قراءة في استراتيجية الأمن القومي للرئيس "ترامب"
27-12-2017

عمرو عبد العاطي
* باحث ومحرر في مجلة السياسية الدولية متخصص في الشئون الأمريكية
بعد أحد عشر شهرا من توليه المنصب رسميا في العشرين من يناير ٢٠١٧ أعلن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" عن استراتيجية الأمن القومي لإدارته التي يطلبها الكونجرس من كل إدارة جديدة منذ عام ١٩٨٦، والتي تخلص الدور الأمريكي عالميا، والسياسات التي تحافظ على هذا الدور، على عكس الرئيسين السابقين (جورج دبليو بوش، وباراك أوباما) اللذين أعلنا عن أول استراتيجية لهما بعد واحد وعشرين، وسبعة عشر شهرا على الترتيب.
تركز استراتيجية الأمن القومي للرئيس "ترامب" على أربعة محاور رئيسية. يتمثل أولها في حماية الأراضي والشعب وطريقة الحياة الأمريكية من خلال محاربة "التطرف"، ومنعه من الانتشار داخل الأراضي الأمريكية، ومعالجة قضايا الهجرة التي تسمح للأشخاص "غير المرغوب فيهم" بالدخول إلى الولايات المتحدة. أما ثانيها فيتعلق بتعزيز الرخاء الأمريكي. في حين يركز ثالثها على تعزيز السلام من خلال القوة، وحماية حدود الدولة، وإصلاح الضعف في المنظومة العسكرية الأمريكية، وبناء نظام دفاع صاروخي قوي لحماية الولايات المتحدة. وآخرها يهدف إلى تعزيز النفوذ الأمريكي في نظام دولي قائم على المنافسة عبر تشجيع القطاع الخاص والاستثمار.
 
استراتيجية مختلفة: 
تختلف استراتيجية الأمن القومي للرئيس "دونالد ترامب" اختلافا جوهريا عن استراتيجيات الرؤساء السابقين للنزعة القومية، والسياسات الحمائية التي يُروج لها منذ حملته الانتخابية في عام ٢٠١٦ تحت شعار "أمريكا أولا". وتتمثل أهم الاختلافات بين استراتيجية "ترامب" واستراتيجيتي الرئيسين السابقين "جورج دبليو بوش"، و"باراك أوباما" في الآتي: 
أولا- لا ترى استراتيجية "ترامب" للأمن القومي أن قضية تغير المناخ تمثل تهديداً للأمن القومي الأمريكي، على خلاف استراتيجية الرئيس "أوباما" لعام ٢٠١٥ التي نظرت إليها على أنها في مقدمة التهديدات الاستراتيجية للولايات المتحدة. ففي مقابل الحديث عن ضرورة قيادة الإدارة الأمريكية لجهود مكافحة الاحتباس الحراري، قالت استراتيجية "ترامب" إن القيادة الأمريكية لا غني عنها لمواجهة أجندة أعمال الطاقة المناهضة للنمو، والتي تضر بالمصالح الاقتصادية وأمن الطاقة للولايات المتحدة، وهو ما يتوافق مع انسحاب الولايات المتحدة تحت حكمه من اتفاقية باريس للمناخ.
ثانيا- لم تتعهد الاستراتيجية بتوسيع التجارة الحرة مثل استراتيجيتي الرئيسين السابقين، حيث تعهد "بوش" الابن في استراتيجيته لعام ٢٠٠٦ بتدشين عصر جديد لازدهار الاقتصاد العالمي من خلال حرية السوق والتجارة الحرة. كما تعهد "أوباما" في استراتيجيته لعام ٢٠١٥ بتعزيز مستوى عال من الاتفاقيات التجارية.  لكن "ترامب" في استراتيجية رأى أن الاتفاقيات التجارية يستخدمها المنافسون، وفي مقدمتهم الصين، لاستغلال الولايات المتحدة، في حين رأت استراتيجيتا الإدارتين السابقتين أنها تخدم المصلحة القومية الأمريكية. ويأتي موفق "ترامب" من الاتفاقيات التجارية تماشيا مع سعيه للانسحاب منها مثل اتفاق الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ.
ثالثا- لم تتضمن الاستراتيجية أي التزام أمريكي بتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان عالميا، على عكس استراتيجيتي الأمن القومي للرئيسين السابقين، واللتين رأتا أن الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان يخدم المصحة القومية الأمريكية، لكن الرئيس "ترامب" تحدث عن تعزيز الولايات المتحدة تلك القيم والمبادئ من خلال الالتزام الأمريكي بها؛ لتكون مصدرا لإلهام الدول الأخرى، وأن الولايات المتحدة لن تفرض قيمها على الآخرين.
رابعا- تراجع أهمية التحالفات الدولية في الاستراتيجية مع التركيز على السيادة الأمريكية ضد التهديدات المحتملة، في حين ركزت الإدارتان السابقتان في استراتيجيتيهما على أهمية التحالفات الدولية لمواجهة التحديات الدولية في ظل دور أمريكي نشط دوليا للحفاظ على أمن واستقرار النظام الدولي.
 
تناقضات مع خطاب ترامب: 
ثمة تناقض واضح وجلي بين ما تضمنته استراتيجية الأمن القومي من خطوط عريضة للسياسة الخارجية الأمريكية، وتهديدات الأمن القومي للولايات المتحدة، وخطب وتصريحات الرئيس "ترامب" منذ انتخابه رئيسا في الثامن من نوفمبر ٢٠١٦، وما يعتقد فيه، ويؤمن به. ومن أهم مظاهر هذا التناقض ما يلي: 
أولا- وصفت الاستراتيجية روسيا والصين بأنهما قوتان منافستان للولايات المتحدة، وترغبان في تشكيل نظام دولي يتعارض مع المصالح والقيم والثروة الأمريكية، وأن بكين تسعي لإزاحة واشنطن من آسيا، وتنشر ملامح نظامها الاستبدادي وتعمل على توسيع نفوذها على حساب سيادة الآخرين. وعن موسكو، أشارت إلى سعيها لاستعادة موقعها كقوة عظمي. لكن هذا يتعارض مع تقارب وثناء "ترامب" على رئيسى الدولتين، وتأكيداته رغبته في إقامة شراكات كبري مع هاتين القوتين. 
ففي تقديمه للاستراتيجية، تحدث "ترامب" عن المكالمة الودية مع الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" بعد إحباط موسكو هجوما إرهابيا على كاتدرائية في سان بطرسبورج على خلفية معلومات من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية قدمتها إلى السلطات الروسية. ولم يتحدث الرئيس عن مسألة تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، رغم التحقيقات حول العلاقة بين فريق حملته الانتخابية وموسكو، وأن هناك تواطؤا محتملا بين مقربين من "ترامب" و"بوتين" خلال الانتخابات التي أجريت في الثامن من نوفمبر 2016.
ثانيا- تضمنت الاستراتيجية ثناء على التنظيمات الدولية التي أسستها الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية، حيث أشارت إلى أن السياسيين ورجال الأعمال والعسكريين الأمريكيين يعملون مع شركائهم في أوروبا وآسيا لتشكيل النظام الدولي بعد الحرب من خلال الأمم المتحدة، وخطة مارشال، وحلف شمال الأطلنطي (الناتو)، ومنظمات أخري صممت لتعزيز المساهمة الأمريكية في أمن وحرية وسلام النظام الدولي. لكن ترامب في تصريحاته يقلل من أهمية تلك التنظيمات الدولية. 
ففي خطاب ألقاه في الثامن من ديسمبر الجاري، جدد "ترامب" شكواه من أن أعضاء حلف الناتو لا يدفعون حصتهم العادلة مقابل الالتزام الأمريكي بالدفاع المشترك الذي تنص عليه المادة الخامسة من ميثاق الحلف. وتساءل في الخطاب عما إذا كان يتعين على واشنطن الدفاع عن الحلفاء الأوروبيين الأعضاء بالحلف، حال الدخول في حرب مع روسيا، أم لا، مشيرا إلى أن الحلف في مصلحتهم أكثر من الولايات المتحدة، قائلا: في حال لم يدفع أي من الحلفاء حصته، ثم دخل في حرب مع روسيا، مثلًا، فإننا سنجد الولايات المتحدة، في نهاية المطاف، تشارك في الحرب العالمية الثالثة من أجل حليف لم يدفع حصته للحفاظ على سلامته وأمنه.
ثالثا- عند مناقشة التهديد الذي يشكله المتطرفون على الأمن القومي الأمريكي، امتنعت الاستراتيجية عن استخدام مصطلح "الإرهاب الراديكالي" واستخدمت بدلاً منه مصطلح "الإرهاب الجهادي"، على الرغم من أن الرئيس ترامب انتقد خلال حملته الانتخابية الرئيس السابق "باراك أوباما" ووزيرة الخارجية ومرشحة الحزب الديمقراطي "هيلاري كلينتون" لاستخدام المصطلح الثاني في وصف العلميات الإرهابية التي تنفذها التنظيمات المتطرفة.  
رابعا- تحدثت الاستراتيجية عن أن الدبلوماسية الأمريكية لا غنى عنها في حل الصراعات في مناطق النزاع غير المستقرة، وأكدت على ضرورة تعزيز أدواتها لمواجهة التحديات الدولية، لكن الرئيس في المقابل خطط لتخفيض ميزانية وزارة الخارجية، وقلل من الجهود الدبلوماسية التي يبذلها وزير خارجيته "ريكس تيلرسون" لحل الأزمة الكورية الشمالية. 
خامسا- تضمنت الاستراتيجية أن الدين القومي يصل حاليا إلى ٢٠ تريليون دولار، وأن ذلك يمثل تهديدات للازدهار الأمريكي على المدي الطويل، ومن ثم للأمن القومي الأمريكي. لكن الرئيس احتفى وأعضاء حزبه (الجمهوري) بإقرار الكونجرس قانونا للإصلاح الضريبي، بعد أحد عشر شهرا من إخفاقات وانتكاسات، سيضيف تريليون دولار إلى الدين الأمريكي في العقد المقبل.
 
خلاصة القول: تُظهر استراتيجية الأمن القومي أوجه الصراع داخل الإدارة الأمريكية بين الرئيس "دونالد ترامب" الذي يرفع شعار "أمريكا أولا"، والذي لا يؤمن بأهمية الحلفاء التقليديين، والمؤسسات الدولية التي أسستها الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية للحفاظ على سيطرتها على النظام الدولي، ومستشاريه ومسئولي الإدارة المحافظين على أسس السياسة الخارجية الأمريكية التقليدية منذ عقود. 
ولهذا، فإن تلك الاستراتيجية لن تكون الإطار الحاكم للسياسة الخارجية الأمريكية خلال السنوات الثلاث من عمر الإدارة الأمريكية، لأنه في أغلب الأحايين يتخذ الرئيس "ترامب" قرارات وسياسات على عكس رغبة مستشاريه، ومسئولي الإدارة، مع صعوبة سيطرة مؤسسات صنع القرار عليه، فكثيرا ما يتفاجأ المسئولون الأمريكيون بقرارات الرئيس من خلال تدويناته على موقع "تويتر"، مثل باقي مسئولي العالم من حلفاء وخصوم واشنطن.
 

رابط دائم: