فتنة الإعلام..إطلالة على البدايات
26-9-2017

أحمد بديوي
* كاتب وصحفي مصري
فور انتهاء صدمة 11 سبتمبر 2001، التي استهدفت مراكز الكبرياء الأمريكية اقتصاديًّا، وعسكريًّا (برجا مركز التجارة بمنهاتن، ومقر وزارة الدفاع)، طرحت واشنطن سؤالًا تقليديًّا (أجبنا عنه -مع غيرنا- آنذاك)، مفاده: "لماذا يكرهوننا؟".
السؤال الأمريكي كان موجّهًا بالأساس للشعوب العربية- الإسلامية البريئة من تهمة الكراهية. فقط، كان لها ملاحظات كثيرة على السياسات الأمريكية في المنطقة العربية، يتصدّرها الانحياز (اللامتناهي) للجانب الإسرائيلي على حساب الحقوق العربية.
أتذكر أنه قبل طرح ذلك السؤال بسنوات، تعرضنا -نحن العرب- لعملية تغرير كبرى على يد الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج بوش (الأب)، بعدما خرج منتصرًا من حرب الخليج الثانية. وليس أدلّ على ذلك النصر الأمريكي مما حققته عملية "عاصفة الصحراء"، مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
لم يترك "بوش" مجالًا للرأي العامّ العربي (من المحيط إلى الخليج) لمراجعة الجريمة التي تعرضت لها المنطقة، ممثلة في كسر متاريس البوابة الشرقية للعرب (تدمير قدرات العراق بعد تحرير الكويت)، لذا بادر، فور انقشاع دخان الحرب، بدغدغة مشاعر العرب بمؤتمر "مدريد" للسلام.
إعادة فتح ملف القضية الفلسطينية، وتسريب وعود (أقرب للأوهام) عن سلام مرتقب، كانا فرصة (من المخططين) لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. والحقيقة أن مؤتمر مدريد (عام 1991) لم يأت بجديد عما ينتظره العرب من أمنيات، لكنه كان مجرد تمهيد لجولة جديدة من التآمر عليهم.
ظلّت الملفات الرئيسية في التفاوض بين العرب وإسرائيل تراوح مكانها (لاسيما قضايا الوضع النهائي: اللاجئون، والقدس، والحدود، والأمن، والمياه، والاستيطان...). فقط، نجح المؤتمر في ترميز شخصيات بعينها، كان لها دور لاحق في المشهد العام (عمرو موسى من مصر، وحنان عشراوى من فلسطين).
الأهم أن المؤتمر رسّخ لمحورين مهمين: أحدهما سياسي، يركز على سحب المفاوض الفلسطيني لتوقيع اتفاق أوسلو مع إسرائيل. وبالأسلوب نفسه، تم توقيع اتفاق "وادي عربة" بين الأردن وإسرائيل، ضمن خطة أمريكية لـتأمين "إسرائيل" من جوارها العربي.
المحور الثاني المترتب على مؤتمر مدريد للسلام (!) يتبدى في طرح مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، عبر الثعلب الإسرائيلي العجوز، شيمون بيريز، لم يكن يرغب (كما هو معلن من جهته على الأقل) في إقامة نظام إقليمي شرق أوسطي على أساس التعاون بين إسرائيل، والعرب، بل يرسخ لما هو أخطر.
مشروع "بيريز" كان هدفه تفكيك وتفتيت المنطقة، وفق مخطط استراتيجي، دفعت المنطقة العربية ثمنه فيما بعد، من خلال حالة تشتيت شاملة (اقتصاديًّا، وسياسيًّا، وأمنيًّا) قبل جولة حاسمة (الربيع العربي) كانت تستهدف التمكين لـ"إسرائيل الكبرى"، وسط مجموعة من الممالك والدويلات الطائفية، والعرقية.
هذا المخطط الضخم، والمشبوه في الوقت نفسه، كان يحتاج لعملية دعم وإسناد، وترويج إعلامي غير مسبوق. هنا، ظهر جانب آخر من المخطط. أوكلت المهمة لمشيخة "قطر"، عبر ترميز دولة "ميكرو"، من خلال الدفع بها لصدارة المشهد، في ظروف غاية الغموض والإثارة، بدأت بانقلاب شهير.
لم يكن 27 يونيو 1995 يومًا عاديًّا في حياة القطريين. خلاله، نفّذ ولى العهد، آنذاك (حمد)، انقلابًا يتعارض مع كل القيم والأعراف، وحتى تعاليم الدين الإسلامي نفسه، الذي نصح الأبناء بالرفق بالآباء، لكنه فعلها، وأطاح بوالده (خليفة آل ثاني) في مشهد مأساوي، ظلّ الوالد يتذكره حتى الوفاة.
 راح الأمير الجديد، حينذاك، يؤدي ما يطلب منه (بطاعة عمياء). بدأت الدوحة تنفذ دورها الوظيفي على أكمل وجه، وتختصر الرسالة الإعلامية لشبكة "الجزيرة" كثيرًا من الملابسات، التي دارت تفاصيلها بين "بيوت آمنة" في واشنطن، وعواصم أوروبية. كان حمد آل ثاني خلالها القاسم المشترك.
تضخّمت شبكة "الجزيرة" وتوسّعت، وبدأت في تفجير قضايا وملفات إشكالية، تعمّق الخلافات العربية- العربية. ويخطئ من يعتقد أن الشبكة مجرد مشروع إعلامي، في ضوء إمكانات (مالية، ولوجيستية) ودعم واضح من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، على حساب شبكات إعلامية ذات شهرة واسعة عالميًّا.
في رأيي، لم يكن تراجع شبكة "CNN" الأمريكية الشهيرة مجرد مصادفة. نجح "محركو الدمى" الكبار (دول، وشركات متعددة الجنسيات) فى تمهيد الطريق للشبكة القطرية الوليدة، آنذاك، وجرى فتح ممرات آمنة لها، لنقل كفاءات فنية ومهنية من شبكات عالمية.
راحت الغالبية توقع عقودًا مع "الجزيرة"، رغم أنها لا تزال مشروعًا إعلاميًّا مجهول المستقبل. اصطفّ الكلّ، انتظارًا للأوامر. ومنذ انطلاقتها عام 1996، بدأت في قصف كل الجبهات، وفق مخطط واضح المعالم للبعض، واستسلام من أغلبية وقعت ضحية لعدم المعرفة بأبعاد ما يحدث.
عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، حدث متغير مهم، حيث شرع "محركو الدمي" في تطوير مخطط القوى الناعمة الذي يستهدف المنطقة، واستهلته واشنطن بوسائل إعلام أمريكية جديدة (تخطيطًا، وتمويلًا، وكوادر مهنية).
عرف المشهد "راديو سوا"، و"مجلة هاى"، ثم فضائية "الحرة". على النهج نفسه، سارت عواصم أوروبية، بتوظيف وسائل إعلامها الموجهة، لكن غالبيتها لم تف بالغرض المطلوب، ومن ثم لجأ هؤلاء لتمويل عشرات من المشروعات الإعلامية الجديدة، التى كان لمصر نصيب الأسد فيها.
تم ضخّ مليارات الدولارات في الدول العربية المستهدفة، مع استبدال كوادر جديدة وشابة بالأخرى القديمة، حتى تنفذ ما تؤمر به دون اعتراض أو حتى مراجعة. وبدأت حالة السيولة الضخمة التي يعرفها الجميع، ويعيشون تفاصيل مشاهدها المرعبة حتى الآن.

رابط دائم: