد، والنظام معانيها الدارجة، لاسيما مع وجود قوى سياسية وجماعات مصالح وشبكات إجرامية تدفع في اتجاه عدم العودة إلى الأوضاع الطبيعية، والمناطق الآمنة، والبقاء في "نقاط الاشتعال" الملتهبة. 
أولا- التحديات الإقليمية لمصر في عام 2018:
بوجه عام، تتمثل أبرز التحديات التي تواجه مصر من "فيروسات الإقليم" التي تهب من كل اتجاه، على النحو الآتي: 
خطر الوحش:
التهديدات الإرهابية العابرة للحدود الرخوة: إذ يظل الإرهاب مصدر التهديد الرئيسي الذي يواجه أمن الدولة المصرية، وفقا لمدركات التهديد الأمنية لصانع ومتخذ القرار في مصر، لاسيما بعد ثورة 30 يونيو 2013، إذ تواجه البلاد واحدة من أشد موجات الإرهاب حدة، التي تستهدف الدولة والمجتمع، قوات الجيش والشرطة والقضاء وأفراد عاديين، ودور العبادة الدينية (الإسلامية والمسيحية). وترتبط هذه الموجة الحالية بسياقات إقليمية أكثر من انعكاس لأوضاع داخلية، لاسيما في ظل حالة الفوضى المنتشرة في الشرق الأوسط، والتي أدت إلى "تسمين الوحش" بتعبير  الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
ورغم تصدع مشروع دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام التي حاول تنظيم داعش أن يقيم دولته الخاصة فيها على مدى السنوات الأربع الماضية، إلا أن خطر الإرهاب لا يزال قائما، سواء ارتبط بداعش، أو القاعدة، أو بوكو حرام، أو غيرها، وسيظل بقايا الإرهاب مختبئا في النسيج الاجتماعي بعد فقدان الدول السيطرة على الحدود المشتركة مع دول أخرى هشة أو فاشلة أو مجتزأة، وفقدان ولاء قطاعات من السكان على نحو خلق حالة من الزبائنية. 
وهناك مخاطر محتملة في عام 2018 تطرح في الأدبيات السياسية، مفادها أن هناك حالة انتقال للإرهابيين من الشام إلى منطقة الساحل. فقد أكد وزير الخارجية المصري، سامح شكري، خلال لقائه الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، في 18 ديسمبر 2017 على "أهمية تضافر جهود كل من مصر وتونس والجزائر لمواجهة التحديات الأمنية ومخاطر الإرهاب في ليبيا" مشيرا إلى "ضرورة التحسب لعودة أعداد كبيرة من إرهابيي داعش من سوريا والعراق إلى ليبيا والدول المجاورة لها، بعدما تعرض التنظيم لضربات موجعة".
جيوش قطاع خاص:
تمدد الجيوش الموازية في المنطقة: إذ لم تعد الجيوش الوطنية المحتكر الشرعي الوحيد للقوة العسكرية في دول الإقليم، إذ شهدت السنوات السبع الماضية تعاظم تأثير العناصر المسلحة غير النظامية لدرجة تطلق عليها الأدبيات "الجيوش الموازية"، والتي تتمثل في بقايا أو كتل رئيسية من الجيوش النظامية، والميلشيات المسلحة، والكتائب المناطقية، والجماعات الطائفية، والأجنحة العسكرية، والتشكيلات الشعبية، والفيالق الثورية والتنظيمات العشائرية، والمنظمات الإجرامية، فيما يشبه مجازا "جيوش قطاع خاص" بالشرق الأوسط.
وقد استطاعت تلك الجيوش الموازية السيطرة على مساحات جغرافية في مناطق ذات كثافة سكانية مرتفعة بدول مركزية، وتمتلك موارد اقتصادية وتستحوذ على قدرات تسليحية، وتدير علاقات خارجية مع دول وفاعلين عنيفين من غير الدول، إذ تستغل انهيار الدول، وفراغ السلطة، وضعف الحكومات، ورخاوة الحدود، وتصاعد تأثير اقتصادات الصراعات الداخلية في خلق نمط "حروب استنزاف صغيرة" في مواقع متعددة، على نحو يضمن بقاءها وتمددها، وهو ما يسهم في استمرار دوامة الفوضى وتعثر الاستقرار بالإقليم.
واللافت للنظر أن هذه الجيوش تتسلح بأسلحة خفيفة وثقيلة، مثل الصواريخ الجو جو والمضادات للدبابات، ولها قواعد للتدريب، وتجيد استراتيجيات دفاعية وهجومية في مسارح عمليات مختلفة، وتمزج بين الوسائل التقليدية والحديثة، بما يجعلها قوة مناوئة للجيوش النظامية، مثل جيش حفتر وقوات السراج في ليبيا والألوية التابعة لميلشيا الحوثي في اليمن والجيش الحر في سوريا وحزب الله في لبنان وقوات الحشد الشعبي والبشمركة في العراق والحرس الثوري في إيران وميلشيات جيش جنوب السودان بقيادة رياك مشار في مواجهة قوات سلفا كير وجماعة بوكو حرام في نيجيريا وحركة الشباب المجاهدين في الصومال. وأدت هذه الجيوش إلى خلق جبهات مفتوحة أصابت غالبية الأطراف بما يشبه "الغرغرينا".
تغلغل إقليمي:
التوجهات التوسعية لدى دول الإقليم المجاورة: حيث شهدت السنوات السبع الماضية تدخلات إيران في شئون بعض الدول العربية، وإيجاد امتدادات أو وكلاء داخلها، للسيطرة عليها، فضلا عن تدخلات تركيا في مناطق جغرافية أخرى بحيث لم تعد أجزاء بعض الدول العربية تحمل صفة "عربية"، كما تم الاعتياد على التعامل معها على مدى عقود، بل برزت ملامح لتحكمات قوى دولية وإقليمية تتجاوز السيادة الوطنية لهذه الدولة أو تلك، لدرجة أن المفكر العربي أ.جميل مطر عبر عن هذا المعنى في أحد مقالاته بصحيفة الشروق بأننا "نعيش على أرض لا خريطة لها". 
فالتقلبات الحادة في الإقليم سوف تستمر خلال تفاعلات عام 2018 بعد الحراك السريع داخل الدول ذاتها واختراقها من أجهزة ومؤسسات تابعة لقوى دولية ومرتبطة بالتدخلات الإقليمية في شئونها الداخلية بحيث صارت المنطقة العربية "هجينا" سواء في تكويناتها الديموجرافية أو جبهة دفاعها القتالية أو لغاتها اليومية المتداولة، بحيث يصير التساؤل "أين نعيش؟" واجبا في المرحلة المقبلة أكثر من أي وقت مضى بعد أن ترسخت ظاهرة "الدول غير العربية في المنطقة العربية".
جبهة مناوئة:
تشكل محور إقليمي مناهض لمصالح الدولة المصرية: وهو ما يتمثل في تركيا وقطر والسودان وإثيوبيا، على نحو ما انعكس مؤخرا في جولة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى كل من السودان وتشاد وتونس، خلال الفترة (24- 27 ديسمبر 2017)، والتي تجاوزت حدود البعد الاقتصادي إلى الإطار الأمني الاستراتيجي الذي يستهدف بشكل واضح مصر والدول الحليفة لها وتحديدا الإمارات، مع الأخذ في الاعتبار التوافقات التركية – القطرية - السودانية حول دعم الإخوان المسلمين وإحداث تحولات في هياكل التحالفات القائمة.
 ولعل ما يؤكد صحة هذا التحليل أن هذه الجولة توازى معها اجتماع رؤساء أركان جيوش تركيا (الجنرال خلوصي آكار) وقطر (غانم بن شاهين الغانم) والسودان (الفريق عمادالدين مصطفى عدوي) لاسيما في ظل موافقة الخرطوم على الطلب التركي تخصيص إدارة جزيرة "سواكن" بشكل مؤقت لتطويرها من جديد، في ظل احتمالات متزايدة بأن تكون موضعا لقاعدة عسكرية لأنقرة، الأمر الذي يشير بأن الأخيرة تحاول تطويق القاهرة من كل الدول المحيطة بها (السودان وليبيا وتشاد) وتعزيز نفوذها في منطقة البحر الأحمر.
الأمن المائي:
تهديدات المصالح المائية ناتجة عن استكمال بناء سد النهضة: إذ إن المسار الفني بين مصر وإثيوبيا يبدو أن مصيره الفشل لاسيما في ظل التعنت الإثيوبي وعدم الأخذ في الاعتبار ملاحظات الجانب المصري والتعرض لضغوط من قوى إقليمية مناهضة لمصالح الدولة المصرية، أو ما يطلق عليه الدكتور محمد عبدالسلام "ذئاب الإقليم". ولعل زيارة الوزير سامح شكري لإثيوبيا مؤخرا ومطالبته بإدخال البنك الدولي في مسار المفاوضات المقبلة ما يشير إلى صحة هذا التحليل.
المصالح الناقصة:
القلق المستمر إزاء احتمالات تحول توجهات الحلفاء: ولعل ذلك يعد واحدة من النيران الصديقة، التي ينبغي على صانع القرار في مصر أن يتعايش معها في لحظة ما في إطار "النوايا غير المعلنة"، التي لا يمكن التوصل لخيار بشأنها، وهو ما يتم بالفعل. فقد تحدث محاولات، وفقا لأسوأ سيناريو ممكن لتسوية الأزمة القطرية، دون الأخذ في الاعتبار المصالح والرؤى المصرية، وهو ما تسعى إليه الدوحة عبر تفكيك دول التحالف الرباعي منذ بدء الأزمة في 5 يونيو 2017.
الغضب الفلسطيني:
تدهور الأوضاع على الساحة الفلسطينية: فعلى الرغم من الجهود التي بذلتها القاهرة خلال عام 2017 لإنجاح المصالحة الفلسطينية الداخلية، وتحديدا بين حركتي فتح وحماس، وإعادة القضية الفلسطينية إلى الساحة بعد أن تراجعت في محور اهتمام القوى الإقليمية خلال السنوات السبع الماضية، فإن قرار الرئيس ترامب بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس قد يتمخض عنه توترات داخلية وفوضى إقليمية، وهو ما سبق أن حذرت منه القاهرة وبدأت مؤشراته في "جمعات الغضب".
 
ثانيا- السياسات المصرية لمواجهة التفاعلات الإقليمية:
إن تحليل التحديات السابقة يشير إلى أن القيادة السياسية في مصر تتعامل مع تعقيدات حادة، وحسابات مركبة، وجوار قلق، ووقت محدود، ومؤامرات لا أول لها من أخر. ويظل السؤال الذي يطرح طوال الوقت: ماذا نفعل؟ What should be done، ومحاولة تحويل القيود إلى مكاسب، وعدم السماح بسقوط المنطقة العربية في أيدي التيارات المتطرفة أو القوى الإقليمية غير العربية.
وقد عبر عن هذا المعنى جليا الرئيس عبدالفتاح السيسي في مداخلته فى أثناء الاحتفال بتدشين عدد من المشروعات التنموية في منطقة قناة السويس فى 23 ديسمبر الماضي حينما طمأن الشعب المصري بألا يقلقوا من أي تهديد خارجي قائلا "نحن نسير بخطى جيدة جدا بفضل الله ولن نبيع الوهم وسنكون مخلصين وصادقين معكم، واتفقت معكم على أننا سنقدم ما تم تنفيذه وما سيستكمل حتى 30 يونيو المقبل وما بعدها والقوات المسلحة ستتعامل بمنتهى العنف لوضع حد للإرهاب".
وفي هذا السياق، يمكن اقتراح بعض السياسات التي تتخذها مؤسسات الدولة المصرية لدرء التهديدات الموجهة لها، في إطار تحركات متوازية لا متتالية، على النحو الآتي:
1- دعم قدرة الدول المتصدعة على استعادة قوتها، على نحو ما تقوم به مصر في إعادة بناء الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، ووجود قنوات اتصال مع نظام الأسد فيما يخص منع تشكل بؤر إرهابية على الساحة السورية.
2- بلورة مساحة للحوار مع الفاعلين "العنيفين" من غير الدول، دون أن يقود بالمقابل إلى الاعتراف بنفوذهم "المنفرد" كالحوثيين في اليمن وحزب الله في لبنان لأنهم أطراف لا يمكن تجاهل تأثيراتهم في التفاعلات الداخلية والإقليمية.
3- دفع الحلول العربية الإقليمية للمشكلات الإقليمية، وهو ما يتطلب تكثيف التعاون مع القوى الحليفة مثل الإمارات والسعودية، وإعادة رسم السياسات بين الدول الثلاث تجاه الأزمتين الليبية والسورية بما يعزز نقاط التوافق وتنحية قضايا الخلاف جانبا، خاصة احترام وحدة الأراضي ونزع سلاح الميلشيات، وتعزيز الحل السياسي، وإعادة البناء.
4- توسيع أطر الشراكة الدولية في مواجهة التنظيمات الإرهابية، بما يؤدي إلى تقليص مخاطر تلك التنظيمات الإرهابية من ناحية، ويسهم في الحد من تعقيدات الصراعات الإقليمية من ناحية أخرى، ويؤدي إلى منع تجدد تحرك السياسة القطرية من ناحية ثالثة وأخيرة. 
5- تعزيز الانفتاح على العراق، لاسيما في ظل رغبة بعض القوى السياسية التواصل مع مصر فيما يخص بعدي عمليات إعادة الإعمار ومحاربة الإرهاب بعد داعش، وهو ما يأتي في سياق عربي للانفتاح على بغداد.
6- التفكير في حلول بديلة لفشل المسار الفني للمحادثات بين الجانبين المصري والإثيوبي، سواء على الصعيد السياسي أو الاستخباراتي أو حتى العسكري، لأن المياه قضية أمن قومي.
 

رابط دائم: