نتائج المعركة الأخلاقية في سيناء
27-12-2017

أحمد بديوي
* كاتب وصحفي مصري
عند تفتيش مقر إحدى المنظمات الحقوقية، في قضية "التمويل الأجنبي" الشهيرة (ديسمبر عام 2011) عثرت جهات التحقيق على خريطة مثيرة للجدل، بدا من خلالها تقسيم المحافظات المصرية إلى 4 مناطق (القاهرة الكبرى.. الدلتا.. القنال وسيناء.. صعيد مصر).. تصدرت تلك الخريطة شديدة الخطورة مجموعة الأحراز المتنوعة (وثائق تتعلق بأنشطة مالية وإدارية وخطط عمل، تم ضبطها في جمعيات ومؤسسات ومراكز حقوقية متهمة) في القضية.
تم عرض الأحراز المذكورة على لجنة مختصة لفحصها، قبل توجيه الاتهام لـ 43 شخصية، مصرية، وغير مصرية على هامش القضية .. فقد كانت خطوة ضرورية، ليس فقط لدور تلك المؤسسات (ذات الشعارات، التى تتناقض مع أهداف مموليها) في المشهد العام، لكن للخطورة التى تمثلها بعض الأحراز على الأمن القومي، خاصة خريطة تقسيم مصر، وتوافقها مع مخطط تفتيتي لدول المنطقة.
ليس سرًا، أن هناك مخطط معلن، يجرى الترويج له منذ عقود هدفه تفتيت مصر إلى 4 دويلات (سيناء وشرق الدلتا، تهيمن عليهما إسرائيل لاحقًا.. دولة نوبية، تشمل جنوب مصر وشمال السودان.. دولة قبطية، عاصمتها الإسكندرية، تمتد من جنوب أسيوط مرورًا بجنوب بني سويف، والفيوم، والصحراء الغربية.. دولة مسلمة، عاصمتها القاهرة، تشمل الجزء المتبقي)!!
المشروع المشبوه، يعتمد في واقع الأمر على ما طرحه المُستشرق الأمريكي، برنارد لويس، قبل عقود.. المفكر البريطاني الأصل، يهودي الديانة، يرى أن "العرب قوم فاسدون.. يجب احتلالهم، وتقسيمهم وفق أسس جديدة".. وقد عمل "المحافظون الجدد" (منذ هيمنتهم على الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001) على تنفيذ مشروعه بكل قوة.
 
مشروع "برنارد لويس" يدعم تقسيم دول المنطقة إلى "وحدات عشائرية وطائفية، دون مُراعاة لأي خواطر أو انفعالات أو ردود فعل".. المؤكد، أن مصر (التى تحتل وضعًا خاصًا في أجندته) تجاوزت بقوة مؤسساتها الوطنية "المرحلة الأولى"، مما كان يحاك لها في هذا الشأن (وصول جماعات الإسلام السياسي للحكم، ثم دخولهم في اقتتال طائفي مع الأقباط، يكون مبررًا لتدخل دولي بزعم تقرير المصير، ومنح الأقباط حكمًا ذاتيًا)!
هذه مقدمة ضرورية، توضح أبعاد "الجزء الثاني" من مشروع "برنارد لويس" (اقتطاع سيناء من جسد مصر) وفق سيناريو محدد، تدعمه قوى إقليمية ودولية، بهدف زيادة حالة الاحتقان بين أهالي سيناء والحكومة (عبر أنشطة إجرامية، وإرهابية، تغذيها عناصر محلية ضالعة في المؤامرة) على أمل أن تبادر الحكومة برد فعل عنيف ضد أهالي سيناء، يفتح جبهة صراع، ويصل بالعلاقة بين الطرفين إلى مرحلة اللاعودة.
السيناريو التآمري راح يحدد الخطوات اللاحقة (وفق تصور واضعيه): عصف حكومي بأهالي سيناء، ردًا على نشاط بعض البؤر الإجرامية والإرهابية، بالتزامن مع تسويق شعارات انفصالية (من خلال خطاب سياسي وإعلامي، تبادر به مؤسسات حقوقية ممولة)، ثم ربط سيناء بقطاع غزة (قبليا، وتجاريا) قبل تحويل القطاع (وفق المخطط نفسه) إلى معقل للإرهاب، بما يسمح لإسرائيل بإخضاعه وضمه للأراضي المحتلة بالقوة العسكرية.
هذه المحاولات التآمرية، تراقبها مؤسسات الدولة المصرية (عن كثب).. تتعامل معها بسعة أفق.. بنظرة استراتيجية، مبنية على "تقدير موقف" شامل.. فى المقابل، تتعدد أساليب وتكتيكات الجهات الراعية للإرهاب لدفع الدولة لمرحلة الاحتقان التى يحلمون بها.. آخر هذه المحاولات، استهداف مطار العريش، بالتزامن مع زيارة ميدانية للفريق أول صدقي صبحي (القائد العام للقوات المسلحة، وزير الدفاع والإنتاج الحربي) واللواء مجدى عبد الغفار، وزير الداخلية.
عملية مطار العريش، والتخديم (الإعلامي والسياسي) عليها من أذرع مخابراتية (إقليمية ودولية) استهدفت بالأساس تغذية حالة الاحتقان بين الحكومة وأهالي سيناء، من أجل الدفع بمصر لمربع الأزمة.. هو خطأ جديد تقع فيها الجهات المتآمرة، لأن عملية التأهيل "غير النمطية" للقيادات والعناصر المكلفة بضبط الأوضاع في سيناء (قوات إنفاذ القانون) أحد محاورها الرئيسية يركز على كيفية "إدارة الأزمات"، ومواجهة "الإدارة بالأزمات".
مصر (المؤسسات) لا تدير مشكلاتها برؤى غاضبة.. لو أنها كانت كذلك لبادرت بتسوية قطاع غزة بالأرض، وردت الصاع صاعين لعواصم إقليمية ضالعة (بالوثائق) في سلسلة عمليات إرهابية ضد منشآت عامة وخاصة، واستهدف عناصر مدنية وأمنية وعسكرية.. رد الفعل الغاضب (الذى تراهن عليه الأطراف المتآمرة) يليق بشخص عادى، لكنه لا يتحكم أبدا في قرار مؤسسات راسخة ومنضبطة لدولة، حضارتها من عمر الزمن.
يتبدى هذا الأداء المنضبط في سلوك وتصرفات المؤسسات المشاركة في مكافحة الإرهاب.. لا مكان لـ"رد غاضب".. الغضب (وفق مفهومه التقليدي): "فعل عاطفي شعوري يتسبب في فقدان القدرة على مراقبة وضبط النفس، والملاحظة الموضوعية".. هو سلوك يتنافى مع إدارة الدولة المصرية للأحداث الجسام التى مرت بها البلاد خلال السنوات الأخيرة.. إنه سر صمودنا في وجه المؤامرة، والنجاح المؤزر فى قطع معظم أذرعها.
من يراقب (عن كثب) طبيعة المواجهة الحكومية للعناصر المتشدد والإرهابية في بعض البؤر بسيناء، سيدرك كيف أغلقت مصر باب الفتنة (عبر إجهاض محاولات الوقيعة بين مؤسسات الدولة، وأهالي سيناء).. سيعرف أيضًا لماذا تستمر العملية العسكرية الأمنية (التى تخوضها قوات إنفاذ القانون) كل هذه المدة، لأن العائق الوحيد في عملية الحسم هو "عائق أخلاقي" بالأساس.
سألت قائدا عسكريا رفيع المستوى (قيمة، وقامة) عن الأوضاع الميدانية (حاضرها، ومستقبلها).. فقال (بكل هدوء وثقة): "وفقًا لما هو محدد لنا من القيادة العامة للقوات المسلحة كـ"مدة قتال من العريش حتى نقطة الحدود الدولية"، فإنه يجب إنهاء هذه المهمة الميدانية في ثماني ساعات فقط؛ لكن عملية التنفيذ تفرض علينا إبادة كل ما يعترض طريقنا من شجر وبشر ومنشآت.. نحن لا نفعل ذلك.. بدو سيناء أهلنا.. هناك محاذير أخلاقية.. لا يمكن أبدا أن نتخلى عن عقيدتنا القتالية...".
 
هذه الروح الوطنية- الأخلاقية، تترجمها عناصر الجيشين الثاني والثالث الميدانيين، والشرطة المدنية، والأجهزة السيادية (المخابرات العامة.. المخابرات الحربية.. الأمن الوطني والجنائي...).. قد تنفذ العناصر المتشددة عملياتها الإرهابية، ثم تهرب إلى داخل الكتل السكنية بسيناء؛ لكن تظل التعليمات واضحة: "في حال التفتيش والمداهمات، حافظوا على العادات والتقاليد.. ضبط الأمن، وحماية الأهالي، لا يكون على حساب خدش علاقة مقدسة تمثل سدًا منيعًا في مواجهة أي مخططات تآمرية". 
دون أدنى شك، نجحت المجابهة الميدانية، المدعومة بسلوك أخلاقي منضبط، في تحقيق انتصارات مؤزرة على الأرض.. أولا، قطعت الطريق على المؤامرة التى كانت تستهدف تخريب العلاقة الراسخة بين الحكومة وأهالي سيناء.. ثانيًا، تضافرت الجهود الأمنية العسكرية والشعبية، وهو أمر انعكس بوضوح على تراجع معدلات الهجمات الإرهابية عما كانت عليه في البداية.. ثالثًا، دخلت قوات إنفاذ القانون لمناطق كانت خارج السيطرة، كون عملية تطهيرها كانت تحتاج إلى قرار سياسي، يمهد لتحرك عسكري- أمني، وهو ما تحقق بعد 30 يونيو 2013.
المبدأ الأخلاقي الذى تتبناه قوات إنفاذ القانون في سيناء نجح في تعزيز العلاقة القوية بينها وبين قبائل وعواقل سيناء.. جدد التأكيد على وحدة الصف والمصير في مواجهة الإرهاب.. جعل أهالي سيناء يتفهمون طبيعة المهمة العسكرية- الأمنية ضد العناصر التكفيرية والإرهابية.. نجحت هذه الروح في مد جسور الثقة.. في تنفيذ خطة عمل وطنية لبسط مظلة التنمية حتى تصل للمناطق المحرومة.. يحدث هذا بينما مخطط "برنارد لويس"، ومن خلفه جماعات المصالح الدولية، وقوى وظيفية إقليمية، يجرون أذيال الفشل والخيبة...!
 

رابط دائم: