حب الوطن،، ومعنى الوطنية
27-10-2017

د. إلهــام سيــف الدولــة حمــدان
* أستاذ العلوم اللغوية بأكاديمية الفنون وعضو اتحاد كتاب مصر
مازال صوت موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب يداعب أذني؛ وأتمايل معه طربًا حين أتذكر تغنيه بالوطن منشدًا لحنه الرائع "حب الوطن فرض عليَّا ..أفديه بروحي وعنيَّا".. وياله من مطلع رائع لأغنية أقل مايقال عنها أنها دستور في محبة الوطن؛ فقد بلغ تقديسه له أنه تحول إلى فرضٍ أسوة ببقية الفروض التي تحُض عليها الأديان السماوية جمعاء..إلى هذا الحد كانت الأغاني تعلِّم وتحض على التفاني في حب الوطن؛ فلم نخطئ حين عظمنا دور الفن وتأثيره القوي في النفس البشرية، فقد تربت أجيال على سماع هذه الأغنية التي سقناها كنموذج لبيان كيف تزرع الوطنية في قلوبنا من خلالها، فقد نشأ جيل متفان بحق في حب مصر مدلَّهٌ بها؛ قدم الكثير من التضحيات وخاض حروبًا ضروسًا؛ روت أرضه دماء الشهداء الطاهرة؛ وهان كل غالٍ في سبيل تحريرالأرض وصون العرض .. ينبغي ألا نعدم السبل ونحن نربي ابناءنا على حب وطننا الغالي؛ حتى تتكون لديهم الفطنة بالفطرة لينبذوا الأعداء والدخلاء ممن يدَّعون الوطنية؛ وهم في حقيقة الأمر يخططون لسلب الوطن وتدميره .. فالوطنية كمصطلح يُعد حديث التداول كما نص على ذلك عباس العقاد في مقاله "معنى الوطنية"، قائلا : " الوطنية قوة حديثة لم تكن معروفة في الغرب و لا في الشرق قبل القرن الثامن عشر، فلما وجدت بمعناها الحديث أصبحت هي القوة العاملة في سياسة العالم، و لم تزل أقوى قوة فعالة في السياسة الدولية و فى سياسة كل أمة على حدة .
من قديم الزمان ثارت الأمم على الحكم الأجنبى، و لكن هذه قد تكون ثورة على ذلك الخضوع؛
 وهو شعور غير مقصور على الوطنية .
يوجد في الإنسان الفرد شعور الوطنية، كما يوجد في المجاميع الإنسانية، و ليس النفور من الذل هو كل ما في الوطنية لأنها تشمله و تزيد عليه كثيرًا .
لم يكن من المستطاع ظهور الوطنية في عصور الإقطاع، لأن الشعور بالإقليم في عهد الإقطاع أقوى من الشعور بالوطن كله، و لا نزال نذكر في ' مصر ' الجيزاوي و الشرقاوي و البحيري ؛ ألقاب نسبة إلى الأقاليم، بل مازلنا نذكر أن كلمة المصري كانت تطلق قبل مئة عام ويراد بها ابن القاهرة .
لم يكن من المستطاع ظهور الوطنية في عهد الملوك المستبدين لأن البلاد كانت ميراثًا ينتقل بالمصاهرة كما تنتقل الدار المملوكة .
إنما نشأت الديمقراطية مع الإيمان بسيادة الأمة، و إنها دون غيرها مصدر السلطات، و منذ ظهرت الوطنية علم الملوك أنها خطر على دعواهم و اجتمعوا على محاربتها، و بلغ من سخط ملوك 'روسيا' و 'النمسا' و 'ألمانيا' على الوطنية أنهم على كراهيتهم للدولة العثمانية؛ و اتفاقهم على تقسيمها ترددوا في مساعدة الأمم الثائرة عليها ، لأنها تثور بدعوى الوطنية أو بدعوى حقوق الشعب .
منذ عُرفت الوطنية التي تقوم على سيادة الأمة لم ينقطع المفكرون و السياسيون عن البحث في تعريفها و حصر شروطها و معانيها .
 
و صفوة القول إن الوطنية للأمة كالشخصية للإنسان ، فلا يلزم أن يتخلى الفرد عن شخصيته ليصبح عضوًا نافعًا في الأمة، و لا يلزم أن تتخلى الأمة عن شخصيتها لتصبح عضوًا نافعًا في البيئة الإنسانية، بل أن تكون الشخصية المحترمة مناط العمل النافع للأمة و لجميع بني الإنسانية !". وعليه فإن " الشخص الذي يسيء إلى وطنه أو إلى الإنسانية ، يجب أن نقاطعه و أن نحمل عليه ؛ و إلا اعتبرناه أحسن من الإنسانية أو الوطن !".
 
وتعالوا بنا لنغوص في أعماق فكرهذا الأديب الأريب؛ الذي عُرف عنه عدم المهادنة والتمسك بأهداب الوطنية الحقة؛ لنعي كلماته من منطلق الوعي بمقدرات الوطن وحقوق البشرعلى أرضه؛ فالانتماء للوطن ليس مجرد كلمة تقال في المحافل؛ أوعلى صفحات الصحف السيارة؛ ولكن يُستدل عليها بسلوكيات الأفراد داخل المجتمع؛ ومشاركاتهم الإيجابية في الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية كافة؛ الأمر الذي يشعر معه المرء بالفخر والاعتزاز؛ ويأخذ مكانه ومكانته على رءوس الأشهاد من الشرفاء مشاركيه في الاتجاه والمسار نفسه؛ ووجوب حث الآخرين على مد يد العون معهم لمواجهة المشكلات واقتراح الحلول المناسبة لكيفية مواجهتها . 
 
ويبقى الهدف الأسمى والأساس في تعميق هذا الانتماء داخل الذات؛ هو ضرورة سعي الإنسان بتنمية مهاراته وقدراته؛ والعمل على إذكاء روح المنافسة الشريفة والإحساس بالمسئولية تجاه الوطن؛ والتغاضي ـ ولو مؤقتًا ـ عن المصلحة الوقتية الشخصية؛ التي قد تتعارض مع صالح المجموع؛ وليكن في ذهن الجميع أن غرس بذور الانتماء والولاء للوطن؛ تبدأ مع الخطوات الأولى للطفل في المدرسة؛ فالشعور بالانتماء يبدأ من مرحلة الطفولة؛ وهي التي تُعد من أهم المراحل العُمرية للإنسان . لنعيد للوطن أمجاده التي توارت بعض الشىء خلف ماديات العصر؛ ونعود لنغني مع موسيقار الأجيال : حُب الوطن فرض عليَّا .. أفديه بروحي وعينيًا  .
 

رابط دائم: