أبعاد وتداعيات استقالة الحريري
7-11-2017

د. منى سليمان
* باحثة فى العلوم السياسية.
أعلن رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري استقالته من منصبه، خلال وجوده بالعاصمة السعودية الرياض، في الرابع من نوفمبر 2014، والتي لا يزال موجودًا فيها حتى الآن. وبرر قراره التخلي عن منصبه، بعد 11 شهرًا على ترؤسه الحكومة اللبنانية، بتصاعد النفوذ الإيراني في بلاده، والخوف من اغتياله، مخلفًا فراغًا سياسيًا في بلاده، إثر شغور منصب رئيس الوزراء، فضلًا عن تصاعد المخاوف من عودة التناحر السياسي بين كتلتي 14 و8 آذار في لبنان مرة أخرى. كما أن قراره قد أخل بتوازن القوة في لبنان، وسيكون له العديد من التداعيات الداخلية والإقليمية. 
أبعاد وسياقات
أنهى إعلان استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري (47عاما)، زعيم "تيار المستقبل"، التسوية السياسية، التي تم التوافق عليها منذ عام، لإنهاء حالة الفراغ السياسي في هذا البلد، بعد شغور منصب رئيس الدولة لمدة عامين ونصف عام. وقادت تلك التسوية إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، والحريري رئيسًا للوزراء، على أن ينضم "حزب الله" كعضو في الائتلاف الحكومي، مما منح الحزب غطاء سياسيا لوجوده العسكري في سوريا.
جاءت تلك التسوية بعد العداء السياسي الذي احتدم بين كتلتي 14 آذار، بزعامة الحريري، وكتلة 8 آذار، بزعامة حزب الله، عقب اتهام عناصر من الحزب بالتورط في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري. وقد أحدثت استقالة الحريري العديد من التساؤلات، منها: 
أولا- توقيت ومكان الإعلان: ترأس الحريري في الـ3 نوفمبر الجاري، قبل يوم واحد من إعلان الاستقالة، جلسة مجلس الوزراء في بيروت في السراي الكبيرة، وأشاد بدعم الرياض لبلاده قبيل يوم واحد من زيارته للمملكة، وهي الثانية له خلال أسبوع واحد، مما يؤكد وجود خفايا حول الزيارتين، لم تعلن حتى الآن. 
ولم يشر الحريري، تلميحًا أو تصريحًا،  إلى رغبته في تقديم الاستقالة من منصبه، مما يؤكد حدوث أمر طارئ لا يزال غامضًا، واستجد خلال 24 ساعة فقط ليتخذ الحريري قراره فور وصوله الرياض قادما من بيروت. وأعلن الحريري كلمته عبر خطاب متلفز بث على قناة العربية، خلال وجوده بالرياض، ولم يعلنها في بيروت، أو يسلمها للرئيس اللبناني ميشال عون، مخالفًا بذلك جميع الأعراف السياسية المتعارف عليها، ليؤكد بذلك تحالفه مع الرياض لمواجهة المحور الإيراني في المنطقة (طهران، حزب الله اللبناني، الحكومة السورية والعراقية، جماعة الحوثيين باليمن) الذي تسعى طهران من خلاله لتشكيل هلال شيعي لمحاصرة الدول العربية السنية عبر افتعال الصراعات الطائفية في تلك الدول. 
أيضا، جاء إعلان الاستقالة في توقيت بالغ الأهمية للدولة اللبنانية والمنطقة. فعلي الصعيد اللبناني، تستعد بيروت لإحياء ذكرى الاستقلال في الـ 23 من الشهر الجاري ، ولإجراء انتخابات نيابية بعد 6 أشهر في مايو 2018 من المفترض أن تغير تركيب ومكونات المجلس التشريعي والحكومة اللبنانية. كما تتصاعد المخاوف من توجيه إسرائيل ضربة عسكرية إلى جنوب لبنان ضد معسكرات "حزب الله".  وعلى الصعيد العربي، فلا تزال أزمات دول الثورات العربية مشتعلة. ولعل القرار اللبناني، منذ 2011 في مواجهة هذه الأزمات، الاعتماد على الحلول السياسية والحوار هو لمواجهة الأزمات الداخلية لتجنب انزلاق الدولة إلى أتون الحرب الأهلية مرة أخرى. 
ثانيا- المضمون والمبررات: بررالحريري قراره بالاستقالة بالخشية على حياته، وكشف عن إحباط محاولة لاغتياله في نهاية أكتوبر الماضي، وهو الأمر الذي نفاه الجيش اللبناني. إلا أن "الحريري" ومصادر سعودية أكدته. وجدد الحريري رفضه للتدخل الإيراني في الشأن اللبناني والعربي، وذكر أن "يد إيران في المنطقة ستقطع". 
ويثير ذلك تساؤلات، منها: هل سيكون هذا إعلانا ضمنيا لمواجهة محور إيران في المنطقة، ووقف نفوذ طهران في لبنان؟ خاصة أن هناك عددا من المؤشرات على تصاعد الهيمنة الإيرانية في لبنان، وكان أحدثها عقد "الحريري" في الأول من نوفمبر 2017 لقاءً مع مستشار المرشد الإيراني للشئون الدولية "علي أكبر ولايتي"، الذي زار لبنان، ولم يتم الكشف عن مضمونه حتى الآن. 
وقد أشاد ولايتي بالحريري، وقال إن طهران تدعم وتحمي استقلال لبنان، وقوته، وشعبه، وحكومته، وإن الانتصارات في لبنان، وسوريا، والعراق هي "لمحور المقاومة"، الأمر الذي اعترضت عليه بعض الأوساط السياسية اللبنانية، وعدته نصرًا لطهران. 
بموازاة ذلك، كان رئيس الوزراء "سعد الحريري" في الثاني من نوفمبر 2017 قد أصدر قرارًا بتعيين سفير جديد للبنان في دمشق، هو "سعد زخيا" ، الذي حَظي بمُوافقة الحكومة السورية، وسيستلم منصبه في الأوّل من ديسمبر القادم. وقد كان "الحريري" يرفض ذلك القرار من قبل، مما يؤكد تعرضه لضغوط سياسية لاتخاذ مثل هذا القرار. 
كذلك، أعلن الأكاديمي اللبناني الدكتور "رضوان السيد" في مطلع نوفمبر الجاري إطلاق حركة سياسية جديدة تحمل اسم "حركة المبادرة الوطنية"، تضم عددا من الشخصيات السياسية، والثقافية، والدينية، والإعلامية، والاجتماعية اللبنانية، بغية حماية الدولة والدستور، ووضع حدّ لاختلال موازين القوى لمصلحة (حزب الله)، ومواجهة مشروع الهيمنة الإيرانية على لبنان. إن إعلان تشكيل تلك الرابطة دليل واضح على تصاعد النفوذ الإيراني في لبنان، ورغبة قوى المجتمع المدني في مواجهته.
ردود الفعل
أولا- القوى السياسية اللبنانية: لا تزال المفاجأة عنوانا أساسيا لللمشهد اللبناني بعد قرار "الحريري" الاستقالة، التي لم يقبلها حتى الآن الرئيس اللبناني العماد "ميشال عون"، وأرجأ جميع الترتيبات السياسية حتى عودة "الحريري" لبيروت المقررة في 9 نوفمبر الجاري ليبحث معه أسباب الاستقالة، ويثنيه عنها. بينما أشاد  رئيس الجمهورية السابق "ميشال سليمان" بقرار "الحريري"، وأكد أنه يجب سحب "حزب الله" من سوريا، ووضع استراتيجية دفاعية وطنية للدولة اللبنانية، وإنهاء حالة "دولة داخل دولة". 
كما أعرب الزعيم الدرزي النائب "وليد جنبلاط" عن خشيته من تحمل لبنان الصغير والضعيف الأعباء الاقتصادية والسياسية لهذه الاستقالة. وطالب بإجراء حوار مباشر بين السعودية وإيران (لفك الاشتباك الإقليمي بينهما). فيما حذر نائب كتلة "التغيير والإصلاح" "غسان مخيبر" من أن إعلان الاستقالة من الرياض سيؤدي إلى دخول لبنان في أتون الصراع الإقليمي بعدما حيّد نفسه عنه لست سنوات. 
من جانبه، دعا الأمين العام "لحزب الله"اللبناني السيد "حسن نصرالله"، في خطاب متلفز، المجتمع اللبناني إلى الهدوء وانتظار عودة "الحريري" لبيروت لبحث أمر استقالته، ووصف إعلان "الحريري" الاستقالة من الرياض بأنه أوجد قلقاً في لبنان، وأحدث مفاجأة للبنانيين، وأن الحزب كان يتمني بقاء "الحريري" على رأس الحكومة إلى حين إجراء الانتخابات النيابية، خاصة مع عدم وجود سبب داخلي للاستقالة، ودعا المجتمع اللبناني إلى الهدوء والصبر لاستيضاح الصورة، وعدم الإصغاء إلى الإشاعات والتحليلات للحفاظ على الاستقرار والأمن والسلم الأهلي بلبنان.
ثانيا- الموقف الإيراني، وانقسم لرد فعل رسمي تمثل في تصريحات المتحدث باسم الخارجية الإيرانية "بهرام قاسمي" الذي أعرب عن أسفه لاستقالة "الحريري"، ورفض توجيهه اتهامات لا أساس لها لإيران. كما أكد مستشار وزير الخارجية الإيراني "حسين شيخ الإسلام" أن استقالة "الحريري" جاءت بقرار سعودي واضح لمواجهة "حزب الله" اللبناني، حليف إيران، وبدعم أمريكي إثر العقوبات التي فرضتها واشنطن على الحزب وبعض عناصره.
أما رد الفعل غير الرسمي، فقد تمثل في إطلاق الحوثيين من اليمن صاروخاً باليستياً شمال شرق الرياض‬ التي أعلن منها الحريري استقالته، بيد أن قوات الدفاع الجوي السعودي اعترضته. 
ثالثا- الموقف الإسرائيلي: حيث أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" أنّ استقالة "الحريري" والتصريحات التي أدلى بها هي بمنزلة "مكالمة إيقاظ" بالنسبة للمجتمع الدوليّ، كي يتخّذ إجراءات ضدّ العدوان الإيراني الذي يسعى لتحويل سوريا إلى لبنان آخر. وهذا العدوان يُشكّل خطرًا ليس على إسرائيل فحسب، بل وأيضًا على الشرق الأوسط برمتّه.
رابعا- الموقف الفرنسي: حيث دعت المتحدثة باسم الخارجية الفرنسية المسئولين في لبنان إلى العمل على التوصل إلى حل وسط بعد استقالة "الحريري"، لأنه ليس من مصلحة أحد دخول لبنان لمرحلة عدم الاستقرار. 
مستقبل أزمة الاستقالة
احتمالات مستقبل أزمة استقالة الحريري:
أولا- تراجع "الحريري": فغداة الإعلان عن الاستقالة، بدأت وساطات إقليمية ودولية تعهدت بالعمل على إثناء "الحريري"عن قراره بما يسمح بإجراء مشاورات سياسية مع مختلف الأطراف اللبنانية، وعودة الحريري إلى بيروت، وسحب الاستقالة بعد التوافق على تسوية سياسية تعيد توازن القوى بين مكونات المشهد السياسي مرة أخرى، لاسيما أن الرئيس عون لم يقبل الاستقالة حتى الآن، في ظل دعوة أطراف إقليمية ودولية، بل وداخل لبنان، لتجنب تصعيد الأزمة، خشية من تداعياتها السياسية والاقتصادية.
وربما تبدأ مصر هذه الوساطة، حيث استقبل الرئيس "عبد الفتاح السيسى" رئيس مجلس النواب اللبناني "نبيه برى" بمدينة شرم الشيخ، خلال مشاركته في منتدى شباب العالم. وأكد "السيسي" أهمية تجنب جميع أشكال التوتر والتطرف المذهبي والديني، ورفض مساعي التدخل في الشئون الداخلية للبنان. وتعد مصر وسيطا نزيها لم ينحز يوميا لطرف لبناني دون طرف، كما أن وساطتها قد نجحت من قبل بين الفرقاء في سوريا، وفلسطين، وليبيا، مما يكسبها مصداقيته، حال قررت التوسط لحل الأزمة اللبنانية. 
ثانيا- تشكيل حكومة جديدة: وهذا يتم بعد إعلان الرئيس "عون" قبول استقالة "الحريري"، وبقاء الأخير خارج لبنان، وبدء الاستشارات النيابية مع الكتل السياسية اللبنانية لتسمية رئيس الوزراء المكلف بتشكيل الحكومة الجديدة. وقد تم طرح عدد من الأسماء، من بينها "نجيب ميقاتي". وحال تشكيلها، ستكون الحكومة الجديدة من التكنوقراط، بحيث تتولى الإشراف على إجراء الانتخابات النيابية اللبنانية المقررة في مايو المقبل، إن لم يتم إرجاؤها إذا تم تصعيد الأزمة. وربما ينجح تيار المستقبل في الانتخابات المقبلة، ويصبح من حق "الحريري"، كزعيم له، تشكيل الحكومة مرة أخرى.
ثالثا- التصعيد السياسي: فخلال إعلان كلمته، أكد "الحريري" أن الأجواء داخل لبنان حاليًا مشابهة لنظيرتها قبل اغتيال والده "الحريري"، مما ينذر باستمرار الأزمة، حال تمسك الحريري بموقفه، وحال فشلت الوساطات في تقريب وجهات النظر بين الأطراف اللبنانية المختلفة، لاسيما أن نائب كتلة المستقبل "أمين وهبي" حذر من حدوث سلسلة من الاغتيالات ضد السياسيين اللبنانيين المعارضين للنفوذ الإيراني ببلادهم. وحال تم ذلك، فقد يؤدي إلى تصعيد سياسي ينهي مرحلة الاستقرار الهش التي عاشها لبنان منذ عام 2006، وتبدأ مرحلة جديدة من عدم الاستقرار السياسي والفوضى الأمنية، حيث تصبح الدولة رهينة لحكم الميليشيات المسلحة. وهنا، يُفتح الباب لكل الاحتمالات، بما فيها الحرب الأهلية، والتدخل الخارجي، سياسيًا وعسكريًا. 
رابعا- التصعيد العسكري: حيث تشير تقارير صادرة من الأجهزة المخابراتية الإسرائيلية إلى أن "حزب الله" اللبناني أصبح يملك "ترسانة" من الصواريخ والأسلحة المتطورة القادرة على إصابة أهدافها بدقّةٍ متناهيةٍ، وتحولت ميليشيات الحزب لجيش دولة منظمٍ. وزعم تقرير نشره موقع (WALLA) الإخباريّ الإسرائيليّ أنّ ميليشيات الحزب أقوى قوة مسلحة غير تابعة لدولة في العالم، وعدد مقاتليه بلغ 25 ألفًا، خمسة آلاف منهم تلقوا تدريبات عسكرية في إيران، الأمر الذي سيسمح للحزب بضرب المنشآت الاستراتيجيّة الإسرائيليّة. 
كما يمتلك الحزب – بحسب التقرير الإسرائيلي- مئات الصواريخ الباليستية، ولديه القدرة على التشويش على الاتصالات اللاسلكيّة الإسرائيليّة، وفكّ تشفير الاتصالات. وهذه التقارير تطرح احتمالين أمام حكومة تل أبيب، الأول أن الحزب امتلك من القوة العسكرية ما يكفي لردع إسرائيل عن مهاجمته. والاحتمال الآخر هو ضرورة توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية سريعة لجنوب لبنان، ومعسكرات الحزب، ومخازن أسلحته لتقليص قوته العسكرية المتصاعدة. ويعد قرار "الحريري" الاستقالة، وما خلفه من حالة عدم استقرار سياسي وأمني بلبنان، فرصة مناسبة لإسرائيل- حال أرادت- لتوجيه ضربة استباقية "لحزب الله" اللبناني.
 ختامًا، فإن قرار الاستقالة الذي أقدم عليه "الحريري" أحدث أزمة سياسية ربما تتصاعد لتصبح أزمة عسكرية عبر توجيه ضربة إسرائيلية "لحزب الله" اللبناني، سيكون المتضرر الرئيسي منها هو الشعب اللبناني الذي لا يزال يعاني آثار حرب صيف 2006. 
ويبقي التساؤل الرئيسي: كيف يتحقق استقرار الدولة اللبنانية؟ هل عبر الاستسلام لشروط (حزب الله) وقوته العسكرية المتصاعدة، بعدما حقق مكاسب سياسية وعسكرية من تدخله في الشأن السوري، خلال السنوات الست الماضية، أم من خلال مواجهته؟ وهل تتم تلك المواجهة سياسيًا أم عسكريًا؟ إن استقرار الدولة اللبنانية يتحقق عبر احترام الدستور اللبناني الذي يحافظ على حقوق كل الطوائف، ومكونات المجتمع، بما يحقق السلم والأمن في الدولة اللبنانية. 

رابط دائم: