قراءة في الإبداع الفكري لنصر أكتوبر
1-10-2017

جميل عفيفي
* مدير تحرير جريدة الأهرام
حققت حرب أكتوبر المجيدة، علي المستويين الوطني والقومي، لمصر وللأمة العربية كل أسباب العزة، والكرامة، والثقة في قدراتها وقواتها وطاقاتها، التي تجددت من خلال الأداء البطولي العظيم الذي اتسم بالإبداع الفكري، وروعة الأداء لقواتنا المسلحة، التي تصدت لسياسة الصلف والغرور بالقوة، التي سادت العقلية الإسرائيلية لعدة سنوات. فلقد أثبتت الحرب قدرة الشعب المصري وقواته المسلحة علي التخطيط وإدارة وتنفيذ هذا العمل البطولي بكل كفاءة وإبداع. فلم تكن حرب أكتوبر مجرد معركة عسكرية خاضتها البلاد، وحققت فيها أكبر انتصارات، وإنما كانت اختبارا تاريخيا حاسما لقدرة الشعب علي أن يترجم الأمل المنشود إلي عمل مبدع، والتخلص من شبه التبعية والنمطية، وتجنب الروتين العادي، والإعداد الجيد للمعركة والتفكير الجديد الذي دخلت به مصر المعركة، وحققت نصرها.
لقد بدأت الدولة الإعداد للجولة الرابعة للصراع المصري - الإسرائيلي بمجرد انتهاء حرب 67، نتيجة اليقين بأن هناك لقاء آخر، يلزمه الإعداد الجيد والمكثف في كل أجهزة الدولة، ولذا تم عقد الدراسات المستفيضة لتحليل أوجه القصور، والخروج بالدروس المستفادة. وكانت الفترة بين 67و73 قاسية، لكنها كانت البوتقة الحقيقية لكثير من التجارب، ولإرساء قواعد الإبداع الفكري للإنسان المصري.
وكان لابد للمفكر العسكري المصري أن يتخلص من الفكر التقليدي، والروتيني، والنمطي لكي ينطلق بقدراته الكامنة القادرة علي الإبداع الفكري، وتوفير ضمانات النجاح لمعركة لا يقبل فيها احتمال الفشل. وقد روعي في ذلك التحرر من النمطية، وعدم الاعتماد علي النظريات القديمة، والأساليب الكلاسيكية، والتنمية الشاملة للبحث العلمي، والاستفادة من الخبرات العسكرية الذاتية، والدروس المستفادة من الحروب، وتحليل مركز الثقل لدي العدو، ونقاط القوة لديه. وتم تحديد جميع المشكلات، وهي إعداد الدولة للحرب، ودراسة القوة وضعف العدو، ورفع كفاءة الأسلحة والمعدات للقوات المسلحة لتطوير أسلوبها لتحقيق التفوق علي الأسلحة الإسرائيلية، وحل المشكلات الفنية التي من المنتظر أن تقابلها قواتنا في أثناء العبور، ودراسة أفضل توقيت لبدء المعركة، وكيفية تحقيق المفاجأة الاستراتيجية. أما أخطر التحديات التي واجهت القيادة، فهي إعداد المقاتل المصري للمعركة، وكيفية إعادة الثقة بالنفس، وفي السلاح، وفي قيادته، وكيفية إزالة ما بقي من آثار سلبية لهزيمة .67
ونظرا لأن القيادات العسكرية التي تولت الإعداد للحرب كانت علي درجة عالية من الكفاءة من الفكر الإبداعي، فقد قاموا بحل المشكلات التي تعترض التخطيط الاستراتيجي لاستخدام القوات في إطار عملية هجومية استراتيجية، تتوافر في أركانها كل المبادئ الأساسية للحرب في إطار عام للخداع، مستخدمين كل آليات وطرق التفكير الإبداعي.
إعداد الدولة للحرب:
من أولي المشكلات إعداد الدولة للحرب. وللأسف، لم يكن يؤخذ في الحسبان قبل عام 67 مفهوم إعداد الدولة للحرب،  وكان من الأسباب الرئيسية للهزيمة، ولأن النصر علي العدو لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال قوة الدولة التي تتوقف علي كفاءة، ومقدرة، واستعداد القوات المسلحة، يساندها القطاع المدني، بإمكاناته، وموارده الاقتصادية، والمادية، والبشرية.
وقد سار إعداد الدولة للحرب في عدة اتجاهات رئيسية في آن واحد. فبينما كان إعداد القوات المسلحة وتطويرها، كان الاقتصاد المصري تتم تهيئته للحرب في مجالاته المختلفة. كما تم التركيز علي إعداد الشعب للحرب في مختلف المجالات، ثم إعداد أراضي الدولة كمسرح للعمليات من إنشاء المطارات، ووسائل النقل، وحماية الأهداف الحيوية، وإنشاء المعسكرات. وهناك مجال آخر يخدم الأهداف السابقة، هو السياسة الخارجية بما يتلاءم مع أهداف الحرب.
تجميع وتحليل المعلومات:
منذ نشوب حرب 48 وحتي 67، سادت مسلمات ثقافية لدي الشارع المصري، وهي الاستخفاف بالعدو. ولعب الإعلام المصري دورا كبيرا، في ذلك، وجاءت 67 وأثبتت عكس ذلك. ولعل أبرز الدروس ذات التأثير الاستراتيجي الكبير، سواء في إعداد القوات للحرب، أو التخطيط لها، هو ما أفرزته 67، وأكدته حرب الاستنزاف من أهمية أساسية للمعلومات والدراسات التفصيلية للكشف عن استراتيجية العدو، وتكتيكاته، وأساليب تخطيطه، ومكونات النظريات الأساسية للأمن الإسرائيلي.
وكان هدف إسقاط هذه النظرية هو حجر الزاوية الذي بنيت عليه المهام الاستراتيجية لحرب أكتوبر، ولذا قامت مصر بدراسة عدوها دراسة وافية لم تشمل قدراته العسكرية وحدها، أو عقيدته واستراتيجيته فقط، بل امتدت إلي كل أنشطة الدولة، وكل جوانب حياة المجتمع الإسرائيلي.
تطوير السلاح واستخداماته:
من أكبر المشكلات التي واجهت المخطط العسكري رفع كفاءة الأسلحة والمعدات، وتطوير أسلوب استخدامها، وتم تحديد أبعاد هذه المشكلة في أن إسرائيل تتمتع بالتفوق الجوي والسيادة الجوية. كما أن إسرائيل تمتلك دبابات حديثة مقارنة بالمصرية، وتمتلك أحدث أعيرة المدفعية، ومحصنة مواقع تحد من القصف، وكذلك تعرض الوحدات البحرية المصرية لخطر الهجمات الجوية، وذلك لوقوعها في مدي عمل الطائرات الإسرائيلية.
ولكن ابتكرت العقول المصرية الحلول أمام هذه المشكلات. فبالنسبة للقوات الجوية الإسرائيلية، تم حصر عدد الطائرات الإسرائيلية وقدراتها القتالية الحديثة، ومواقع تمركزها، خاصة في سيناء، وكذلك تزويدها بقطع الغيار والخبرة الأمريكية. ومن هذه الدراسات، بدأ القادة في وضع التفكير السليم، فكان من الواجب علي قواتنا الجوية الحصول علي تفوق وقتي علي الطيران الإسرائيلي. كما وضع في الحسبان محاولة العدو شن هجمات، مثل التي قام بها في 67، ووضعت خطط لصد أي هجوم. كما تم استغلال القاذفات بشكل منظم ومرتب، وكذلك استخدمت المقاتلات القاذفة لدعم عمليات التقدم البري، كما استخدمت المدفعية والصواريخ أرض - أرض لتوجيه الضربات في العمق.
وفي مواجهة التفوق الجوي الإسرائيلي، كان لابد من حدوث تطور يتناسب معه في قوات الدفاع الجوي. وقد تم إنشاء قوات الدفاع الجوي عام 68، وتحملت العبء الأكبر في مواجهة القوات الجوية الإسرائيلية.
وقد أسهم في تخفيف العبء الفكر المصري، بحيث تتم العملية في وقت واحد مع الجبهة السورية، وأن مركز الإعاقة الإلكتروني الرئيسي في أم خشيب كان أول الأهداف لقواتنا الجوية. وأسهم ذلك في تخفيف الحرب الإلكترونية لقوات الدفاع الجوي في الأيام الأولي للقتال، وهكذا تم قطع الذراع الطويلة الإسرائيلية، وشل حركتها بالإبداع الفكري.
تدمير القبضة الحديدية:
وللتغلب علي أحد جناحي قوة الردع الإسرائيلية، القبضة الحديدية، وهي القوات المدرعة، تم استكمال أوجه النقص في بعض الأسلحة الدفاعية، ودعم القدرات الصاروخية للقوات البرية، وتم تشكيل -لأول مرة- وحدات من المدفعية الصاروخية المضادة للدبابات، ولعبت دورا جوهريا في صد وتدمير الهجمات المدرعة الإسرائيلية في سيناء.
وذكر تقرير اللجنة العسكرية في الكونجرس الأمريكي أن مصر ألغت تفوق الطيران والمدرعات الإسرائيلية باستخدام الصواريخ أرض- جو، والمقذوفات الموجهة المضادة للدبابات، وأنه لم تستخدم في الحرب أسلحة حديثة، وإنما تم استخدام الأسلحة القديمة، ولكن بطريقة جديدة وصفتها بأنها مذهلة.
ولمواجهة التفوق النوعي للمدفعية الإسرائيلية التي تتميز بطول المدي والتحصين في مواقع حصينة، فقد تم إبرار قوات صاعقة ومظلات في العمق لتشتيت العدو، وإعاقة تقدم احتياطياته، والتعامل مع مواقع المدفعية، بالإضافة إلي قوة نيران المدفعية المصرية التي سيطرت علي المعركة. وحققت السيادة النيرانية في معظم الأوقات بالرمي المباشر وغير المباشر. وجاءت السيادة من خلال إدخال أنواع جديدة من المدفعية، والصواريخ أرض- أرض التعبوية الاستراتيجية.
وتم التغلب بالفكر الإبداعي علي مشكلة تعرض القوات البحرية لهجمات جوية، فقد تم رسال لنشات مدفعية بدلا من المدمرات في الأعمال القتالية للأهداف الساحلية (وهو أمر غير مألوف)، وذلك لأن المدمرات المصرية لم يكن تسليحها يسمح بصد الهجوم الجوي للعدو، أو قذائف سطح - سطح. كما تم التغلب علي نقص المعاونة الجوية للقطع البحرية بإضافة المدافع المضادة للطائرات لتسليح الوحدات البحرية، واستغلال الليل لتنفيذ العمليات. كما تم تنفيذ عملية غلق باب المندب حتي يتم التأثير اقتصاديا في إسرائيل. وجاء ذلك نتيجة التفكير الإبداعي الذي فاجأ إسرائيل بهذا الحصار. كما قامت القوات البحرية بتفكيك بعض الوحدات البرية والمعدات الموجودة بقاعدة الإسكندرية، ونقلها بطريق البر إلي البحر الأحمر لزيادة الدعم للوحدات هناك.
ولمواجهة مشكلة المانع المائي والساتر الترابي علي الضفة الشرقية، ابتكرت العقول المصرية حلولا تبادلية، وكانت سهلة وإبداعية أظهرت قدرة الفكر المصري. فقد كان اقتحام قناة السويس إحدي المهام الخطيرة والصعبة التي واجهت القيادة العامة للقوات المسلحة، ولذا فقد أخذ نصيبا وافيا من الدراسة، والتفكير، والأبحاث، لأنه مانع فريد مختلف عن باقي الموانع المائية الأخري، وقد تم تنفيذ التخطيط جيدا بعد دراسة وافية للقناة.
وقد كان تحديد يوم الهجوم عملا علميا علي مستوي رفيع، ويعد نموذجا للدقة المتناهية والبحث الأمين. فقد تمت دراسة طول الليل للأيام، وحالة القمر، وكذلك أيام العطلات الرسمية في إسرائيل بخلاف السبت. وكان في أكتوبر ثلاثة أعياد، أهمها عيدالغفران. كما تمت دراسة المجتمع الإسرائيلي من الداخل، فقد كانت تجري انتخابات الكنيست في 28 أكتوبر. وبذا، كان من المفيد إقامة الحرب في شهر أكتوبر. وكانت قد وضعت أشهر مايو وأغسطس وسبتمبر وأكتوبر لإدارة المعركة. ولكن في النهاية، تم الاتفاق علي شهر أكتوبر يوم عيد الغفران، بجانب أن أكتوبر يتزامن مع شهر رمضان المعظم.
وفي مواجهة الإمكانات العالية لجهاز المخابرات الإسرائيلي، وقدرته علي كشف الاستعداد للهجوم، كان هناك إعداد خطة خداع ذات أبعاد سياسية، واستراتيجية، وتعبوية، تكتيكية، كما شاركت فيها جميع الوزارات المدنية المعنية، وجاءت المفاجأة بالهجوم يوم السادس من أكتوبر.
ولمواجهة أخطر التحديات، وهي الثقة بالنفس، والسلاح، والقيادات، لم تتم هذه الإجراءات بطريقة تقليدية، بل إنها تمت بمفهوم مبدع وغير نمطي، وذلك عن طريق غرس الثقة في نفوس الرجال، وقد بذل القادة مجهودا كبيرا في ذلك، وتوليد الثقة في القيادات مرة أخري التي اهتزت بعد 67، كما تم إعطاء المقاتل الثقة في سلاحه، وقدرته علي التغلب علي سلاح العدو.
من هنا، جاءت النتيجة المذهلة التي جمعت بين الفكر الإبداعي والعمل، وتحولت إلي حقائق شهدتها أرض المعركة في حرب أكتوبر المجيدة لتحقق في النهاية النصر العظيم الذي أعاد الثقة والعزة لمصر والأمة العربية.

رابط دائم: