الدم لكم.. والثروات لغيركم
18-10-2017

أحمد بديوي
* كاتب وصحفي مصري
الآن، حانت لحظة الحقيقة. لابد أن نكاشف أنفسنا بالواقع المرير. سنوات، وسنوات من الإنكار (المثير للجدل، والشبهة معًا)، غابت الحقائق عن الأغلبية،التى انشغلت بملفات هامشية لا تقدم ولا تؤخر، تكاشفهم بما ينتظرهم من مصير محتوم، فيقولون: "كفاكم تخويفا.. تشتتون انتباهنا عن كذا، وكذا، وكذا...".
في واقع الأمر، هؤلاء كانوا ضحية لعملية تشتيت أكبر، وأكثر خطورة. تعالوا نتوقف قليلا، مع مقارنة بسيطة بين ملف منطقة "إبيي" النفطية وسط السودان، وكركوك، التى تعوم على بحيرة نفطية شمال العراق. هذه الوقفة مفيدة، لأن السيناريو نفسه (مع اختلاف السياق، وتقارب الأهداف) كان سيتكرر في "سيناء، وسيوة، والمنيا وأسوان"، ليس للسيطرة على ثروة نفطية، لكن لاختطاف وطن يحرك المنطقة (شرقا وغربا).
لمن لا يعرف "إبيي" منطقة سودانية، ظلت لعقود من الزمن تتبع ولاية "غرب كردفان"، حصلت عام 2005 على وضع خاص في اتفاقية السلام الشامل بين حكومة السودان، والحركة الشعبية لتحرير السودان، بزعامة جون قرنق. أنهت الاتفاقية (بشكل مؤقت) أطول حرب في إفريقيا، لكنها لم توقف النزاع بين من كانوا ينتمون لوطن واحد. 
تفاصيل كثيرة تعزز مكانة "إبيي" المتنازع عليها حاليًا بين الخرطوم، وجوبا.. دعكم من أنها جسر مهم بين الشمال والجنوب.. الأهم، أن تذخر بموارد نفطية غير مسبوقة في السودان.. منذ البداية خططت قوى المصالح الدولية لاقتطاع تلك المنطقة من خريطة البلاد (حدث هذا في مفاوضات مشاكوس عام 2002، ونيفاشا عام 2005، وإحالة الملف للمحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي 2008، وفشل جهود ترسيم الحدود حتى الآن...).
من السهل صناعة النزاعات في المناطق العربية (قبليا، وعرقيا، وعقائديا...).. عندها تضيع حقوق الجميع، بيد الجميع.. سنوات الدم بين الشمال والجنوب، راح ضحيتها الآلاف (قتلا، وإصابة، وتهجيرا...).. لا تزال الحصيلة في ازدياد، بفعل مناوشات تتحول أحيانا إلى معارك طاحنة، تراقبها القوى الدولية دون حسم.
الأطراف الخارجية التى تراهن على "تأميم" منطقة "إبيي" من مصلحتها استمرار الحالة الرخوة.. النزاع بين جنوب السودان وشماله يعنى ضياع حقوق الشعب فى هذه الثروة المهولة.. المستفيدون أنفسهم، هم من بادروا بتغييب الأيقونة "جون قرنق" بعد انتهاء دوره فى فصل الشمال عن الجنوب.. كانت نهايته مأساوية.. دوره النضالي في قيادة مطالب الجنوب، ثم حمله السلاح لأجل هذه المطالب، لم ينقذه من تلك النهاية.
"قرنق"، كغيره ممن راهنوا على الشعارات الفضفاضة (الأمريكية تحديدا).. كان يعتقد أنها ستتحول إلى واقع، لا إلى سراب.. اعتقد أن توقيع اتفاقية السلام (في نيفاشا) ستجلب لشعبه الرخاء.. راح يرتب أوراقه، كي يجنى شعب الجنوب ثمار مطلبه الأساسي (تقسيم الثروة والسلطة).. أن ينعم الشمال بالسلام.. فجأة، تدخلت أطراف المؤامرة على السودان، لتكتب مشهد النهاية في حياة "قرنق"، ومن ثم يستمر الصراع بمعطيات وشخوص جدد.. والهدف هو التمويه على ثروة "إبيي" النفطية الضخمة.
بدأ التنقيب عن النفط في السودان مطلع السبعينيات من القرن الماضي.. تعلقت الأعين بإنتاج "إبيي" منذ عام 1990.. أصبحت تلك المنطقة لاحقا تسهم (منفردة) بأكثر من ربع إجمالي إنتاج السودان من النفط الخام.. يجرى تسريب معلومات مغرضة حول نضوب الاحتياطي النفطي لـ"إبيي".. يعرف الجميع أنها تسريبات مضللة.. يعرفون أن المخطط يستهدف نقل نفط المنطقة، عبر خط أنابيب ضخم يمر بمنطقة "دارفور" (جرى تفجير النزاع فيها للسبب نفسه، عبر استغلال مظالم تاريخية) ثم يمر خط الأنابيب بالصحراء الكبرى، ومنها إلى شاطئ المحيط الاطلنطي، لتذهب لمصيرها المحتوم!!
حتى الآن، يرى وزير خارجية السودان، إبراهيم غندور، أن "إبيي" محسومة التبعية لبلاده.. نظيره، في جنوب السودان، دينق ألور، يتمسك بالتبعية نفسها لبلاده.. منطقة "كركوك" العراقية تعيش الأزمة ذاتها.. عرفت إنتاج النفط منذ عام 1927.. تدفقت الخيرات من تلقاء نفسها في منطقة بابا كركر.. يقدر مخزونها الاحتياطي بأكثر من 10 مليارات برميل.. إنتاجها يصل إلى مليون برميل يوميا.
التسريبات المشبوهة التى تشكك في نضوب نفط "إبيي"، تم إنتاجها بصيغة أخرى لتشويه نفط كركوك.. مرة، بزعم أنه لزوج، وأخرى بحجة صعوبة استخراجه من باطن الأرض في المستقبل.. من يخططون للمستقبل هدفهم فصل إقليم "كركوك عن جسد العراق، وكردستان معا.. هم أنفسهم من يخططون وينفذون منذ سنوات عمليات التخريب المؤقتة لحقول النفط (بابا كركر.. جمبور.. باي حسن.. آفانا.. كيوي بور...).. منذ الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، لم تتوقف خسائر البنية التحتية.. أضاعوا على الشعب العراقي مليارات الدولارات، تمهيدا لظروف مناسبة يجرى خلالها الهيمنة الكاملة على هذه الحقول.
محركو الأحداث، من خلف ستار، دحرجوا كرة اللهب التقليدية.. هذه المرة الصراع عرقي.. استغل الأكراد فوضى ما بعد الغزو الأمريكي، في تحريك قوات "البشمركة" للسيطرة على كركوك.. لعبت السياسات الأمريكية دورا محوريا في التمهيد لهذه السيطرة. ملف اجتثاث البعث، تحول إلى فزاعة للخلاص من أدوات الضبط الاجتماعي.. من كل القوى الوطنية التى كانت تدافع عن حق الشعب العراقي في موارده، وفى الحياة نفسها.. جرى تغيير ديموغرافى واسع النطاق.. تم تهجير عدد كبير من السكان الأصليين.. الوثائق الجديدة كانت جاهزة للتأكيد بأن الوافدين الجدد على كركوك يعيشون فيها منذ عقود.. بل وقرون!!
يحاول الجيش العراقي بسط سيطرته على الموقف.. ثمة طرف ثالث يحرك الأحداث.. يتحكم في المصير "الجيوسياسي" لكركوك، مدعيا الوقوف على الحياد.. واشنطن (صديقة الجميع، سواء كانوا في السلطة، أو المعارضة) تطالب الجميع بضبط النفس.. لورا سيل، المتحدثة باسم البنتاجون تعبر عن هذه الحالة فتقول: "نعترض على العنف من أي طرف.. نعارض زعزعة الاستقرار".. إذن، قوات البشمركة الكردية، لا تتحرك من تلقاء نفسها.. تتسلح بدعم دولي وإقليمي قبل المعدات والذخيرة.
ثمة "ممر آمن" يجرى دفع ملف كركوك (كما إبيي، وغيرهما) باتجاهه.. يجرى الإيحاء للأطراف المتنازعة بأن الحسم يحتاج إلى "وسيط" يقرب وجهات النظر.. الوسيط معروف.. هو من خطط للأزمة منذ البداية.. هو من أعاد إحياء التناقضات.. السيناريو نفسه، كان يجرى تجهيزه لتأميم مصر (الموقع.. القرار.. المقدرات).. كان يستهدف تحويل مصر لـ"مناطق محررة" تتحكم فيها ميليشيات.. تحركت مؤسسات الدولة الوطنية في الوقت المناسب.. تم إنقاذ الموقف، وحقن المزيد من الدماء.. المؤسف أن غيرنا غارق فيها، فيما ثرواته يجرى نهبها في وضح النهار..!
 

رابط دائم: