منتدى دافوس.. معايير مشتركة للواقع اقتصادي الجديد
6-7-2011


*

عقد، خلال الفترة من 26 حتي 30 يناير 2011، مؤتمر القمة العالمي لمنتدي "دافوس" الاقتصادي السنوي، والذي يتجمع في هذا التوقيت من كل عام، حيث يشارك فيه مجموعة من أبرز وأهم الشخصيات في العالم، مستغرقا خمسة أيام، وعاقدا لنحو 239 جلسة بهدف إجراء المناقشات وطرح الأفكار في مجالات مختلفة لا تقتصر علي القضايا الاقتصادية فحسب، ولكن تمتد لتشمل أمورا أخري، مثل الجغرافيا السياسية إلي القضايا التجارية والعلوم المتطورة وحتي قضايا غريبة الأطوار، مثل دروس القيادة الشكسبيرية.

وتظهر الأهمية الكبيرة لمؤتمر دافوس الاقتصادي السنوي من قدرته علي تحقيق تواصل كبير بين كبار رجال الأعمال علي مستوي العالم، حيث يصل عدد المشاركين منهم في فعاليات المؤتمر إلي نحو 2500، وكبار السياسيين (نحو 35 رئيس دولة وحكومة) بالإضافة إلي الأكاديميين المجتمعين معهم في المكان نفسه، بما يمنحهم الفرصة للحوار والتواصل من خلال عقد اللقاءات الجانبية واستخدام شبكة الإنترنت.

ولا يخلو المؤتمر من مناقشة الأمور السياسية أيضا، إذ شهدت السنوات الأخيرة، لاسيما في أوقات التوتر السياسي، تناولا لعدد من القضايا السياسية الملحة والحساسة، حيث أتاح منتدي دافوس فرصة للخصوم السياسيين للاجتماع في جو خاص بعيدا عن المراقبين، وبصورة مكنتهم في بعض الحالات من تهيئة الأرضية لتحقيق السلام.

وبالعودة لمؤتمر هذا العام، فقد عقد مؤتمر دافوس الاقتصادي 2011 تحت عنوان "معايير مشتركة للواقع الجديد". إذ عني منظمو المنتدي الاقتصادي العالمي هذا العام بالتركيز علي القضايا الاقتصادية الأكثر إلحاحا، والتي جاء علي رأسها بالطبع تناول التحولات المشاهدة في موازين القوي الاقتصادية في العالم بهدف وضع أسس ومعايير مشتركة لدول العالم أجمع، لكي تبني واقعها الاقتصادي الجديد. ومن ثم، فقد ازدحم جدول أعمال المؤتمر بجلسات لدراسة التحول في ميزان القوي من الغرب إلي الشرق، ومن الشمال إلي الجنوب، فظهرت جلسات بعناوين مثل: الهند والصين هما القوتان العظميان القادمتان، فكيف سنتعامل معهما  هل من الممكن أن تصبح البرازيل مركز قوة

وقد استطاع مؤتمر العام الحالي أن يخرج من حالة التشاؤم والإحباط التي سيطرت علي مؤتمرات السنوات الثلاث الأخيرة في دافوس بسبب تناولها المستمر موضوع تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، واتهامها المستمر لرموز النظام الرأسمالي في العالم من قيادات البنوك العالمية وصناديق الإقراض بالتسبب في الكساد العالمي. فبمنظور أكثر تفاؤلا، أكد المنظمون والمشاركون في المؤتمر أنه قد آن الأوان للتطلع إلي المستقبل، والتركيز علي الانتعاش الاقتصادي بتركيز الأنظار علي النماذج الاقتصادية المضيئة علي مسرح الاقتصاد العالمي، مثل معظم الاقتصادات الآسيوية التي لم تشهد تراجعا بل شهدت مجرد تباطؤ محدود في النمو الاقتصادي.

وقد أظهر المؤتمر هذا العام حضورا قويا للصين والهند بصورة لم يعهدها المؤتمر من ذي قبل بسبب ظهورهما القوي علي ساحة الاقتصاد العالمي. وقد أجمع المشاركون علي أن القوة الاقتصادية قد انتقلت من الدول المتقدمة إلي دول آسيا، وهو الأمر الذي يزداد تأكدا ووضوحا مع تعافي الاقتصاد العالمي بوتيرة أسرع.

وللمرة الأولي منذ بداية الأزمة المالية في 2007، خيم التفاؤل علي الجلسة الافتتاحية التي تناقش حالة الاقتصاد العالمي. فقد وصف الخبير الاقتصادي العالمي المعروف، نوريل روبيني -وهو من القلائل الذين تنبأوا بالأزمة المالية العالمية والمعروف بنظرته التشاؤمية- الحالة الاقتصادية السائدة علي مسرح الاقتصاد العالمي حاليا بوضع أشبه "بنصف الكأس الممتلئ" تعبيرا عن تغير حالته من التشاؤم إلي التفاؤل بحدوث التعافي الاقتصادي. وأشار "روبيني" إلي ظهور "العلامات الأولي للنمو" في اقتصادات الأسواق الناشئة والمتقدمة.

ومن هذا المنطلق، فقد أعرب رجال الأعمال والاقتصاد المجتمعون عن ثقتهم الكبيرة في اتجاه الاقتصاد العالمي نحو الانتعاش خلال عام 1102. حيث شهدت الجلسة الافتتاحية للمنتدي توقع الخبراء ظهور ذلك الانتعاش في عدة دول، إذ تسجل الأسواق الناشئة مثل الصين والهند والبرازيل أسرع معدلات نمو اقتصادي، ومن المتوقع أن تسجل الولايات المتحدة وألمانيا نموا قويا.

غير أن هؤلاء المهتمين برصد أداء الاقتصاد العالمي، ومن بينهم بالطبع "نوريل روبيني"، لم يفتهم التحذير مما سموه بالسلبيات المحتملة التي تواجه الاقتصاد العالمي. فأكد روبيني أن التراجع الاقتصادي في بريطانيا والمشكلات التي تواجهها بعض الدول الأعضاء في اليورو تؤكد أن الأزمة لم تنته بعد. كما أن عملية تسديد الديون، في القطاعين العام والخاص، لا تزال مستمرة. غير أن التهديد الأكبر، كما اتفق الخبراء، يبدو واضحا في افتقار دول العالم إلي التعاون فيما بينها بشأن اللوائح المنظمة لأسواق المال والعملات والتجارة. ويقول الخبراء إن تنامي التفاوت في توزيع الدخول بين دول العالم قد يدفع بعض الحكومات إلي فرض المزيد من القيود علي حرية التجارة العالمية، وهو الأمر الذي سيكون له تأثير كارثي في دول العالم أجمع ومن ثم أداء الاقتصاد العالمي. وحذر الخبراء من أن الاسواق الناشئة ليست بمأمن من تلك المخاطر، فهذه الأسواق وإن كانت تقود قاطرة النمو الاقتصادي، فإنها مهددة بارتفاع معدلات التضخم والإغراق وحدوث ظاهرة فقاعات الأصول (أي تنامي أسعار الأصول بصورة غير مبررة ولا تعكس قيمتها الحقيقية)، لاسيما في أسواق العقارات. ومن هنا، نصل إلي ما لخصه الخبراء الاقتصاديون من تحذيرات لدول العالم أجمع بخصوص ارتفاع معدلات التضخم، وتنامي الإجراءات الحمائية المقيدة لحرية التجارة، إلي جانب الديون العامة والخاصة من كونها المخاطر المحتملة التي قد تعوق النمو الاقتصادي.

كما لفت الخبراء الأنظار أيضا إلي العواقب الوخيمة الناجمة عن الإعلام الاجتماعي وتأثيره السلبي المتحيز في السياسة العامة لدول العالم. هذا بالإضافة إلي المخاطر الناجمة عن العولمة والتغيرات التكنولوجية السريعة وحروب العملات، والتي توجب توخي الحذر، حيث إنها برزت علي السطح كقضايا اقتصادية ملحة يعكسها الواقع الجديد، ويملي علي دول العالم التعاون للتصدي لها.

كما ألقت الأزمة الاقتصادية التي تعصف بمنطقة اليورو بظلالها علي المؤتمر ولهجة الحوار السائدة فيه، وهو الأمر الذي اتضح جليا في كلمة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، والتي أوضح فيها تصميمه علي ضرورة إنقاذ اليورو، كلما احتاجت هذه العملة الأوروبية المشتركة للإسعاف. كما أعلن ساركوزي عن نيته وضع آليات ضبط للنظام النقدي الدولي، ولأسواق المواد الأولية خلال ترؤس بلاده لمجموعة العشرين. كما شدد الرئيس الفرنسي أيضا علي أهمية تبني فكرة إقرار ضريبة علي التعاملات المالية لتمويل مساعدات التنمية، مقترحا أن تبادر مجموعة من الدول الكبري بتطبيقها لإعطاء المثال للآخرين.

أزمة الديون الأوروبية:

ومن ناحية أخري، خيمت أزمة الديون الأوروبية علي النقاشات في المنتدي، حيث تبادل المشاركون وجهات النظر حول كيفية الخروج من هذا المأزق. إلا أن المناقشات أظهرت اختلافا في أوجه النظر بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية. وقد تبنت الدول الأوروبية التيتعاني أزمة المديونية، وفي مقدمتها بريطانيا، الاتجاه المنادي بقبول السياسات التقشفية، مهما تكن صعوبتها بغرض تقليص عجز الموازنات وتحقيق التعافي الاقتصادي لمنطقة اليورو. وقد اتضح ذلك جليا في كلمة ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني والتي جاء فيها: "لقد أنقذنا أنفسنا من دائرة الخطر هذه باعتماد برنامجنا الطموح، والذي يمتد علي مدي عدة سنوات. فحينما يكون لديك عجز بنسبة 10%، لا يمكنك أن تسده بلمسة سحرية. لكنني واثق بأننا إذا التزمنا بهذا البرنامج وأنجزنا وعودنا، فإن الاقتصاد البريطاني والاقتصاد الأوروبي، مثلما أوضحت في خطابي، سيتعافيان". وعلي الجانب الآخر، أكد وزير الخزانة الأمريكي "تيموتي جايتنر" خلال المنتدي أن البديهيات المتعارف عليها عالميا لتحقيق النمو الاقتصادي تعتمد علي ما ينتجه نظام التعليم من عقليات وأفكار وابتكارات، وهو ما لن يتوافر للاقتصاد المعني إلا من خلال توسع الحكومة في الاستثمارات العامة في التعليم والبحث العلمي، لأن قوي السوق بمفردها لن تنتج بشكل آلي المستوي المطلوب من الاستثمارات في مجالات العلوم والبحوث الأساسية. وقد عكست كلمة وزير الخزانة الأمريكي الاعتقاد السائد لدي الولايات المتحدة الأمريكية وساستها بأن سياسات التقشف وضغط الإنفاق الحكومي تعد بمثابة عائق أمام النمو الاقتصادي المستدام، وأن الاستثمار العام هو المحرك الناجع لقاطرة الاقتصاد وروح الإبداع. ويعزز من هذا الاعتقاد الأمريكي حالة الانقسام التي تفرض نفسها علي الدول الأوروبية نفسها حيال اعتبار سياسات التقشف وضغط الإنفاق العام بمثابة الطريق الأمثل لتحقيق التعافي الاقتصادي الذي تنشده دول منطقة اليورو.

كما ظهر اهتمام المجتمعين في المؤتمر بمتابعة تطورات الوضع السياسي المشتعل في مصر، حيث تزامن اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر مع بدء فعاليات المؤتمر. فدعا رئيس الوزراء الياباني "ناوتو كان" الرئيس المصري مبارك إلي بدء الحوار مع الفرقاء السياسيين ومع شعبه والبدء بالإصلاحات السياسية التي تطالب بها الثورة المصرية، وهو ما قد يعيد الاستقرار والسلام إلي مصر. أما رئيس الوزراء الدانماركي "لارس لوك راسموسن"، فقد أعلن أن الوضع في مصر يكتسب أهمية قصوي، ويجب أن تتضافر جهود دول العالم من أجل التأهب للمساعدة علي استقرار الوضع في مصر.

وقد اهتم المجتمعون في مؤتمر دافوس 2011 بوضع أولويات للساسة الاقتصاديين لعلاج المشكلات الاقتصادية الراهنة. وقد تجلي ذلك في دعوتهم لأن تصبح مشكلة البطالة، لاسيما بطالة الشباب ومن استمروا لمدة طويلة في حالة بطالة، صاحبة الأولوية الأولي للعلاج، تلتها مشكلة الانفجار السكاني، ثم مشكلة الآثار الجانبية للنمو الهائل للتكنولوجيا، ثم دراسة الدور الذي يجب أن تلعبه دول مجموعة العشرين.

الملاحظ أن هؤلاء الخبراء والساسة العالميين قد فاتهم إلقاء الضوء علي وجوب الدراسة العميقة للمشكلة المزمنة التي تعانيها سائر أسواق المال العالمية، والتي يعزي إليها السبب الرئيسي في حدوث الأزمة المالية العالمية العميقة التي دهمت دول العالم أجمع خلال عام 8002. تلك المشكلة هي حالة الانفصال الواضحة بين الاقتصاد المالي والاقتصاد العيني الحقيقي، والتي نجمت عن التوسع الضخم في ابتكارات المشتقات المالية.

فالمشاهد الآن أن أسواق المال العالمية قد انفصلت عن السوق الحقيقية للسلع والخدمات، إذ صارت التعاملات المالية تتم لذاتها ببيع وشراء النقود مقابل النقود، لا مقابل سلع وخدمات وموجودات حقيقية، وباستخدام أساليب المداينات والائتمان. وأدي ذلك إلي أن أصبح حجم أسواق المال أضعاف أضعاف قيمة أسواق الاقتصاد الحقيقي العالمية، مما أدي إلي هذا الخلل المشاهد في التوازن بينهما، وبحيث وصلت قيمة أسواق المال إلي 66 ضعف قيمة أسواق السلع الحقيقية.

وقد يتصور البعض أن حالة الانفصال تلك بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد المالي ستجعل آثار الأزمة المالية الحالية لا تطول الاقتصاد الحقيقي، وليس أبعد عن الصحة. فالانهيار المالي للبنوك والمؤسسات المالية العالمية الكبري الذي شاهدناه إبان الأزمة دفع المؤسسات المالية الأخري العاملة بالسوق بالفعل إلي تقليص دورها في تمويل الشركات الإنتاجية، بما يجعلها تقلص إنتاجها وتطرد بعضا من عمالها. وهو الأمر الذي شاهدناه بالفعل خلال الأزمة المالية العالمية، حيث فقد نصف مليون أمريكي وظائفهم خلال شهر نوفمبر 2008 فقط بسبب تسريحهم من أعمالهم من جراء عمليات خفض النفقات التي تمارسها كبري الشركات هناك، والصعوبات الضخمة التي تواجه صناعات عديدة هناك مثل صناعة السيارات.وهو الأمر الذي يؤكد ضرورة علاج هذا الانفصال بين أسواق المال والأسواق الحقيقية، إذا ما أرادت دول العالم التصدي لمشكلة البطالة وعلاجها علاجا جذريا.


رابط دائم: