تزييف الوعي.. ملف مسكوت عنه
14-12-2017

أحمد بديوي
* كاتب وصحفي مصري
في كل حدث جلل تشهده الساحة العربية، تتجه الأنظار (كما الاتهامات) للأنظمة الحاكمة.. يغيب دور الشعوب ودورها (الشريك والتضامني) في المسئولية والاتهامات.. هي حالة مستمرة، لكنها أصبحت أكثر وضوحًا خلال المرحلة الجديدة من مخطط إضعاف المنطقة، تمهيدًا لابتلاعها (جرأة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، واعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل نموذجًا).. تبدو الحالة المذكورة مدعومة بعوامل عدة، تستحق الوقوف أمامها (تفنيدًا وتوضيحًا)، ربما لتحديد المسئوليات، وتصويب البوصلة، بالشكل الذى يعيد الالتحام بين الأنظمة والشعوب على قواسم مشتركة، تحافظ على الأوطان والمقدرات.
أتذكر أنه قبل شهور من موجة الاحتجاجات التى ضربت عواصم عربية (عام 2011)، انطلاقًا من تونس، ثم مصر، وليبيا، وسوريا، واليمن، لم تلتفت شعوب المنطقة لمضمون "رسالة مفتوحة"، وقعها عشرات الشخصيات ممن يصفون أنفسهم بـ"الديمقراطيين العرب"، يستغيثون فيها بالرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، ويطالبون إدارته بالتدخل المباشر لتعميم "النموذج الديمقراطي الأمريكي" في عموم المنطقة.. لم تكن مجرد رسالة عادية، أو أنها تستهدف مصلحة المنطقة وشعوبها، لكنها كانت مبررًا لتنفيذ "عملية هدم" جديدة، بغضّ النظر عن الشعارات الجوفاء المرفوعة!!
مقدمو الرسالة ليسوا شخصيات هامشية، بل تتصدرهم قيادات سياسية شهيرة، أصبح لها دور واضح في المشهد العام بعد التاريخ المذكور.. من تونس مثلًا (التى بدأت منها الاحتجاجات، قبل أن تتمدد شرقًا وغربًا) المنصف المرزوقي (صار لاحقًا رئيسًا للجمهورية، ومنظِّرًا لشعارات الديمقراطية المحمولة جوًا)، ولطفي زيتون (أصبح المستشار السياسي للحكومة، قبل أن تقول المقادير كلمتها).. عَّبر الموقعون على الرسالة الموجهة لـ"أوباما" عن إيمانهم العميق بـ"قوة الديمقراطية الأمريكية"، واعتبروها "الخيار الأهم لمنطقة الشرق الأوسط"!
إنها واحدة من المحطات الكثيرة الكاشفة (قبل، وبعد يناير 2011) لكنها أبدًا، لم تشغل الشعوب العربية، أو تدفعها للبحث في دلالات ما يحدث حولها، وأبعادها الكارثية، رغم أنها كانت فرصة للتخلي عن حالة الوعى الزائف التى راحت تأخذ طريقها لقطاعات جماهيرية، انبهرت بأدوات وظيفية (محلية.. إقليمية) تتاجر بـ"حقوق الإنسان"، وتختصرها في هامش ضيق جدًا، لا علاقة له بالحقوق الأساسية (الصحة، والتعليم، والسكن، والرفاه الاجتماعي)، أو حتى حقوق الشعوب في حماية مواردها الطبيعية، من قوى دولية تتآمر لاختطاف هذه الموارد.
لم تبادر الجموع الشعبية المنقادة بالمقارنة بين ملف "الحريات العامة" و"شعارات زائفة" يجري ترويجها على نطاق واسع، تتناقض صراحة مع ممارسات أصحابها، بدليل انتهاكاتهم الواضحة للقانون الدولي الإنساني على امتداد الإقليم، وعلى أطرافه (قصف المدنيين في أفغانستان.. معتقلات أبو غريب.. سجن القاعدة الأمريكية بمطار بغداد.. معتقل قاعدة باجرام الجوية في أفغانستان.. السجون السرية الطائرة بين أوروبا والشرق الأوسط...".
تفريط جموع شعبية في نعمة الوعي والإدراك السليم تبدَّى أيضًا في السير خلف رسائل سياسية إعلامية،  تنتجها "آلة الكذب" المناهضة لأي اصطفاف عربي.. لن أتوقف كثيرًا عند دور النظام القطري الذى خصص (بأوامر مباشرة) مليارات الدولارات طوال أكثر من 20 عامًا لتفكيك وتفتيت الرأي العام العربي، عبر خطاب متناقض (بين الواقع والتنظير) مع طبيعة النظام القطري نفسه على الصعيد الديمقراطي (لا انتخابات.. لا تعددية حزبية.. لا برلمان.. لا محاسبة لمسئول رسمي، أو السماح لأي صوت سياسي يعارض حدثًا في الداخل القطري).
"البراءة السياسية" التى تعاملت بها جموع شعبية مع شبكة علاقات مثيرة للجدل بين عواصم غربية، وجماعات المصالح، وتنظيمات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، تعكس وجهًا آخر لأزمة "الوعي الشعبي العربي"، وكيف أن هذه النظرة كان لها دور في فتح باب الفتنة، الذى تسربت منه محاولات (متواصلة) لاختطاف نصف دول المنطقة العربية، والتآمر على نصفها الآخر.
لم تحظ العلاقات بين الغرب وهذه الجماعات باهتمام كافٍ من الرأي العام العربي، الذى استسلم لشعارات فضفاضة، حاولت التمويه على تنسيق شامل يتم بين مؤسسات أمنية وسياسية غربية، مع قيادات هذه الجماعات والتنظيمات.. لم يتوقف التنسيق عند المستوى القيادي، لكنّه انسحب لكوادر وعناصر، حتى إن الطلاب (من أبناء النافذين في هذه الجماعات العابرة للحدود) يحجزون مئات المقاعد الدراسية، سنويًا، في أرقى الجامعات والمعاهد الأوروبية الأمريكية، تمهيدًا للتخرج فيها، والالتحاق بفرص ميسرة هناك، قبل العودة لبلدانهم الأصلية بـ"مهام محددة".
تتعدد أشكال رد الجميل التى قدمتها جماعات المصالح في المنطقة العربية، التى ترتبط بمشروع "الشرق الأوسط الكبير" لأصحاب الفضل عليهم، عبر شروعهم المبكر في تبني خطط خبيثة لتزييف الوعي الشعبي، سواء في اختصار الإسلام في منهج جماعات وميليشيات، أو المشاركة في عرقلة عمليات التنمية، وصيانة الموارد التى تتبناها حكومات وطنية، مع التشكك المستمر في كل فعل وطني- قومي يستهدف تعزيز الاصطفاف.
التسويق والترسيخ لعمليات تغييب الوعي (متعددة الألوان، والأشكال، والأساليب) ظهرا في تبديد الجهود، وقطع الطريق على الشعوب الراغبة في نصرة القضايا الوطنية- العروبية، التى من شأنها تحديد مصير المنطقة (دولًا، وشعوبًا).. القرار الأمريكي حول القدس، دفع ثمن حالة الشرذمة الفلسطينية الداخلية، والاستسلام لعملية شق الصف الوطني، وتشويه منظمة التحرير الفلسطينية (الممثل الوحيد للشعب الشقيق في الداخل والشتات)، قبل أن يقول السلاح كلمته، عبر الانقلاب الذي نفذته حركة حماس في قطاع غزة (صيف 2007) بأموال قطرية- تركية، ودعم إيراني – إسرائيلي - غربي!
ظلّ الوعي الشعبي العربي (قبل تعرضه لهذه الهجمة الضارية، واستسلام قطاعات جماهيرية لها) حاضرًا بقوة حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي.. كان النبض الشعبي يسبق الحكومات بخطوة متقدمة- ثابتة، وأحيانًا يتلاقى الجميع عند مساحات مشتركة (ظهرت نتائج التماسك بين الشعوب والقرار الرسمي خلال فترة المد القومي العربي، وطرد قوى الاحتلال من المنطقة، والانتصار المؤزر على إسرائيل في حرب أكتوبر 1973)، حينها كان هناك فهم لطبيعة الصراعات الدولية، والأطراف الفاعلة، والتعاطي معها بما يحافظ على مصالح الأوطان.
أدرك المحتل (الجديد.. المتجدد) أن تنامي الوعي الشعبي سيعوق مصالحه، وأنه سيهددها من الأساس على المدى البعيد، لذا بادر على الفور باستهداف التماسك الشعبي (أولًا)، عبر محاولات لنشر الفتن (الطائفية.. العرقية) التى أطلت برأسها على استحياء خلال النصف الثاني من السبعينيات، و(ثانيًا) انخراط أدوات المؤامرة بقوة في مخطط شامل لتغييب الوعى، الذى ركز أولًا على تشويه القضايا القومية العروبية، والأهم، تسطيح فكرة الأمن القومي (العمود الفقري، والدليل القوى على تكاتف الشعوب مع الحكومات).
خلال فترة التحضير لما يسمي "الربيع العربي"، تعرضت فكرة الأمن القومي لهجمة شرسة.. مئات المنشورات والمطبوعات وجلسات النقاش الحوارية، فضلًا عن مؤتمرات ولقاءات سرية وعلنية (في عواصم أوروبية وعربية، تحت إشراف أجهزة مخابرات عالمية) راحت تؤهل عناصر قيادية لترسيخ المفاهيم المناهضة لـ"الأمن القومي" بين قطاعات شعبية، والزعم بأنّ "الأمن القومي مجرد شماعة تعلَّق عليها السلطة الحاكمة أخطاءها"، وأن "الأنظمة العربية جميعها-!!- لا تقوم على مشروع وطني قومي، بل على مشاريع سرقة احترافية يتزعمها لص فاسد"!!
لم يكن غريبًا أن تترجم العناصر المدربة ما تعلمته على يد مدربين أجانب، في خطابيها الإعلامي والسياسي، من عينة: "لا تبالغوا في الخوف من الأنظمة العربية.. أنتم تتعاملون مع نفسيات وعقليات مريضة، وليس عقليات زعماء.. لابد أن تسجلوا مواقفكم بكل شجاعة .. أنتم مقاومون، لا محتجون.. المقاومة تعني تحدي القوانين.. إلغاء القرارات.. العصيان والرفض.. تحركاتكم ستشل الدولة سياسيًا، واقتصاديًا، واجتماعيًا، وتعليميًا، وفي شتى المجالات والقطاعات..." وسموم أخرى، لتعميق أزمة الوعي الشعبي.
تمددت الأزمة، في ضوء انشغال قطاعات شعبية بملفات هامشية، تفرق أكثر مما تجمع، كنتيجة مباشرة للسير خلف قوى وجماعات مشبوهة الأجندات، والعلاقات، راحت تغذّى الوعي الزائف.. تفاقمت الأزمة مع أوضاع اقتصادية واجتماعية، خلفت ملايين الفقراء، وجرفت معظم الطبقة الوسطي (صمام الأمان في المجتمعات بفعل دورها الحيوي متعدد الأوجه) إلى المربع الصعب نفسه.
الوعي الشعبي ليس مصطلحًا تنظيريًا، لكنّه مضمون شامل يبدأ بالإدراك الواضح لما يحدث في المشهد العام (محليًا، وإقليميًا، ودوليًا)، فضلًا عن مردوده المباشر والحيوى في دعم الاصطفاف الوطني القومي، القائم على حماية الُّلحمة الوطنية، وتعزيز العيش المشترك، والمسئولية الجماعية المدعومة بوضوح الرؤية، ويقظة الرأي العام، وسرعة محاصرته للفتن، ومجابهته لأدواتها ووسائلها.. كلها عوامل تعين الأوطان على مواجهة مشكلاتها حتى لا تتحول إلى أزمات، ومن ثم تتعدد الفرص والخيارات أمام صنّاع القرار (سياسيًا، واقتصاديًا، وتنمويًا) بما يعود بالنفع على المجتمع.
وحتى لا يكون هناك أي مجال لتصحيح المفاهيم، أو إعادة الاعتبار للوعي الشعبي، تعرض المجتمع المدني (صاحب الدور الحيوي في ضبط أداء المجتمع، وتوجيه الرأي العام نحو ممرات آمنة) لعملية اختراق متزامنة، لعب فيها "التمويل الأجنبي" دور البطولة.
 

رابط دائم: