مستقبل مفاوضات سد النهضة بعد التعثر
6-12-2017

د. عباس محمد شراقي
* رئيس قسم الموارد الطبيعية - جامعة القاهرة
تعرضت مفاوضات سد النهضة لمنعطفات كثيرة خلال السنوات السبع الأخيرة. فقد كانت البداية عند زيارة الدكتور عصام شرف لإثيوبيا فى مايو 2011، ومقابلته رئيس الوزراء الإثيوبى السابق "زيناوى"، واقتراح تشكيل لجنة دولية تقوم على مراجعة دراسات سد النهضة، وتعديل مواصفات السد، طبقاً لرأى اللجنة إذا لزم الأمر. وخلال تلك الفترة من المفاوضات حدثت حالة من الشد والجذب بين الأطراف الثلاثة بسبب التشدد والمراوغة من الطرف الإثيوبي. ويطرح تصريح وزير الري المصري، بعد اجتماع القاهرة في نوفمبر 2017 عن تعثر المفاوضات، عدة تساؤلات، من أهمها: ما هي التداعيات المحتملة لبناء السد؟ وما هو مستقبل الأزمة؟. 
 
- مراحل التفاوض:

 

المرحلة الأولى: حيث تم تشكيل لجنة خبراء دولية مكونة من 10 خبراء، اثنان من كل من كل من "مصر والسودان وإثيوبيا"، وأربعة من خارج حوض النيل. وتمثل الهدف العام من تكوين هذه اللجنة في بناء الثقة بين الدول الثلاث، ومراجعة وتقييم سد النهضة الإثيوبى من إيجابيات على الدول الثلاث، وتأثيراته السلبية فى دولتى المصب (مصر والسودان). وتمثلت أهم توصيات التقرير في: هندسة وأمان السد (66% من التوصيات)، والموارد المائية والهيدرولوجية، والبيئة والاقتصاد الاجتماعى.
وأظهر التقرير أن الدراسات الإثيوبية تعد أولية ولا تتناسب مع ضخامة مشروع سد النهضة، وأنه يجب الإسراع فى تحديث هذه الدراسات وتكملتها فى أسرع وقت ممكن، خاصة أن بناء السد مستمر.
المرحلة الثانية: بدأت بعد عدة أشهر من مفاوضات وزراء الخارجية والمياه فى الدول الثلاث، وعقدت عدة اجتماعات فى نوفمبر، وديسمبر 2013. وكان آخر انعقاد لها فى الخرطوم فى يناير 2014، حيث أعلن وزير الرى المصرى تعليق المفاوضات لأسباب، كان أهمها تمسك إثيوبيا بإنشاء لجنة وطنية، بدلاً من أن تكون دولية (تشمل خبراء من خارج دول حوض النيل) لتنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية. لقد استمرت فترة الصمت هذه لمدة ستة أشهر حتى التقى الرئيس عبد الفتاح السيسى برئيس الوزراء الإثيوبى "هيلاماريم ديسالين" على هامش قمة الاتحاد الأفريقى فى مالابو "غينيا الاستوائية" فى يونيو 2014، واتفق الطرفان على إصدار بيان صحفى مشترك مكون من سبعة مبادئ، منها الاستئناف الفورى لعمل اللجنة الثلاثية حول سد النهضة. 
المرحلة الثالثة: بدأت فى 26 أغسطس 2014 بالخرطوم، بلقاء وزراء المياه فى الدول الثلاث وإعلانهم عن الاتفاق على بيان مشترك مكون من أربعة بنود، تمثل خارطة طريق لسير المفاوضات فى المرحلة التالية لتنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية. ويتلخص البيان فى عمل دراستين إحداهما تختص بموارد المياه، ونموذج محاكاة نظام هيدروكهربائية، والأخرى تعنى بتقييم الأثر البيئي والاجتماعي والاقتصادي للسد على السودان ومصر عن طريق مكتب استشارى دولى، على أن  تختار لجنة وطنية مشتركة مكونة من أربعة خبراء من كل من دول "مصر والسودان وإثيوبيا"، وذلك خلال ستة أشهر تنتهى فى فبراير 2015. وقُبِل الجانب المصرى هذه البنود حتى يحافظ على استمرار المفاوضات، ولا يكرر التوقف الذى حدث سابقاً. 
 
- ما بعد إعلان المبادئ:
لقد استمر التعثر فى عقد اجتماعات اللجنة الوطنية إلى أن جاءت دفعة جديدة من القيادات السياسية عن طريق الاتفاق والتوقيع على وثيقة "مبادئ سد النهضة" فى 23 مارس 2015 بالخرطوم، والتى تعد وثيقة حسن نوايا مكونة من عشرة مبادئ، يعد من أهمها البند الخامس بالنسبة لمصر، وهو "التعاون في الملء الأول وإدارة السد"، الذى لم يوضح كيفية التعاون فى حالة التشغيل الجزئى للسد قبل انتهاء المكتب الاستشارى من دراسات تأثير سد النهضة، ولم يتم تحديد آلية التعاون المشترك فى تشغيل السد بعد افتتاحه.
 
مرحلة المكتب الاستشارى الدولى: حيث بدأت مرحلة البحث عن مكتب دولى لتنفيذ الدراستين، وأعتقد أن الجانب المصرى جانبه الصواب، حينما انساق خلف الإجراءات الروتينية فى عمل مناقصة تستهلك الوقت من أجل الحصول على أفضل عرض مالى، رشحت مصر المعهد الهولندي (دلتارس - Deltares)، بينما اختارت إثيوبيا المكتب الفرنسي (بي – آر – ال BRL-)، وأصرت عليه لما لها من علاقات قوية معه لأكثر من خمسة عشر عاما. واتفقا على حل الوسط، تمثل في أن يكون المكتب الفرنسى أساسياً والهولندى مساعداً، وامتدت مدة الدراسة لتصبح أحد عشر شهراً، بدلاً من 6 أشهر. وبعد شد وجذب لعدة أشهر لتحديد دور الشركتين، اتفق على خطة العمل المشتركة بنسبة 70% للمكتب الفرنسى، 30% للمكتب الهولندى بحد أقصى 12 أغسطس 2015. وأعلن المكتب الهولندى على موقعه الإلكترونى فى 9 سبتمبر 2015 انسحابه من دراسات سد النهضة، بسبب أن الشروط التى وضعتها اللجنة الوطنية الثلاثية من مصر والسودان وإثيوبيا بشأن الكيفية التي ينبغي أن تتم بها الدراسات لم تقدم ضمانا كافياً له كى يقدم دراسة دقيقة ذات جودة عالية ومستقلة. بعد ذلك رفضت مصر انفراد المكتب الفرنسى بعمل الدراسات وتوالت الشهور والاجتماعات إلى أن طلبت مصر عقد اجتماع سداسى على مستوى وزراء الخارجية والرى فى الدول الثلاث لمناقشة الشواغل المصرية، واتفقت اللجنة السداسية فى ديسمبر 2015 على إحلال المكتب الفرنسى أرتيليا، بدلا من الهولندى.
ونظرا لعدم تحديد تفاصيل الدراسات المطلوبة من قبل، وعدم وجود خبراء دوليين محايدين لحسم أى خلاف، أدى ذلك إلى عدم اتفاق أعضاء اللجنة مع المكتبين الفرنسيين على مبادئ الدراسات. ورغم موافقة مصر على  التقرير الاستهلالى فى نوفمبر 2017، فإن الطرفين السودانى والإثيوبى أعلنا رفضهما للتقرير، بدعوى أن مصر تصر على ذكر حصة مصر المائية السنوية (55,5 مليار متر مكعب) التى ترفضها إثيوبيا، وادعى السودان بأن مصر أضافت بنودا جديدة لم يكن متفقا عليها من قبل. 
 
- مرونة الجانب المصرى:

 

ورغم صعوبة المفاوضات فى جميع مراحلها، إلا أن الجانب المصرى أبدى مرونة فى مواقف كثيرة، فى الوقت الذى التزمت فيه إثيوبىا بالتشدد والمراوغة، وتمثلت أهم هذه المواقف فيما يأتى:
الموافقة فى 26 أغسطس 2014 فى الخرطوم على المطلب الإثيوبى بتشكيل لجنة وطنية.
الموافقة على دراسات سد النهضة التى لا تحتوى على دراسات السد الهندسية وأمانه، واقتصارها فقط على الدراسات الهيدرولوجية، والبيئية والاجتماعية-الاقتصادية.
الموافقة على استمرار مفاوضات سد النهضة، رغم استمرار بناء السد.
الموافقة على أن تحترم نتائج دراسات سد النهضة، بدلاً من أن تكون ملزمة للأطراف الثلاثة.
تحقيق المطلب الإثيوبى بعدم ذكر ارتفاع أو سعة سد النهضة فى أى مرحلة.
 
التغير في الموقف السوداني:
  في البداية، شجع السودان بناء سد النهضة بصورة غير معلنة، إلا أن الموقف غير المعلن لم يستمر طويلاً حتى أعلنت رسمياً تأييدها ودعمها لبناء السد لما له من فوائد عديدة، من وجهة نظر السودان، وهي:
حماية السودان من الفياضانات السنوية فى منطقة الروصيرص.
توفير جريان المياه فى النيل الأزرق طوال العام، وبالتالى زراعة موسمين، بدلاً من موسم واحد.
زيادة تغذية خزان المياه الجوفية فى أرض الجزيرة.
مضاعفة توليد الطاقة الكهربائية من السدود السودانية.
حماية خزانات السدود السودانية (الروصيرص، وسنار، ومروى) من ترسيبات الطمى.
وعد إثيوبيا بإمداد السودان بطاقة كهربائية بربع تكلفة إنتاجها من سد مروى. 
رغم هذه المنافع الظاهرية فإنها تتضاءل أمام الخطر الأكبر الذى يتمثل فى احتمالية انهيار السد، نتيجة الظروف الطبيعية الإثيوبية، والتى أدت إلى انهيار جزئى فى مشروع جيبا 2 على نهر أومو فى إثيوبيا، بعد افتتاحه بعشرة أيام فقط، والذى أنشأته نفس الشركة الإيطالية التى تقوم ببناء سد النهضة حاليا. وتأكدت هذه المخاوف من تقرير لجنة الخبراء الدولية، ولذلك أصرت إثيوبيا على أن تقوم هى بدراسات الأمان الهندسية دون غيرها، بالإضافة إلى ضرورة استخدام السودان للأسمدة الزراعية لتعويض نقص الطمى، مما يزيد من التكلفة الزراعية.
 
- تداعيات محتملة:
سوف يترتب على تنفيذ سد النهضة بالمواصفات الحالية، دون التوافق مع مصر، إلى تشجيع إثيوبيا على تنفيذ باقى مشروعاتها المائية الثلاثين، كما جاءت فى دراسة مكتب استصلاح الأراضى الأمريكى عام 1964. كما أن بعض دول المنابع، مثل أوغندا، سوف تتبع النهج الإثيوبى فى تنفيذ مشروعاتها المائية، دون التشاور مع مصر، كما كان يحدث طبقا للاتفاقيات والأعراف الدولية.
 نقص المياه المصرية بكمية تعادل سعة التخزين الميت (14 إلى 24 مليار متر مكعب) فى الملء الأول.
 تحول الخصائص الجيولوجية لمنطقة السد بسبب استهلاك مياه السد فى الزراعة.
يعد السد العالى صمام الأمان للأمن المائى المصرى لسد حاجة مصر من أى نقص خلال السنوات القادمة، خاصة فى حالة عدم التوافق مع إثيوبيا، لما به من كمية مياه فى هذا العام تصل إلى 130 مليار متر مكعب، منها 100 مليار قابلة للاستخدام.
 
- تحركات ضرورية: 
تمسك إثيوبيا بموقفها، والتغير في الموقف السوداني بين الحين والآخر، يتطلب التحرك على جميع المستويات، من أهمها:
دفعة ثالثة من القيادات السياسية العليا، سواء على مستوى وزراء الخارجية، أو رؤساء الدول لتنفيذ البند الخامس من وثيقة سد النهضة التى تنص على التعاون فى الملء الأول وإدارة السد عن طريق تشكيل لجنة دائمة هندسية فى سد النهضة من الدول الثلاث للتنسيق فيما بينهم لإدارة السد، بما فيه مصلحة الدول من توليد أعلى طاقة كهربائية لإثيوبيا وأقل ضرراً على السودان.
عدم الاعتماد كلياً على نتائج الدراستين لأنهما لن يغيرا من خصائص السد الحالية.
مزيد من التعاون مع السودان وتبنى رأى واحد فى مشكلة سد النهضة.
التعاون مع دول المنابع فى حوض النيل لكسب تأييدهم لمصر، وسوف يفيد ذلك فى التوصل إلى صياغة مقبولة لمصر فى اتفاقية عنتيبى التى ترفضها مصر والسودان بشكلها الحالى.
توضيح وجهة النظر المصرية فى قضية سد النهضة للمجتمع الدولى الذى يعتقد خطأً أن مصر لا تريد تنمية فى دول المنابع، وأنها تعمل هى والسودان على استخدام مياه النيل بالكامل دون غيرهما.
الإعلان عن تفاصيل تقرير لجنة الخبراء الدولية الذى يحتوى على إدانة واضحة وقصور شديد فى الدراسات الهندسية لسد النهضة، والذى يشكل خطورة بالغة على كل من مصر والسودان.
تمسك مصر بالاتفاقيات المبرمة مع دول الحوض، والتى يصل عددها إلى نحو 15 اتفاقية منها 4 اتفاقيات مع إثيوبيا نفسها أولاها عام 1891، وآخرها اتفاقية 1993 بين مبارك وزيناوى بالقاهرة، والتى لم يذكر أى منها فى جميع مراحل المفاوضات، وأيضاً الاستدلال بالقوانين والأعراف الدولية لحل القضايا المائية، وهذه الاتفاقيات كفيلة بتنظيم السياسات المائية فى المشروعات الإثيوبية فى المستقبل.
الاعتراض الرسمى على بناء سد النهضة بالمواصفات الحالية الخطرة على الدول المجاورة لدى الأمم المتحدة، لأن إثيوبيا تجاهلت كل الاتفاقيات والأعراف الدولية، ومستمرة فى البناء، دون التوصل لأى اتفاق مع دول المصب، وكان الأجدى اتخاذ هذه الخطوة مع بداية الأزمة فى عام 2011.

رابط دائم: