التمدد الإيراني والفرص الأمريكية
19-9-2017

جميل عفيفي
* مدير تحرير جريدة الأهرام
تمثل إيران خطرا حقيقيا على دول الخليج العربي، بل على المنطقة كلها، حيث  تسعى إلى فرض نفوذها بقوة، مستغلة الوضع الذى تمر به منطقة الشرق الأوسط من صراعات، وحروب أهلية، ومذهبية، لتفرض نفوذها، وتكون لها الغلبة، من خلال إثارة الفتن والقلاقل فى بعض الدول، أو مد المعارضة بالسلاح، وتدعيمها من أجل القفز على السلطة لتصبح دول منطقة الخليج العربي، وبعض الدول الإقليمية تحت النفوذ الإيراني. وقد اتضح ذلك في تعاملها مع الأزمات فى العراق، وسوريا، واليمن، ومن خلال تحالفها أيضا مع دولة قطر التي تسعى هي الأخرى إلى شق الصف العربي بتعليمات إيرانية .
 
إن أهداف الدول الساعية لحماية مصالحها القومية تتحدد من خلال سياستها الخارجية، وتتأثر بالبيئة العالمية التي تتحرك فيها. فالسياسة الخارجية الإيرانية تُصاغ ـ بالضرورة ـ فى إطار الوحدة الدولية، وترمى إلى تحقيق أهدافها إزاء وحدات خارجية. ففي عصر التقدم التكنولوجي في وسائل الاتصال، لم تعد النظم والجماعات قادرة على الانحسار داخل بوتقة خاصة، أو الانغلاق على الذات.
 
فالنظام السياسى المتشكل، إثر الثورة الإيرانية عام 1979، كثورة أيديولوجية دينية إسلامية، أحدث تغييرات سياسية كبرى فى النظام الإيراني. أما اليوم، فقد حدثت تغييرات هيكلية فى الظروف التاريخية، والبنية الجيواستراتيجية التي كانت تعمل من خلالها إيران سابقا، ووجدت نفسها في بيئة مغايرة تماماً. فقد اختلفت البيئة العالمية فى سبعينيات القرن الماضى عنها فى القرن الحادى والعشرين، بما تتيحه من فرص وخيارات أمام إيران، بدأت تتضح معالمها منذ تسعينيات القرن الماضي.
 
أسهمت الحرب الأمريكية في المنطقة  فى تعزيز مكانة إيران كدولة إقليمية ذات نفوذ قوي، ووفّرت واشنطن لها فرصة مناسبة للحصول على مكانة إقليمية ودولية. فبعد الإطاحة بنظامى (العراق وأفغانستان) اللذين كانا يشكلان تهديداً مباشراً لطهران، تمت مكافأة إيران بإطلاق يدها فى العراق ولبنان، وأصبح لها نفوذ فى مناطق أخرى مهمة، مثل غزة، وآسيا الوسطي، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية. فقد استغلت إيران انهيار النظام العراقي، وانشغال أمريكا في حربها فى العراق للتحول إلى القوة الإقليمية الأبرز، وإلى فاعل سياسى فى المنطقة لا يمكن تجاوزه .
 
ثم جاءت بعد ذلك الثورات العربية، التي شغلت العديد من الدول العربية بشئونها الداخلية. في ذلك الوقت، حاولت إيران فرض نفوذها، وسيطرتها على المنطقة ككل، وحاولت أن يكون لها الدور الأكبر، وأن تصبح القوة الفاعلة الوحيدة في المنطقة، التى تسعى إلى إعادة تشكيل الدول العربية الأخرى من أجل مصلحتها العليا وأهدافها الخاصة.
 
 
لقد فتحت البيئة الدولية والإقليمية فرصاً كبرى أمام إيران للتحرك باتجاه تطوير برنامجها النووي، وهو البرنامج الذى أكسب الطبقة الدينية القابضة على الحكم شرعية، ساعدتها على الاستمرار، وبسط سيطرتها على الداخل بالطريقة التى تنسجم وتتماشى مع تصوراتها، وتثبيت نظام الحكم ومبادئ الثورة. كما أن هذا التعنت الإيرانى أمام الأمريكان منحها شرعية إقليمية عند البعض، مما أكسبها سيطرة على بعض الدول، لتتماشى مع تصورات الجمهورية الإسلامية الإيرانية للمنطقة. 
 
 
وعموماً، فإن الحرب الأمريكية في العراق وأفغانستان، واستنزاف القدرات الأمريكية، وعدم قدرتها على ضرب أى بلد آخر، فضلا عن مناطق التوتر الأخري، والأزمة المالية العالمية، كل ذلك ترك فراغاً، وفتح فرصاً كبرى أمام حرية الحركة والفعل الإيرانيين، مما يجعلها طرفاً فى تشكيل سياسة المنطقة، وقوة على المستوى الإقليمي، ترمى إلى إحداث تغيرات جذرية تؤدى إلى إضعاف الدورين الخليجى والعربي.
 
إن سقوط النظامين العراقى والأفغاني جعل إيران أمام فرص متعددة، ولكنه فى الوقت نفسه فرض عليها تحديات، فقد أصبحت إيران أكثر من أى وقت مضى عرضة للضغوط الأمريكية، بمختلف الوسائل، لمنعها من البروز كقوة إقليمية، لأن واشنطن لن تسمح ببساطة ببروز قوة إقليمية معادية لها.
 كما جعلها فى موضع الخطر المباشر، خاصة أن واشنطن أصبحت على حدود إيران الشرقية فى أفغانستان، وشمالاً فى جوار بحر قزوين فى أكثر من دولة من دول الاتحاد السوفيتى السابق. كما أن جارتها باكستان دولة نووية، ولها علاقة جيدة مع واشنطن، وكذلك الأمر مع تركيا. أما فى جنوبها، وبفعل مصالح واشنطن الاستراتيجية فى الشرق الأوسط، وحماية إسرائيل، وتدفق النفط، فقد جعل كل ذلك  وجود واشنطن العسكرى أكبر وأضخم من أى منطقة أخري، فضلا عن العلاقات العربية ـ الإيرانية المتوترة أصلاً. ولعل أبرز ما يوضح القلق الإيرانى الوجود العسكري الأمريكى فى جواره.
 
لم تشكل الثورة الإيرانية عام 1979 أي خطر أيديولوجي على النظام الدولي آنذاك، ولم تكن بديلاً أيديولوجياً أمام الصراع الأيديولوجى بين الرأسمالية والاشتراكية. فقد رأت واشنطن أنه ربما تشكل الأيديولوجية الإسلامية الإيرانية، التى تتعارض مع الماركسية أو الاشتراكية، فرصة لتحسين العلاقات مع أمريكا، أو قد تندفع إيران إلى التحالف الغربى بسبب الخطر الشيوعى المتربص على حدودها الشمالية. وحتى عندما تأكدت واشنطن من خطأ هذه التصورات، لم تستطع فعل أى شيء ضد إيران لإعادتها إلى التحالف الغربي، والسبب فى ذلك أن النظام الدولى آنذاك جعل الخيارات أمام واشنطن محدودة أو معدومة، خاصة أن إيران تقبع جنوب الاتحاد السوفيتي.
 
كما أن أى إجراء أمريكى ضدها قد يدفعها إلى التحالف مع الاتحاد السوفيتي. أما الآن بعد أن أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم، فقد وصفت السياسة الأمريكية إيران بالدولة التى تساند الإرهاب، وتضعها ضمن دول محور الشر. فالأيديولوجية الإسلامية، التى لعبت دوراً فى الحفاظ على إيران الثورة، أصبحت الآن تشكّل أحد المخاطر على إيران، فى ظل الحرب على الإسلام والمسلمين. 
 
تتصور الولايات المتحدة الأمريكية أن امتلاك إيران للرادع النووى سوف يجعلها تشعر بأنها لم تعد معرّضة للخطر المباشر من أى انتقام عسكرى تقليدي، فهى تستطيع أن تعود إلى السياسات العدوانية، والسياسة الخارجية المقاومة للوضع الراهن التى اتبعتها إبان الثورة الإيرانية.
 
 
إن ما سبق هو توضيح لوضع إيران فى النظام الإقليمى، ومحاولاتها المستميتة للسيطرة على منطقة الخليج العربى، وفرض نفوذها، كما كانت تسعى من قبل فى إثارة الفتن والبلبلة فى بعض دول الخليج، مثل البحرين، والمملكة العربية السعودية، ومحاولات فرض النفوذ فى لبنان، من خلال حزب الله، ودعمها للحوثيين في اليمن بمدهم بالسلاح والعتاد.. كل ذلك فى الوقت الذى سمحت فيه الولايات المتحدة الأمريكية لإيران بفرض نفوذ قوى فى العراق، بعد عملية الاحتلال، وأخيرا بعد التسويات فى الملف النووي.

رابط دائم: