آفاق المصالحة الفلسطينية .. الأبعاد والعوائق
23-11-2017

السفير / محمود كريم
* قنصل مصر في غزة بين فبراير 1995- 1999
استطاعت مصر أخيرا إنهاء الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس، عبر اتفاق للمصالحة، وقد أعطى ذلك الاتفاق آمالا بخروج قطاع غزة من أزمته الإنسانية والسياسية، فضلا عن إمكان إحياء عملية السلام التي عرفت جمودا في السنوات الأخيرة.
في ضوء ذلك، يسعى هذا المقال إلى إبراز السياقات التي برز فيها الانقسام الفلسطيني، فضلا عن طبيعة الدور المصري في اتفاق المصالحة، بخلاف أبرز العوائق المطروحة أمامه. 
سياقات الانقسام وعوامله
عقب اتفاق مكة بين فتح وحماس،‮ ‬قام الرئيس محمود عباس ( أبو مازن) بتسلم السلطة في قطاع غزة، لتشكيل حكومة برئاسة الفصيل الذي فاز بانتخابات ‬يناير‮ ‬2005‮، ‬ورأسها إسماعيل هنية‮.  ‬إلا أن حركة حماس انفردت بالاستيلاء على السلطة في‮ ‬غزة، منشقة عن منظمة التحرير الفلسطينية في‮ ‬14‮ ‬يونيو‮ ‬2007،‮ ‬وذلك بعد إخفاق السلطة الفلسطينية وأذرعها الأمنية المختلفة‮ (‬13‮ ‬جهازا أمنيا‮) ، في رد قوات حماس‮ ("‬كتائب القسام‮" ‬ويقدر عددها بنحو‮ ‬30‮ ‬ألفا‮)‬،‮ ‬وبذلك تفجرت الخلافات بين حماس، ومنظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها التي تجمعت في رام الله‮.‬
وأدى ذلك الانفصال إلى نتائج كارثية على الشعب الفلسطيني داخل وخارج قطاع‮ ‬غزة،‮ ‬منها أن إسرائيل كانت ترفض التفاوض مع الرئيس ‬أبو مازن،‮ ‬رئيس حركة فتح والسلطة الفلسطينية،‮ ‬بحسبانه‮ ‬غير ممثل للشعب الفلسطيني كافة،‮ ‬وبحسبان أنه لا‮ ‬يتحدث باسم قطاع‮ ‬غزة‮ . 
جاء ذلك على الرغم من اعتراف إسرائيل‮ ‬يوم‮ ‬9‮ ‬سبتمبر‮ ‬1993،‮ ‬عقب التوصل لتوقيع اتفاق أوسلو بالأحرف الأولى،‮ ‬في‮ ‬20‮ ‬أغسطس‮ ‬1993،‮ ‬بمنظمة التحرير الفلسطينية،‮ ‬بحسبانها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني في الوثيقة التي حملها وزير الخارجية النرويجي‮، هولست‮، ‬في القدس إلى تونس‮ (‬مقر منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها‮ ‬الراحل ياسر عرفات‮).‬
‬وبفعل الانقسام الفلسطيني، توقفت الدول المانحة عن تقديم المساعدات لقطاع‮ ‬غزة وتقديمها إلى السلطة في رام الله بصورة متناقصة، ولا تتفق مع الالتزامات التي تعهدت بها. ‬كذلك، أدى الانقسام إلى ضعف تمويل وكالة الإغاثة" الأونروا"، التي تمول‮ ‬70٪‮ ‬من احتياجات الشعب الفلسطيني في القطاع‮ (‬2‮ ‬مليون مواطن‮)‬،‮ ‬مما زاد الأحوال المعيشية سوءا‮. كما استفردت إسرائيل بقطاع غزة، وشنت عليه 3 حروب (‬الرصاص المصبوب‮ - ‬عامود السحاب‮ - ‬الجرف الصامد‮)، دون معارضة قوية من السلطة الفلسطينية في رام الله‮.‬
ودفع استيلاء حماس على السلطة في غزة بالقوة إلى هروب أعداد من كبار المسئولين في فتح والسلطة إلى إسرائيل، بدون تنسيق مسبق،‮ ‬والذين اعتقلتهم إسرائيل لمدد طويلة قبل إطلاق سراحهم، كذلك فر عديد من المسئولين إلى مصر‮.
وبرغم استمرار الانفصال بين القطاع‮ (‬الذي تولت حماس إدارته‮) ‬منذ‮ ‬14‮ ‬يونيو‮ ‬2007‮، فإن الميزانية الفلسطينية المركزية في رام الله ظلت تنفق على القطاع في صورة دفع تكاليف الكهرباء التي تمد بها إسرائيل القطاع،‮ ‬وكذلك رواتب الموظفين‮ ‬الذين رفضوا، بتعليمات من رام الله،‮ ‬العمل في سلطة حماس المدنية والعسكرية،‮‮ ‬إضافة إلى رواتب كل من أهالي الأسرى والمحتجزين في السجون الإسرائيلية، وأهالي الشهداء في العمليات ضد إسرائيل،‮ ‬والأطباء والمدرسين وبعض الموظفين،‮ ‬كما خفضت مخصصات العلاج خارج غزة، وخاصة في المستشفيات الإسرائيلية ومستشفيات القدس والضفة الغربية والأردن‮.
وكان هناك تردد لدى قيادة السلطة الفلسطينية في تطبيق هذه العقوبات منذ بدء الانفصال، لأن مردودها كان سينعكس على شعبية حركة فتح عموما،‮ ‬والرئيس أبو مازن على وجه الخصوص،‮ ‬ومنظمة التحرير الفلسطينية صاحبة السلطة الأساسية، وحكومة الحمد الله في رام الله،‮ ‬وليس على العلاقة بين شعبى‮ ‬غزة وحماس‮.‬
في الوقت نفسه،ـ أدى الانقسام الفلسطيني إلى نتائج كارثية على الاقتصاد الفلسطيني، سواء بسبب عدم توافر الكهرباء سوى أربعة ساعات يومية، بخلاف تزايد نسبة الفقر والبطالة، بسبب حصار إسرائيل لقطاع غزة ورفضها دخول مواد البناء إليه. وزاد من سوء الأوضاع الاقتصادية إغلاق منفذ رفح من الجانب المصري، وهو المنفذ الوحيد لقطاع غزة على مصر. ولعل كل هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، قد دفعت حماس إلى إنهاء الانقسام والاستجابة للنداء المصري بالمصالحة‮.‬
مصر والمصالحة الفلسطينية:
‬بعد‮ ‬22‮ ‬محاولة لرأب الصدع الفلسطيني، شهدتها محطات متعددة، كالقاهرة، والرياض والدوحة، وأنقره، ‬دعت مصر وفدا من حماس لزيارة القاهرة،‮ ‬وعرضت مطالب أبو مازن الثلاثة للتفاوض معهم،‮ ‬وهى: تسلم السلطة للمؤسسات الحكومية في القطاع،‮ ‬وتسلم حكومة رام الله أيضا المنافذ‮ ‬على إسرائيل، كما طلبت منظمة التحرير الفلسطينية، ممثلة في السلطة الفلسطينية، موافقة حماس على إجراء الانتخابات الرئاسية‮ و‬التشريعية، إضافة إلى ‬ حل حكومة إسماعيل هنية‮.‬ووافق وفد حماس على الشروط الثلاثة. 
في المقابل، ‬استدعت مصر وفدا من حركة فتح، وأطلعته على موافقة حماس على هذه الشروط ،‮ ‬وعقد اتفاق كان مهددا بالفشل بسبب إصرار وفد فتح على النص على عدم شرعية سلاح المقاومة لدى فصائل المقاومة،‮ ‬لكن مصر من خلال وساطتها تغلبت على هذا الشرط، وتم بالفعل توقيع اتفاق المصالحة في‮ ‬12‮ ‬أكتوبر‮ ‬2017‭.‬
وتضمن الاتفاق إنهاء الانقسام الفلسطيني على مرحلتين‮، الأولى‮: ‬والتي‮ ‬يعتقد الأطراف أنها الأكثر سهولة، ويجرى فيها تمكين حكومة رام الله من ممارسة جميع صلاحياتها، خلال أربعة أشهر‮، ‬يتم فيها تسلم المصالح الحكومية والوزارات في‮ ‬غزة‮. أما المرحلة الثانية، والتي تعالج الموضوعات الكبرى‮، ومنها الإعداد للانتخابات العامة‮ (‬رئاسية‮ - ‬تشريعية‮ - ‬وطنية‮)‬،‮ ‬وكذلك إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية بإدخال الفصيلين ( حماس، وفتح) اللذين شكلا أغلبية المقاعد في آخر انتخابات‮ (‬20‮ ‬يناير‮ ‬2005‮ )، ‬وتشكيل المجلس الوطني،‮ ‬وتشكيل لجنة لدراسة رواتب الذين عينتهم حماس عن طريق صندوق تسهم فيه الدول المانحة‮.‬
بالفعل، تم تسلم سلطة رام الله الوزارات في‮ ‬غزة،‮ ‬حيث أشرف مدير المخابرات المصرية،‮ ‬اللواء خالد محمود فوزي‮ ‬على وجود حكومة رامى الحمد الله ووزرائه في‮ ‬غزة،‮ ‬كما تسلمت السلطة المنافذ الحدودية،‮ ‬وذلك بدون أي مشاكل،‮ ‬على أن‮ ‬يعقد في القاهرة‮ (‬21‮ ‬نوفمبر‮ ‬2017‮) ‬اجتماع لتناول موضوعات المصالحة الأكثر صعوبة في الاتفاق‮.
‬وجاء ذلك تنفيذا للاتفاق الذي رعته القاهرة في‮ ‬4‮ ‬مايو‮ ‬2011،‮ ‬والذي تضمن معالجة الموضوعات السابقة،‮ ‬بالإضافة إلى مهام لجنة مجتمعية للتغلب على رغبات الثأر والتعويض للحوادث التي أدت لاستسلام حماس للسلطة‮ (‬مقتل‮ ‬12‮ ‬فردا من فتح‮)، ‬والتي تدخل فيها العقيد دحلان، مدعوما من الإمارات لإنهاء النزاع‮.‬
دوافع استجابة حماس للمصالحة:
ثمة مجموعة من الأسباب التي دفعت حماس للاستجابة للدور المصري في إنهاء الانقسام الفلسطيني، من أبرزها:
أولا- طبيعة ‬الأوضاع المعيشية بالغة السوء لسكان‮ ‬غزة،‮ ‬حيث أعلنت الأمم المتحدة أن قطاع غزة لن‮ ‬يصبح مكانا صالحا للحياة بعد عام‮ ‬2020‮، بسبب تردي الخدمات المعيشية للمواطنين.‬
ثانيا- ‬نضوب ميزانية حماس، والتي كانت تعتمد في المقام الأول على الضرائب المفروضة على حفر الأنفاق بين القطاع ومصر،‮ ‬والتي أغلقت جميعها تقريبا الآن،‮ ‬وكذلك الضرائب على البضائع المستوردة من مصر خلالها‮.‬
ثالثا- ‬عدم قدرة حماس على الحصول على المساعدات الخارجية بالقدر السابق من إيران،‮ ‬أو تركيا،‮ ‬أو قطر لأسباب تتعلق بالتغيرات في الأوضاع الإقليمية والدولية‮.‬
رابعا- عدم قدرة حماس على إدخال المساعدات الاقتصادية المتوافرة إلى غزة، حتى في حالة توافرها في الخارج،‮ ‬حيث تفرض إسرائيل قيودا مشددة على‮  ‬تحويل الأموال للقطاع‮.‬
خامسا- ‬التدخل المصري بصورة مكثفة لإنهاء الانقسام الفلسطيني، بعد أن أحجمت الحكومة المصرية عن معالجة الأوضاع منذ إسهامها في صياغة تفاهمات عام‮ ‬2011،‮ ‬والتي آثر الوزير الراحل عمر سليمان،‮ ‬مدير المخابرات المصرية العامة الأسبق،‮ ‬على عدم فتحها للتداول،‮ ‬إلى أن جاء الوزير‮ السابق ‬محمد موافي وفتحها للتفاوض، حيث أضاف كل فصيل ما‮ ‬يراه من ملاحظات‮. 
وقد‮ ‬يكون من أسباب مسارعة مصر لإنهاء الانقسام الفلسطيني، إدراك القيادة السياسية أن الأوضاع في قطاع غزة قد تؤدى إلى انفجار داخلي ‬يتخطى حدود القطاع مع مصر‮. أضف إلى ذلك، المساعي الأمريكي لإحياء مفاوضات السلام، فضلا عن بروز محمد دحلان، كتيار إصلاحي لحركة فتح‮.
عقبات المصالحة:
يظل هناك عدة عقبات تقف حائلاً أمام المصالحة الفلسطينية، من أبرزها: 
أولا- ‬سلاح المقاومة‮، ‬حيث تملك الفصائل الفلسطينية المختلفة سلاحا لمقاومة الاعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة. ويشترط الرئيس أبو مازن تسليم السلاح للسلطة، كي لا تتكرر تجربة سلاح حزب الله في لبنان. ‬وخلال المفاوضات التي جرت في القاهرة، ضغطت مصر على الجانب الفلسطيني‮ (‬عزام الأحمد‮)، ‬وطلبت من اللواء ماجد فرج،‮ ‬مدير المخابرات العامة الفلسطينية،‮ ‬الاتصال مباشرة بأبى مازن لتعليق وعدم اشتراط هذا البند فى الوقت الحالى‮.‬
ثانيا- معضلة رواتب موظفي حماس، حيث ‬يشكل تدبير رواتب الموظفين الذين عينتهم حركة حماس في أجهزة سلطتها (‮20‮ ‬ألف مدني ‬و20‮ ‬ألف عسكري) أحد عوائق المصالحة،‮ لاسيما أن هؤلاء الموظفين ليسوا مدرجين في ميزانية حكومة الحمد الله‮.‬
ثالثا- عدم ملاحقة قادة حماس، حيث تسعى حركة حماس إلى توفير مكانة لأعضائها،‮ ‬بحيث لا‮ ‬يتعرضون للمحاكمة،‮ ‬مثلما تعرضت جماعة الإخوان المسلمين في مصر‮.
رابعا- علاقة الفصائل الفلسطينية مع إسرائيل. في الوقت الذي ‬تعترف فيه منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل عقب اتفاق أوسلو، فإن حماس تطالب بدولة من النهر‮ (‬الأردن‮) ‬إلى البحر‮ (‬المتوسط‮)‬،‮ ‬وإن كانت قد أقرت في أول مايو‮ ‬2017‮ باعترافها وعملها على دولة فلسطينية على حدود‮ ‬5‮ ‬يونيو‮ ‬1967‮، ‬ولكن بصفة مرحلية،‮ ‬مع عدم إسقاطها الهدف الأساسي والأكبر‮. وبينما تؤمن فتح بالمقاومة الشعبية السلمية،‮ ‬ترفض حماس هذا المبدأ، وتدعو إلى الكفاح المسلح للدفاع عن الأرض،‮ ‬وكذلك القيام بعمليات فدائية داخل الأرضي المحتلة‮.‬
خامسا- يشكل التعاون الأمني، الذي تمارسه حكومة أبو مازن مع إسرائيل أحد العوائق المطروحة للمصالحة الفلسطينية، لاسيما أن من المتفق عليه تشكيل وزارة من الفصائل الفلسطينية المختلفة تخلف وزارة الحمد الله‮ (‬التوافقية‮)‬،‮ ‬لكن أبا مازن صرح بأنه لن‮ ‬يعين في الوزارة الجديدة وزيرا لا‮ ‬يعترف بإسرائيل‮ .‬
سادسا- معضلة ‬العلاقات بين حماس،‮ ‬والقوى الإقليمية الأخرى، مثل إيران،‮ ‬وتركيا،‮ ‬وقطر، حيث تظل عائقا أمام تشكيل الحكومة الجديدة،‮ ‬نظرا لعدم موافقة أبى مازن على استمرار هذه العلاقات‮ .
سابعا- تراهن تل أبيب على فشل المحاولة الجديدة من المصالحة الفلسطينية، برغم أن البيئة الفلسطينية باتت مهيأة لنجاحها، حيث اشترطت للتفاوض، والدخول في عملية سلام مع السلطة الفلسطينية ألا تضم ضمن وزرائها فصيلاً مداناً دولياً بالإرهاب‮ (‬حماس والجهاد الإسلامي‮)، بحسب وجهة نظرها.‬ كما ‬تطلب إسرائيل نزع سلاح حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، بحسبانه سلاحا‮ ‬غير شرعي، من وجهة نظرها أيضا. 
أضف إلى ذلك، اشتراط تل أبيب على أي فصيل فلسطيني يشترك في الحكومة الفلسطينية الإقرار بشروط الرباعية الدولية‮، ومنها ‬الاعتراف بإسرائيل‮، ونبذ العنف والإرهاب‮، و‬الالتزام بكل الاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية.  
 

رابط دائم: