ميثاق الشرف الصحفي
10-12-2017

د. إلهــام سيــف الدولــة حمــدان
* أستاذ العلوم اللغوية بأكاديمية الفنون وعضو اتحاد كتاب مصر
إن “الشَّرَف” هو الموضع العالي الذي يُشرف على كل ما حوله؛- بحسب ماورد بمعاجم لغتنا العربية العصماء-وهو المكانة العالية لكل صاحب مهنة من المهن الملتصقة بحياة البشر في كل مكانٍ وزمان يُشرف عليها ويَشرُف بها؛ وصاحبها يشرُف على الواقع ويطل عليه إطلالة العالِم الكاشف لبواطن الأمور وأعقدها؛ اعتمادًا واستنادًا إلى المصادر الموثقة بالمستندات والأدلة، ويكون الضمير الإنساني النقي الصادق؛ هو الحكم والفيصل فيما يعرض له من آراء خاصة بأحوال المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه ، ويجب أن يتوخى الأمانة والحذر من الإنزلاق في هوَّة “الأنا” والنرجسية؛ حتى إن كان يقف على الجانب الآخر من صفوف الأغلبية؛ لتكون المعارضة بكل النزاهة والشرف والحيدة المطلوبة، ويترك للواقع والممارسة العملية أن تحكم بالصواب أو الخطأ على آرائه المُعلنة أو المكتوبة على أعمدة الصحف أو الاجتماعات العامة، ويجب ان يعلم تمام العلم أن من حق الموطن الحصول على المعلومات والمعرفة، وأنه ينوب عنه في إمداده بالمعلومات من مصادرها الموثوق بها للصالح العام، مع الحرص على أن يوجد سقف فى حرية تداول المعلومات خاصة المعلومات الحربية؛ أو التي تمس جسد الأمن القومي للبلاد .
فما بالنا بشرف مهنة الكتابة ـ الصحافة على وجه الخصوص ـ التى تشكِّل وتؤثر وتصوغ “أدمغة” الرأي العام؛ وتصنع هذا المزيج الرائع من الحُب والانتماء للوطن وجذوره؛ بكل المصداقية والأمانة في نقل الواقع بحذافيره ومنمنماته المؤثرة على واقع الأحداث وتطوراتها إيجابًا وسلبًا؛ والإضاءة المهذبة على المشاكل واقتراح الحلول من وجهة نظر صاحب القلم الحر الشريف؛ دون افتئات على فئة لصالح فئة أخرى، وفي حال اتخاذ المواقف المعارضة للسياسة العامة لتوجهات الدولة؛ فتكون تلك المعارضة بنَّاءة وليست لمجرد المعارضة أو حبًا في الظهور وتصدر المشهد بالأباطيل والأكاذيب؛ بهدف تعكير آبار المعرفة بالحقائق التي ينهل منها المجتمع بأسره، وتلك هي الفئة الضالة التى لابد من كشفها للمجتمع أولاً بأول . فجوهر رسالة الصحافة هي تغذية الفكر بالتوعية؛ وهي لاتقل أهمية عن غذاء الجسم بالطعام وإمداده بالطاقة العقلية باحتوائها على مختلف الفنون والآداب والمعارف ؛متلاشية الإطالة والإسهاب الممل؛ أو اللجوء إلى الإيجاز المخل بالمضامين أو ليْ عصب الخبر المراد توصيله إلى المجتمع .
من هنا كان لزامًا أن يوضع ميثاق شرف لمهنة الصحافي الذي يطل كل صباح على المجتمع من نافذة صحيفته؛ تلك المطبوعة التي أبرمت عقدًا معنويًا وأدبيًا بينها وبين القاريء؛ لذا فإنها لابد أن تراعي عدم الإخلال بشروط العقد العامة؛ وتنقية ما تنطوي عليه مفاهيم المادة أو الوجبة المعلوماتية المقدمة للقاريء مع فنجان قهوته الصباحية، وتكوت خالية من أساليب تزوير الإرادة بالتوجيه المموَّه الذي يحيد عن التوجهات العامة والقناعات التي يعتنقها الإحساس الجمعي لمجتمع تلك الصحيفة؛ ولتحافظ على إدارة حوار تحدُّه أطُر الأسس الأخلاقية والمباديء الإنسانية؛ باحترام عقل القاريء وذكائه، وعدم التقليل من وعيه وإدراكه وقدراته؛ بلا سباب أو تجريح أو إلقاء اتهامات الخيانة والعمالة الجزافية بلا سندٍ او دليل؛ إنطلاقًا وارتكازًا على قاعدة الاحترام المتبادل في كل الآراء السياسية والاقتصادية والأدبية والمجتمعية؛ حتى إن اختلفت وتباينت تلك الآراء حول مسألةٍ ما هُنا أو هناك؛ فما أجمل وأصدق من بناء جسور الثقة والاحترام بين المؤسسات الصحفية والأجهزة الحكومية التنفيذية والتشريعية على حدٍ سواء؛ والمهم قبل كل شيء إقامة جسور الثقة المتينة بين قارئيها ومحبيها ومتابعي مادتها التي يتم تحريرها بقلم المصداقية النزيه؛ المغموس في عِطر روح الخوف على الوطن والمواطن . فالعالم كما يقولون أصبح قرية صغيرة بفضل وسائل الاتصالات الحديثة وتقنياتها العالية، وتعددت النوافذ التي نطل منها على العالم في لحظة وقوع الحدث صوتًا وصورة؛ فلا مجال للتدليس أو وضع السموم في معسول القول واللفظ وطريقة العرض المبهرة؛ فسرعان ماتتكشف الحقيقة الصادمة التي تفصل بوضوح بين الحقيقة والكذب؛ فتذهب بصاحب الأقوال المسمومة إلى متاهة النسيان ؛ وإدراجه في سجل الحاقدين والتافهين من ذوي العاهات العقلية؛ والعميان الذين ” لايرون من الغربال” بحسب المثل الشعبي المصري العبقري !!
ترى .. هل نعجز عن سن مواثيق الشرف للمهن التي تتعامل مع عقول البشر وتوجهاتهم الوطنية الشريفة ؟ ونحن المصريون نعد أول من قام بتطبيق التشريعات التي تحمي حقوق البشر والإنسانية؛ فكانت “شريعة حمورابي” التى نٌقشت على مسلته الشهيرة المعروفة باسم “مسلة حمورابي”؛ وظهرت خلال فترة الحضارة البابلية الموازية للحضارة المصرية الفرعونية؛ وهي من أقدم الشرائع المكتوبة في التاريخ البشري قاطبة؛ فهي تتكون من مجموعات القوانين والتشريعات والعقوبات التي يتم تطبيقها على كل من يخالف العُرف السائد في المجتمع .
إن قناعاتي بأن الالتزام الأدبي نحو الوطن والمواطن؛ لايحتاج الى القوانين الوضعية المكتوبة المذيلة بأحكام رادعة لكل من تسول له نفسه بالهجوم غير المبرر على مقدرات الوطن وتوجهاته؛ وتشكيل جبهات للمعارضة التي تكون في أغلبها معارضة مغرضة خاضعة لتوجيهات وأجندات أعداء الوطن .. إلا من رحم ربي !
فمصر اليوم تحتاج إلى أقلام الشرفاء الذين يدينون بالحب والولاء لتراب هذا البلد العظيم؛ لإزالة كل المعوقات والعراقيل التي تناثرت لتعوق التقدم على طريق المستقبل ؛ ولتأخذ مصر مكانتها الواجبة تحت الشمس .فأقلام الشرفاء ملء السمع والبصر فهم قدوة بسلوكهم الفردي من منطلق ضمائرهم لكن الالتزام الذي نصبو إليه يحتاج إلى ضوابط تضع جميع الأقلام داخل مضمار واحد من الموضوعية ومراعاة الشرف المهني المنزه عن الأهواء تجاه المواطنين الذين يستقون الأخبار من مصادر أخرى هروبًا من ازمة الثقة التى زرعتها أقلام مُغرضة ...أما آن الآوان؟!نحن في الانتظار!

رابط دائم: