فخ عربي إسلامي!
16-11-2017

أحمد بديوي
* كاتب وصحفي مصري
أزمة المنطقة العربية ليست في حرب تدق الأبواب، أو نتائج كارثية تنتظر، بفارغ الصبر، ممرًا ملتهبًا ينقلها من "مساحة التوقع" إلى "مربع الحقيقة".. أزمتنا بحجم العالم الإسلامي نفسه.. أغلبية تسير بـ "إرادة حرة" في طريق الفتنة حتى نهايته.. تنفذ سيناريوهات أعدتها، قبل عقود، مراكز التفكير الغربية (Think Tanks).
يجري زعزعة استقرار منطقتنا بـ"أموال وسوء تقدير" بعض الأنظمة.. لا فرقَ بين منطقة تضم 22 دولة عربية، أو مليار مسلم يعيشون على مساحة جغرافية أوسع.. مراكز التفكير الأمريكية نصحت واشنطن، منذ زمن، بالاستفادة من انقسامات العالم الإسلامي، وخلافاته الفكرية.
سيناريوهات "الفتنة المعلبة" تلقفتها "قوى المصالح" الدولية.. حولتها إلى خطط عمل.. شرعت في توريدها لمنطقتنا مع صفقات سلاح، وموجة كراهية غير مسبوقة.. نقطة ضعف العالم الإسلامي أوضح من أن يتم التمويه عليها.. إعادة إحياء الصراع "السني- الشيعي"، صارت الباب الخلفي لاقتحام المنطقة، والفوز بخيراتها.
14 قرنًا من الزمان لم تنجح في مدّ الجسور، وتقريب المسافات بين أتباع الدين الواحد، والثقافة المشتركة، رغم أنَّ تكتلات دولية تواجه التقلبات بما هو أقل.. علاقة الاحتقان تواصل التأرجح بين "اللاسلم، واللاحرب" منذ خريف دولة الخلفاء الراشدين.. الأقوال، والأفعال تعبر عن النوايا، وتؤكّد تمدد الأزمة.
تحولت فتنة الصراع "السني- الشيعي" إلى "عقدة ذنب" تستعصى على أطروحات السياسيين، وجهود الدبلوماسيين.. تغذيها أطماع، ويلتف حولها أتباع.. الغرب طحنته فتن مماثلة في عصور الظلام.. أتت على الأخضر واليابس.. رفعت فاتورة الضحايا، ووسعت مساحات الدماء.
مصالح الغرب جعلته يغذّي الفتنة، بدلًا من أن يصدر لنا "العبر".. شراع في توظيف التناقضات الطائفية الإسلامية لخدمة مصالحة المتجددة.. الأزمة باتت أكثر وضوحًا في العصر الحديث.. الاحتلال القديم (بريطانيا، وفرنسا)، والاحتلال الجديد (أمريكا، وإسرائيل) تسابقوا على استغلال تلك الثغرة.
خصوم وأعداء المنطقة لم يجدوا أخطر من الفخ "السني- الشيعي" لإجهاض موجة الإصلاح الديني، وعرقلة الثورات العربية (ثورة 1919، 1952 في مصر، ونظيراتها فى الإقليم، وعلى أطرافه).. بادرت بريطانيا بتطبيق تجربتها في شق الصف الوطني، وحماية مصالحها، وحلفائها.
لم تدخر جهدًا في زرع قوى وتيارات وظيفية في جسد المنطقة.. أدركت منذ البداية كيف تتم الوقيعة بين القوى الوطنية، التي تقود عمليات التحرر، وتدافع عن ثروات الشعوب، وحقها في الحياة.. إنّه الخيط المشترك الذي يجمع بين أدوار مركبة لعبها: أبو الأعلى المودودي، في الهند، وحسن البنا في مصر، وآية الله أبو القاسم كاشاني في إيران.
أفكار وأشخاص جرى ترميزها لهدف ما.. وحده الاحتلال البريطاني كان يعرف ما يفعل، ولماذا يفعل.. الشعوب (كما مواردها الطبيعية) كانت الضحية المستهدفة.. يراهن المحتل القديم (والجديد أيضًا) على جماعات الإسلام السياسي.. يعدها خط الدفاع الأول عن مصالحها.. إنها معضلة العالم الإسلامي.
تستلهم واشنطن الأفكار بقدر إضاعتنا نحن (العرب والمسلمين) للفرص.. تواصل السير على خطى بريطانيا القديمة، لذا يخطئ من يعتقد أنّ ملف العالم الإسلامي شغل الغرب (الأمريكي- الأوروبي) بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
يقع في الخطأ نفسه من يرى أنّ جرأة من نفذ "هجمات استعراضية" ضد أهداف في العمق الأمريكي هي السبب فيما تجنيه منطقتنا من شرور.. المرتبطون بمنظومة المصالح الغربية يروجون لذلك.. رؤيتهم أنّ ما يحدث "رد فعل".. لا يعنيهم عمق الأزمة.. يفسرونها على مقاييس ارتباطاتهم وتقاطعاتهم.
جماعة "الإخوان" التى كانت طوعًا لبريطانيا العظمى منذ عشرينيات القرن الماضي أدَّت الدور نفسه منذ الستينيات في خدمة المصالح الأمريكية.. دعمت خطة واشنطن الاستراتيجية- التكتيكية.. جمعهما الترسخ لدين جديد (ليبرالي).. نتائجه الإقليم والعالم تكشف حدود الارتباطات والتحالفات.
حضور واشنطن الطاغي ليس فقط في المربع السني، بل وسط القوى الشيعية.. ظلّت تتابع إخفاقات غير قابلة للترميم وقع فيها شاه إيران، محمد رضا بهلوي.. أنقذته مرات ومرات من أزمات داخلية.. ضاقت بمغامراته، بينما رجالها ينخرطون (قبل عام 1979) وسط تكتل جديد يجرى الحشد له في باريس.
رهانات واشنطن كانت واضحة على تيار رجل الدين، آية الله الخميني (التلميذ النجيب لآية الله كاشاني، إحدى أدوات الغرب في وأد التجربة الوطنية لمحمد مصدق في إيران).. شعارات العداء التى رفعها أتباعه ضد واشنطن (لاسيما: الشيطان الأكبر) لا تخفى علاقة مستترة بين الأمريكان والثورة الإيرانية عام 1979.
طهران الطامحة في إحياء الإمبراطورية الفارسية تتلاقى مصالحها مع واشنطن الراغبة في التمدد بأريحية على الخريطة العربية.. تبارى الطرفان في إلقاء قنابل الدخان للتمويه، وفيما الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريجان، يصف "الخميني" بـ"عضو جمعية القتل الدولية"، تفجرت فضيحة "إيران كونترا".
مُنيت أمريكا عام 1986 بأكثر الفضائح السياسية تعقيدًا في تاريخها.. تكشف للعالم أنّ إدارة "ريجان" هى من يسلح إيران.. ويدعمها في مواجهة جارتها العراق (!).. علاقة العداء "الهوليودية" كانت ضرورية، حتى لا تحرق واشنطن شركاءها، وحماة مصالحها الجدد في آسيا.
جاءت حرب تحرير الكويت عام 1991, بمتغيرات جديدة.. غاب الصراع العربي-الإسرائيلي تحت وطأة الصراع "العربي- الفارسي"، ثم "السني- الشيعي".. تماهت المصالح الأمريكية- الإيرانية أكثر وأكثر.. توافقًا على إزاحة عدو مشترك (صدام حسين).
مرت سنوات استنزاف العراق قانية بلون الدم.. والحصار.. وقتل الأطفال.. سقطت بغداد في عراق ما بعد الغزو، لم يكن الدفاع عن الوطن المنهوب يمثل تحديًا للأغلبية الشيعة.. مقاومة المحتل لم تشغل فرع جماعة الإخوان هناك (وضع الحزب الإسلامي يده في يد الأمريكان.. أضفى الشرعية على المحتل).
من يتابع هامش المناورة التى أعقبت سقوط النظام في العراق سيعرف مدى استفادة إيران ومنظماتها الشيعية، وميليشياتها (الحشد الشعبي) بعدما راحت تستعرض قواتها في الجوار.. كانت رسالة واضحة للأقليات الشيعية العربية في الكويت، والبحرين، والسعودية،  واليمن، ولبنان.
مجددًا، جاء موسم الحصاد.. محطات استغلال الغرب لجماعات الإسلام السياسي على الجانبين (السني- الشيعي) تتوافق مع نصيحة الراحل، زبيجنيو بريجنسكى (مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق) أراد وضع الإسلام في دائرة الاستهداف والإرهاب بأيدي أبنائه.
لا يندهش البعض من توفير إيران ملاذات آمنة لعائلة أسامة بن لادن ورجاله.. الدهشة نفسها غابت لخلو إيران (كما إسرائيل) من أي حوادث إرهابية، وسط منطقة تتعاطى مثل هذه الحوادث قبل الوجبات الثلاث وبعدها!
يتجاوز الغرب الأوروبي الأمريكي، مؤقتا، عن المسكوت عنه في العلاقة المحرمة بينهما (تناقض مشاريع السيطرة على العالم التى يرفعها كل حلفاء الدم).. الماضي يلقى الضوء على ملامح المستقبل.. الحكومات الغربية لا تثق في قوى الإسلام السياسي.. تضحى بها فور انتهاء المهام المشبوهة.
تجربتها في الجزائر، وفلسطين، والعراق واضحة.. تراهن عليها فقط في تغذية النزاعات الطائفية، العرقية والقبلية، لتدمير السلطة السياسية المركزية.. تستغل أدوارا تآمرية لحكومات رسمية (إيران، وتركيا، وقطر، وإسرائيل) في تغذية الصراع.
طهران عينها على الموارد النفطية العراقية- الخليجية لتحسين وضعها التفاوضي مع العالم.. أنقرة، وتل أبيب عيناهما على الجغرافيا للسبب نفسه.. الحل، من وجهة نظري، يكمن في تقارب مصري- سعودي- إيراني على أرضية المصالح، والثقافات، والأدوار، والحضور المشترك.
التقارب يغلق الثغرات التى تستغلها قوى المصالح الدولية في التسرب لجسد المنطقة.. يحسم ملف الإسلام السياسي للأبد.. لن تجد الجماعات المتشددة من يستغلها في المشهد.. ساعتها، سنعلن بكل أريحية الانتصار على الإرهاب، والعيش الآمن، بدلا من انتظار الحرب.
 
 

رابط دائم: