أربيل – برشلونة.. غياب وحضور الدولة القوية
5-10-2017

محمود بسيوني
* كاتب مصري، مدير تحرير موقع مبتدا
قد تكون الديمقراطية حل في معظم الأحيان ، لكنها قد تبدوا نقمة في احيان اخرى ، قد تتحمل الدولة القوية الآثار الجانبية للديمقراطية ، وقد تتمكن بمؤسساتها الراسخة من عبور النفق المظلم، ولكن الديمقراطية في الأغلب تدهس الدول الضعيفة إذا ما كان الاختيار الديمقراطي مبني على أهواء جماعة أو فصيل . 
شاهدنا ذلك بوضوح في تجربتي استفتاء إنفصال كردستان عن العراق والذي أقيم في أربيل، و استفتاء انفصال إقليم كتالونيا عن إسبانيا والذي تم قمعه بالقوة في مدينة برشلونة ، في الأول وقفت الدولة العراقية المنهارة تتفرج على إجراء الاستفتاء المدعوم من إسرائيل وتطلق التهديدات الجوفاء وهي تعلم جيدا أنها لن تتمكن من تنفيذها، بينما قامت اسبانيا بقمع استفتاء كتالونيا بالقوة الغاشمة امام اعين العالم كله وهى مطمئنة الى ان احد لن يراجعها .
ليس كل الديمقراطية خيراً للناس ، وأوروبا تحديدا كانت خياراتها الديمقراطية الأخيرة كارثية على دولهم ، بريطانيا خرجت من الاتحاد الأوروبي بتحرك ديمقراطي تسبب في خسارتها لمليارات الدولارات فضلا عن فقدانها لنفوذها الأوروبي ، في فرنسا جاء اختيار ايمانويل ماكرون رئيساً مخيباً لآمال الفرنسيين والدليل على ذلك الانخفاض العنيف فى شعبيته بعد شهور قليلة من حكمه ، واخيرا انفصال كتالونيا الذي قد يقسم ظهر إسبانيا وكتالونيا أيضاً ، فماذا يفعل إقليم صغير وسط البلدان الكبرى ، سيكون بلا قوة أو تأثير وسيدفع أثماناً غالية من ثروته للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ، فضلا عن صعوبة القبول به عالميًا ًكدولة مستقلة جديدة ..إذا دققت النظر سترى ان الشعوب خضعت لإرادة مجموعة من السياسيين الذين أقنعوهم أن أسوأ الاختيارات فيها مصلحتهم .
كما لا تستغرب من استخدام القوة بعنف قد تصل إلى حد الهمجية ، فالرمز السياسي الأوروبي ونستون تشرشل أمر من قبل بحرق مبنى تحصن به محتجين بأحد ضواحي لندن وقتما كان وزيرا للداخلية عام 1910، وهو ما عرف بأعمال شغب "تونى باندى" ، فحينما زادت أعمال الشغب والتظاهر أمر بالاشتباك العنيف مع المتظاهرين وكان حاضرا بنفسه، وعندما تصاعدت حدة الاشتباكات أمر بحرق المباني التي تحصن بها المحتجين، ومنع عربات الإطفاء من بلوغها حتى احترق كل من بداخلها حتى الموت .    
استخدام القوة موجود في أعظم الديمقراطيات وتمت تجربته لكبح جماح التعصب لفكرة حمقاء قد تؤدى إلى تهديد وحدة الدولة الواحدة، والدول القوية يمكنها ممارسة ذلك بشرط أن تكون ممتلكة لزمام أمورها وقادرة على الدفاع عن أمنها، أما الدول الضعيفة المهشمة فلن تتمكن من حماية أمنها ووحدتها وبالتبعية مواطنيها . 
يتشابه الأكراد والكتالونيون فى أن كلاهما يتعالى على باقي مواطني دولته، فأكراد العراق يرون أنفسهم أغنى وأرقى من العراقيين، وأيضا سكان كتالونيا يسكنون أغنى أقاليم إسبانيا، ويعتبرون أنفسهم أرقى من باقى الأسبان. ويتشابه ذلك التعالي مع الغطرسة الإسرائيلية المعروفة،  و التى تعتبر  سكان اسرائيل هم شعب الله المختار، وهي نظرية عنصرية فى أساسها وتتناقض مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ذاتها .
تأتى قرارات الإنفصال لقيطة سياسيًا، فهي لا تستند على قواعد الشرعية الدولية، ولا تطبق موادًا دستورية أو قانونية مستقرة في بلادها، وتنفذ فكرة ضالة في عقول ارتبطت بنسق ثقافي ومعرفي حذف الآخر من قاموسه، ومجد فى الإنفصال ولعن الوحدة .
تحرك الاقليات طلبا للانفصال قد تغذيه أحقادًا إقليمية وصراعات تنافسية بين دول كثيرة حول العالم، وقد يستخدم ذلك السلاح كثيرًا فى الفترة المقبلة، فأي فصيل تجمعه روابط عرقية قد يفكر فى تقليد ما حدث فى العراق وإسبانيا، وقد يتخذ من الديمقراطية ذريعة لتحقيق مصالح لدول أخرى، قد تغرى سياسيين ونشطاء بالانفصال عن الدولة الأم، وحتما تساندها قوى وجماعات فوضوية وحقوقية لا تأخذ بعين الإعتبار ضرورات الدول فى بقاء واستمرار وحده ترابها الوطني.  
ما حدث فى العراق واسبانيا مؤشر خطر على استغلال فكرة الديمقراطية في تقسيم الدول المستقرة، وإثارة نزاعات وأحقاد أبناء الوطن الواحد، ويفرض على المجتمع الدولي قراءة أخرى أو تعريف آخر لفكرة الديمقراطية، وضرورات الوحدة وحماية الأمن القومي، لما في طيات ما حدث من تهديد صريح وواضح للدول والشعوب، وتحضير لمواجهات كبرى قد تقع على نطاق واسع وتهدد الأمن وتعرض السلم العالمي للخطر. 
 

رابط دائم: