زلزال أكتوبر .. والمارد الذى ظهر
4-10-2017

جميل عفيفي
* مدير تحرير جريدة الأهرام
إن السلام الذي تريده إسرائيل قد تحقق بعد حرب 67 ، ونحن نسعى لإيجاد سلام بيننا وبين العرب بطريقة غير رسمية , ولسنا بحاجة إلى السلام الرسمي، لأنه سيضر بالحالة التي تحرص عليها إسرائيل , وهي تثبيت الواقع الذي فرضته حرب 67, تثبيتا يدخل في صيغة سلام غير رسمي .
هذه مقولة موشي ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، إلى جولدمان، رئيس المؤتمر اليهودي , بعد حرب 67 ، فقد تصور أن الوضع سيظل على ما هو عليه بعد الحرب , وأن مصر أمامها جيلان حتى تستطيع أن تعيد بناء جيشها لخوض صراع مسلح مرة أخرى لاستعادة أرضها التي احتلت . وأخذ الغرور يتسرب إلى الإسرائيليين , معتقدين أنهم أصحاب جيش لا يقهر , وهم قادرون على تدمير أي دولة في منطقة الشرق الأوسط تحاول أن تقف أمام دولتهم .
 
بعد هذه الحرب الخاطفة، شعر الشارع المصري بإحباط شديد نتيجة لما حدث بها , فلم يكن يتوقع للحظة أن إسرائيل تستطيع أن تتغلب على مصر , وتحتل سيناء , وتلحق بنا هذه النتائج , ولكن هذا الإحباط لم يتسرب إلى قواتنا المسلحة . فمنذ تلك اللحظة، زادت العزيمة، وأحس رجال قواتنا المسلحة البواسل بالمسئولية الملقاة على عاتقهم من أجل إعادة بناء قواتنا المسلحة لاسترداد الأرض والكرامة، وأن يثبت هؤلاء الرجال أنهم خير أجناد الأرض , وقادرون على تحقيق نصر غال على إسرائيل، وتلقينها درسا لن تنساه في فنون الحرب والقتال , فكانت الروح المعنوية العالية التي تولدت، والتدريب المستمر من أجل تحقيق النصر العظيم في حرب أكتوبر المجيدة .
 
أسباب حرب 67 :
حتى الآن، ورغم مرور 34 عاما على حرب يونيو 67، لا تزال هذه الحرب تخفي الكثير من أسرارها , ولا يزال الصمت العربي يخفي الكثير أيضا , ويعطي لإسرائيل فرصة ذهبية لتقديم هذه الحرب كأفضل ما يكون لها , وأسوأ ما يكون للعرب. وقد أسهم أيضا هذا الصمت في أن تكون النسخة الإسرائيلية للحرب هذه النسخة الوحيدة التي يعرفها العالم .
وقد تركت هذه الحرب ذكرى مؤلمة في نفوس المصريين , بالرغم من أن القوات المسلحة لم تكن مسئولة عن هزيمة 67, بل ضحية لها . وحدث ذلك نتيجة أخطاء سياسية وعسكرية وضعت القوات المسلحة في ظروف صعبة لا يمكن التغلب عليها. فمنذ منتصف مايو 67, تطور الموقف السياسي بسرعة مذهلة , فقد تم رفع درجة الاستعداد .
وإذا عدنا للخلف لنتعرف على أسباب هذه الحرب، فمع مطلع عام 67 ، بدأت سحب التصادم في منطقة الشرق الأوسط تتجمع , وتطورت الأحداث بسرعة ترفع أمامها احتمالات الصدام المسلح في هذه المنطقة . فالأهداف للولايات المتحدة وإسرائيل, واحدة، وهي القضاء على زعامة مصر في المنطقة، وإحباط دورها كدولة محورية .
وكانت المنطقة تعاني صراعات داخلية بين الدول العربية , وتم توقيع ميثاق للدفاع المشترك بين مصر وسوريا , بالإضافة إلى أن إسرائيل كان بداخلها مشكلات عديدة , منها البطالة، وهبوط معدل الاستثمار، وارتفاع نسبة المهاجرين .
وبناء على ذلك، أسرعت حكومة إسرائيل بالبحث عن حدث سياسي وعسكري كبير لتحويل انتباه الشعب الإسرائيلي إليها , وكان هذا الحدث هو حربها ضد العرب. وكانت الذريعة لذلك تصاعد أعمال الفدائيين، وقيام سوريا بإطلاق مدافعها على إسرائيل، التى بدأت في حشد قواتها على الحدود السورية , وكانت تقدر بـ 15 لواء. كما قامت إسرائيل بالاشتباك بالنيران على الحدود السورية، وتدخل فيها الطيران السوري والإسرائيلي في يوم 7 أبريل 67 ، واستمرت إسرائيل في تصعيد الموقف , وكرر قادتها تهديداتهم .
وفي شهر مايو 67 ، أسرعت القيادة السياسية المصرية باتخاذ عدة قرارات غاية في الأهمية والخطورة , منها إعلان حالة الطوارئ، ورفع درجة استعداد القوات المسلحة، وإعلان التعبئة العامة , كما طلبت مصر بسحب قوات الطوارئ الدولية من نقاط الحدود، وتجميعها في قطاع غزة , وكان من نتيجة ذلك إخلاء منطقة شرم الشيخ .
 وبدأت مصر في حشد قواتها في سيناء بهدف معاونة سوريا في حالة أي اعتداء عليها , وذلك طبقا لمعاهدة الدفاع المشترك . وفي 3 مايو 67 ، أعلنت مصر رسميا عدم سماحها بمرور السفن الإسرائيلية، أو السفن التابعة لدول أخرى، التي تحمل مواد استراتيجية لإسرائيل , وعدّت إسرائيل القرار تهديدا لأمنها القومي .
وبدأ التنسيق على أعلى مستوى بين الولايات المتحدة وإسرائيل لتضمن الأخيرة تأييدها , وكان الاستعداد على قدم وساق داخل القيادة الإسرائيلية لضمان نجاح الخطة الهجومية . وبالفعل، حققت إسرائيل ما كانت تطمح إليه خلال حرب 67, وهكذا ابتلعت مصر الطعم من خلال مؤامرة خططت جيدا، واستدرجتها للحرب , وإلحاق الهزيمة بها .
وقد تسببت تلك الهزيمة المفاجئة فى فقدان الصديق قبل العدو الثقة بأن مصر ستقاتل , وأن أمامها عشرات السنين من أجل إعادة تنظيم جيشها مرة أخرى , ولكن كان للإرادة والعزيمة داخل القوات المسلحة المصرية رأي آخر. وأخذت مصر منذ اللحظة الأولى لانتهاء الحرب في الإعداد الفوري لخوض معركة أخرى، يكون النصر حليفها , وكان من الطبيعي والحتمي أن تبدأ في رفع الروح المعنوية , والعمل على البناء النفسي والمعنوي للمقاتلين , ودعم الإيمان بالله وبحقه وقضيته .
وعلى الفور، بدأت مراحل تعويض القوات المسلحة ما فقدته من أسلحة ومعدات عسكرية , وتم ذلك في فترة زمنية قصيرة عقب انتهاء الحرب . وفي الوقت نفسه، بدأت عملية بناء الخطوط الدفاعية غرب القناة , حيث تمت إعادة تنظيم القوات، ووضع خطة تأمين عاجلة , وتم توزيع القوات لتحتل الخط الدفاعي الأول .
 
وعلى الرغم من أن هذه الفترة كانت السمة الغالبة عليها إعداد الدفاعات وسرعة احتلالها , فإنه حدثت خلالها بعض الأعمال العسكرية البارزة والإيجابية , والتي رفعت من معنويات القوات المسلحة , وأكسبتها الثقة في نفسها مرة أخرى. ففي الساعات الأولى من صباح أول يوليو، تقدمت قوة مدرعة إسرائيلية على امتداد الضفة الشرقية لقناة السويس من مدينة القنطرة شرق في اتجاه الشمال بغرض الوصول إلى بور فؤاد . وكانت القوة المصرية المتيسرة التي كلفت بالتصدي للقوة المدرعة الإسرائيلية فصيلة من وحدات الصاعقة، مزودة بالأسلحة الخفيفة، والقذائف المضادة للدبابات، حيث اشتبكت معها , وألحقت بها خسائر فادحة من القوات والمعدات , وأجبرتها على التراجع جنوبا , وفشلت القوات الإسرائيلية في احتلال بور فؤاد .
وفي يومي 14 و 15 يوليو 67 ، قامت مجموعة من الطائرات المصرية بشن عدة هجمات مركزة وخاطفة ضد القوات الإسرائيلية المدرعة والميكانيكية على الضفة الشرقية للقناة . وكانت تلك الهجمات الجوية مفاجأة للإسرائيليين , وفي الوقت نفسه كانت إضافة جديدة لرفع الروح المعنوية للقوات المصرية. ثم جاء يوم 21 أكتوبر من عام 67, حيث استطاع أحد لنشات الصواريخ المصرية إطلاق صاروخين على المدمرة الإسرائيلية إيلات , وإغراقها، مما غير من المفاهيم البحرية العالمية , وأثبت أن القوات المسلحة لن يهدأ لها بال إلا بعد أن تحقق النصر وتستعيد الأرض مرة أخرى .
 ثم جاءت المرحلة الثانية من مراحل التخطيط داخل القوات المسلحة , وهي الدفاع النشيط، وهدفها تقييد حرية القوات الإسرائيلية في التحرك العسكري , والمناورة والاستطلاع، وتكبيدها أكبر خسائر في الأفراد والمعدات . ومن أهم الأهداف أيضا عدم السماح لإسرائيل بتحويل خطوط المواجهة إلى خطوط دائمة تقوم بتحصينها، وحشد القوات فيها، وتثبيت أقدامها .
ومن الوسائل التي استخدمتها القيادة المصرية، في ذلك الوقت , هي النيران المكثفة للمدفعيات والهاونات بجميع أعيرتها لضرب الأهداف الإسرائيلية ضربا غير مباشر , واستخدام المدفعية المضادة للدبابات , ومدافع الضرب المباشر على الأهداف المرئية علي الخط الدفاعي الأمامي . وكان من الضروري أيضا، خلال تلك المرحلة، القيام ببعض الأعمال التعرضية المحدودة في شكل قناصة وكمائن عمل على الضفة الشرقية للقناة .
 
حرب الاستنزاف:
ثم جاءت حرب الاستنزاف. ففي يوم 8 مارس 69 ، بدأت القوات المصرية في تنفيذ خطة أعمال عسكرية مكثفة , حيث استخدمت النيران المركزة والثقيلة للمدفعية ضد تحصينات خط بارليف , وصاحب ذلك تنفيذ العديد من الغارات البرية والعمليات الخاصة بواسطة قوات الصاعقة , حيث كانت تقوم تلك العناصر بعبور قناة السويس ليلا , ثم طورتها لتتم نهارا، وتهاجم النقاط القوية , والتحصينات والدوريات , والأهداف العسكرية، وتدمرها، ثم تعود للضفة الغربية . وبلغت هذه العمليات قوتها في يوم 10 يوليو 69, حيث قامت قوة مصرية في وضح النهار, باقتحام موقع إسرائيلي حصين في لسان بور توفيق , ودمرته , وألحقت بالإسرائيليين خسائر فادحة في الأرواح والمعدات .
وواصلت القوات المسلحة المصرية استراتيجيتها طويلة الأمد , واستمرت القوات الجوية المصرية في شن غاراتها ضد الأهداف الإسرائيلية شرق القناة . كما قامت القوات البحرية بضرب أهداف برية من البحر في رمانة وبالوظة , وقامت قوات الضفادع البشرية المصرية بتدمير ميناء إيلات، وإغراق السفن العسكرية به .
 
ومع بداية عام 70 ، بدأت القوات المسلحة المصرية في بناء شبكة ضخمة لصواريخ الدفاع الجوي , وذلك لمواجهة الطيران الإسرائيلي الذي يُغير على المدن المصرية . ومع أواخر يونيو 70 ، نجحت مصر، بعد تضحيات كثيرة، في إقامة وبناء قواعد للصواريخ الدفاع الجوي في جبهة القناة ، رغم كل ما بذلته إسرائيل لمنع إقامة هذا الحائط . ومع استكمال البناء، بدأ سقوط الطائرات الإسرائيلية في التزايد في شهر يونيو 1970 ، وفوجئت القيادة الإسرائيلية، في الأسبوع الأول من شهر يوليو , عندما قامت طائرات الفانتوم بمحاولة توجيه ضربات ضد مواقع مصرية , بتساقط هذه الطائرات بسبب الصواريخ المصرية , وسمي هذا الأسبوع أسبوع تساقط الفانتوم .
وقد تمكنت القوات المصرية، بعد تركيز هائل للإمكانات والجهود، وبالروح العالية والتضحيات، من استكمال نظام دفاعها , وإقامة شبكة قواعد الصواريخ , وتم احتلال الخط الأمامي لحائط الصواريخ غرب قناة السويس قبل الواحدة من صباح يوم 8 أغسطس 70 ، وهو اليوم الذي كان محددا لوقف إطلاق النار، طبقا للمبادرة الأمريكية .
 
حرب أكتوبر المجيدة:
ومع وقف إطلاق النار، بدأت القيادة المصرية في الإعداد الجيد والمثالي لخوض معركة الشرف والكرامة، وأخذت في عمل الدراسات والأبحاث . وكان العمل داخل قواتنا المسلحة يتم على قدم وساق , وتم وضع دراسة كاملة لتوقيتات المعركة , وأنسب وقت لها , ووضعت خطة خداع استراتيجي لإبعاد أنظار الإسرائيليين عن الحرب، حتى اطمأن الجميع إلى أن مصر لن تقوى على خوض معركة جديدة , وأنها لن تستطيع عبور قناة السويس , وتحطيم خط بارليف المنيع , حيث كان يفتخر به الإسرائيليون، ويؤكدون دوما أنه لا يمكن تحطيمه، حتى ولو بقنبلة ذرية .
وجاء يوم السادس من أكتوبر كالصاعقة على رءوس الإسرائيليين وقادتهم، وكان كالزلزال الذي هز إسرائيل كثيرا , حيث انطلقت الطائرات المصرية في عمق سيناء لتدمر المواقع الاستراتيجية بها , وفتحت أبواب النصر العظيم أمام القوات المصرية في عبور قناة السويس , وتحطيم خط بارليف المنيع لتسترد مصر أرضها وكرامتها , وتلقن الإسرائيليين درسا لن ينسوه، وتهدم نظريتهم في الأمن , وتقطع ذراعهم الطولى , ولتكون حرب 67 هي بداية النهاية لهذه القوة الإسرائيلية . كما أعطت القوات المسلحة المصرية دروسا في الروح المعنوية العالية التي استطاعت، خلال ست سنوات فقط، أن تعيد بناءها , وتثبت أن هزيمة 67 لا تتحملها هذه القوات العظيمة .
 

رابط دائم: