المساومة بالمساعدات ومحاولات "احتواء الدور" المصري
25-8-2017

مالك عوني
* مدير تحرير مجلة السياسة الدولية، كاتب وباحث مصري في العلاقات الدولية، مؤسسة الأهرام
 أثار قرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلغاء نحو 97.5 مليون دولار من إجمالي المساعدات الأمريكية المقدمة لمصر سنويا، وحجب 195 مليونا أخرى من الشق العسكري لتلك المساعدات إلى حين إنجاز القاهرة ما سمته واشنطن تقدما في ملف حقوق الإنسان، الكثير من الشكوك بشأن حقيقة التقارب الذي تصور أغلب المراقبين السياسيين إمكانية استعادته بين البلدين، مع بدء ولاية الرئيس الأمريكي الجمهوري دونالد ترامب في يناير الماضي. وتزيد تلك الشكوك مع حقيقة أن هذا المبلغ المحجوب يمثل الحد الأقصى (15% من إجمالي المساعدات البالغة تقريبا، نحو 1.5 مليار دولار) الذي يمكن للإدارة الأمريكية حجبه تحفظا على أوضاع حقوق الإنسان في مصر بحسب القانون الذي تم بموجبه في مايو الماضي.
 
انحدار السياسة الأمريكية نحو التخبط:
 
كان ترامب قد أعلى في خطابه السياسي، خلال حملته الانتخابية، وعقب توليه سدة الرئاسة، من أولوية الحرب على الإرهاب وتنظيماته على ما عداها من الأهداف التي تبنتها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، خلال ولايتيه، خاصة ما يتعلق منها بتمكين قوى الإسلام السياسي، وتعزيز الانقسام الطائفي. ووفق هذا الترتيب المعلن للأولويات، وفي إطار تأكيد ترامب التزامه بعدم إعادة تورط الولايات المتحدة عسكريا في الشرق الأوسط، ركزت التقديرات على مكونين أساسيين يرجح أن تتبناهما سياسة ترامب في الشرق الأوسط ، هما أولا: دعم الدول المنخرطة في مواجهة الإرهاب وحربه في الشرق الأوسط، وثانيهما: تعزيز هيكل الحدود الدولية القائم في المنطقة حاليا، وتجنب سياسات تفكيك الدول وإشاعة الفوضى داخلها، وما قد تنتجه من عواقب تأكد استحالة تقديرها بشكل دقيق، فضلا عن ضبطها، والتحكم فيها.
 
إلا أنه منذ مجئ ترامب إلى السلطة، غلب التخبط على السلوك الأمريكي إقليميا بأكثر مما غلب عليه أي التزام فعلي على مستوى السياسات بمضامين خطاب ترامب. وإجمالا، فإن مشهد التخبط في السياسات التي تتبعها الولايات المتحدة إقليميا، منذ منتصف العقد السابق تقريبا، ينبع من المعضلة الحقيقية والجوهرية المرتبطة بإدارة استراتيجية خفض الانخراط الأمريكي في الشرق الأوسط، والتي تجد جذورها في ولاية جورج بوش الابن الثانية، وكرستها الإدارات اللاحقة بسياسات متباينة، ولكن بسمت متواصل من التخبط، يمزج في آن واحد بين ثلاثة حسابات، هي:
 
1- تراجع الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط على سلم أولويات المصالح الأمريكية العالمية بسبب السعي الأمريكي الحثيث والمنسق لتقليص اعتمادها على نفط المنطقة.
 
2- عدم القدرة وعدم الرغبة في مواصلة تحمل عبء إدارة وضبط المعادلة الأمنية في الشرق الأوسط بشكل كامل ومباشر من جهة.
 
3- السعي لإرساء معادلة أمنية ذات طابع تعددي لا تتيح إمكانية هيمنة أي طرف آخر، سواء أكان قوة إقليمية أم قوة دولية، على شئون المنطقة.
ويمكن تحديد عاملين أساسيين يحددان مشهد التخبط في اللحظة الراهنة من ولاية الرئيس دونالد ترامب، هما:
 
أولا: صعوبة إنجاز التحول من صيغة التفكيك، وخلق معازل طائفية ضعيفة التي تبنتها إدارة أوباما عبر المنطقة، إلى صيغة تعزيز الدولة الوطنية القائمة كمدخل لوأد قوى الإرهاب "المقدس". ومن شأن خيار تعزيز بنية الدولة، خاصة في بؤر الصراع الإقليمي الرئيسية حاليا في الشرق الأوسط، في كل من سوريا، والعراق، واليمن، دعم مكانة عدد من القوى الدولية والإقليمية المنافسة للولايات المتحدة، خاصة روسيا وإيران، التي استفادت، خلال السنوات ا
الست الماضية، من سياسة التفكيك الأمريكية لتوسيع نطاق تغلغلها، وزيادة مداه في شئون المنطقة، وتعزيز حضورها في بؤر الصراع الرئيسية تلك.
 
ثانيا: تعارض خيار تعزيز وضع الدولة الوطنية القائم، خاصة في كل من سوريا والعراق، مع مصالح بعض الحلفاء الأمريكيين الرئيسيين في المنطقة. ويأتي في مقدمة هؤلاء الحلفاء إسرائيل التي ترى أنه بقدر ما كانت سياسة تفكيك المنطقة، وحرقها طائفيا تخدم أمنها، وتعزز شرعية وجودها، فإن الارتداد عن هذا النهج، مع عدم احتواء نفوذ إيران الذي تنامى خلال السنوات القليلة الماضية، بل وتقليصه، إنما يرفع سقف التهديد الأمني إلى مستويات غير مسبوقة منذ ثمانينيات القرن العشرين. وكذلك لا يمكن لإدارة ترامب التغاضي عن مخاوف مملكة العربية السعودية التي دعمت كثيرا نهج أوباما، خاصة في سوريا، أملا في احتواء النفوذ الإيراني، وباتت تواجه اليوم معضلة فشل هذا النهج، وارتفاع حدة مخاطره من جهة، والتداعيات شديدة الخطورة للنكوص عنه دون احتواء ما أفرزه من تحديات ومخاطر من جهة أخرى.
 
العلاقة الإشكالية والشراكة المستحيلة:
مثلت مصر تاريخيا عنصرا إشكاليا بالنسبة للسياسة الأمريكية في المنطقة. ويمكن فهم أحد جانبي تلك الإشكالية في ضوء ما تمتلكه الدولة المصرية من مقومات قوة متفردة في محيطها الإقليمي، من حيث الهوية القومية المتمايزة، والقائمة على نموذج تاريخي فريد لصهر التنوع، والميراث الثقافي شديد الثراء، ومتعدد المقومات، المستند إلى نموذج الصهر الاجتماعي المتفرد، والقوة البشرية الضخمة، والموقع الجغرافي المتوسط الذي تتقاطع عنده بالضرورة كل معادلات بناء القوة، وبسط الهيمنة والنفوذ. وبغض النظر عما قد يعتري تلك المقومات من لحظات ضعف أو هشاشة، وبغض النظر كذلك عن كفاءة توظيفها أو استغلالها لتصبح معاملات قدرة فعلية وواقعية، فإن تلك المقومات من الدولة المصرية ركن أساسي لا يمكن الاستغناء عنه لحفظ الاستقرار الإقليمي، ولضمان التوازن الحرج بين مختلف القوى الفاعلة في المنطقة، سواء أكانت قوى إقليمية أم دولية، ركن لا يمكن بأي حال المخاطرة بالسماح بانهياره، بغض النظر عن إمكانية حدوث هذا الانهيار واقعيا من عدمه.  أما الجانب الآخر لتلك الإشكالية، فيتمثل فى طبيعة الدولة القائد التي تحوزها مصر تقليديا، حال تفعيل مقومات القوة هذه، وهو ما يمثل تحديا لأي سعي من قبل الولايات المتحدة لفرض هينتها على المنطقة، أو كذلك لأي مسعى من قبل الولايات المتحدة، مثلما هو الحال في اللحظة الراهنة لضمان عدم هيمنة أي قوة أخرى على المنطقة.
 
في ضوء هذا الإدراك لإشكالية دور الدولة المصرية إقليميا، تراوحت الاستراتيجية الأمريكية تجاهها، منذ مطلع خمسينيات القرن العشرين، بين إحدى سياستين، إما "احتواء الدور"، أو "تقليص الدور واستنزافه"، حال العجز عن احتوائه. وبرزت سياسة "تقليص الدور واستنزافه" بشكل جلي إبان حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بعد الفشل، فيما تجلت سياسة "احتواء الدور" في عهد خلفيْه أنور السادات وحسني مبارك.
 
ومع تكرس سياسة خفض الانخراط الأمريكية، منذ ولاية جورج بوش الابن الثانية، تراجعت أهمية الدور المصري على سلم المصالح الأمريكية في المنطقة، وتراجعت أهمية سياسة "احتواء الدور"، وبرز بدلا منها ما يمكن وصفه بسياسة "الحفاظ على الدولة المصرية طافية"، أي استنزاف الدولة المصرية، مع عدم السماح بانهيارها، وبما لا يتيح لها إعادة تعريف دورها إقليميا، سواء بشكل منفرد، أو من خلال تعزيز علاقاتها مع قوى دولية أخرى،
في ظل فك علاقة الارتباط الاستراتيجي مع الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
 
في هذا السياق، وتحديدا بعد إتمام الانسحاب الأمريكي من العراق في عام 2010، انتهجت إدارة أوباما تجاه مصر سياسة ذات شقين، أولهما: التخلي عن الرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي كثيرا ما تم تصويره بعدّه أحد حلفاء واشنطن الأساسيين في المنطقة، وثانيهما: تحفيز تفجر اضطراب اجتماعي واسع النطاق، توافرت دوافعه، ودعم حراك جماهيري حاشد في إطاره، في إطار ما عرف إعلاميا بـ "ثورات الربيع العربي. اندرجت تلك السياسة بشكل مثالي ضمن استراتيجية "الفوضى الخلاقة" التي استهدفت من جهة تخفف الولايات المتحدة من أعباء دعم عدد من حلفائها الإقليميين الذين اتسم حكمهم بطابع استبدادي، ومن جهة أخرى تمكين تيار الإسلام السني في عدد من البدان العربية، توطئة لإرساء هندسة إقليمية، قوامها فكرة معازل الضعف الطائفية، مثلما سبقت الإشارة.
 
إلا أن تلك السياسة اصطدمت بالحاجز الصلب لمقومات قوة الدولة المصرية السابق بيانها، وفشلت في بلوغ أهدافها مصريا على الأقل مع تفجر ثورة 30 يونيو 2013، وما تلاها من إطاحة حكم جماعة الإخوان المسلمين، إحدى أهم أذرع مشروع الفوضى والتفكيك الطائفي عبر الإقليم. منذ ذلك الحين، علت بشكل شديد الجلاء، وطوال السنوات الثلاث ونيف التي كانت لا تزال متبقية من الولاية الثانية للرئيس الأمريكي السابق أوباما، سياسة "تقليص الدور واستنزافه" في السلوك الأمريكي إزاء الدولة المصرية.
 
واحتلت المساعدات العسكرية موقعا بارزا ضمن أدوات الضغط الأمريكي على النظام الجديد الذي تأسس في مصر منذ 3 يوليو 2013، خاصة مع تبنيه بشكل صريح سياسة إقليمية معارضة، بل ومتصدية لمشروع التفكيك الإقليمي، وإن كانت محدودة بحدود القدرة المصرية، ومدى التقدم في بنائها وتطويرها، وسياسة خارجية أكثر استقلالية وتنوعا وتوازنا في التعاطي مع مختلف القوى والتكتلات الإقليمية والدولية. وقامت إدارة أوباما بالفعل، ورغم ادعائها محاربة الإرهاب في الشرق الأوسط، بتجميد برنامج المساعدات العسكرية إلى مصر، منذ أغسطس 2013، رغم أنه كان جزءا رئيسيا من ترتيبات حفظ الاستقرار الإقليمي عقب معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية. ولم تستأنف تلك المساعدات إلا بعدما تبين لإدارة أوباما استحالة إعادة عقارب الساعة في مصر إلى الوراء، أو فرض جماعة الإخوان المسلمين مرة أخرى في المشهد السياسي فيها، ولكن الأهم مع قدرة النظام المصري على تجاوز حجب تلك المساعدات، وانفتاحه تسليحيا على أطراف دولية عدة، ليس أقلها روسيا، وكذلك تزايد الاحتياج الأمريكي لاستعادة جزء من الدور المصري إقليميا لموازنة تمدد النفوذ الإيراني في سوريا والعراق خاصة.
 
ترامب المحاصر وتكريس نمط "فقدان الثقة":
يبقى السؤال المحوري في اللحظة الراهنة حول دوافع إعادة إدارة الرئيس دونالد ترامب للمساومة بورقة المساعدات العسكرية، رغم تبني ترامب شخصيا خطابا مراجعا لمجمل سياسة أوباما التفكيكية في الشرق الأوسط، وبالمثل تبنيه خطابا داعما لتعزيز التقارب مع الدولة المصرية، ونظام حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي تحديدا فيما يتعلق بملف مكافحة الإرهاب. إلا أنه قبل محاولة الإجابة عن هذا التساؤل، ينبغي الالتفات إلى عنصرين مهمين في مشهد إعادة المساومة بالمساعدات العسكرية تحديدا، وهما:
 
أولا: التناقض البادي في سلوك الإدارة الأمريكية الحالية، والذي لا يقتصر على المستوى الخطاب السياسي، ولكن أيضا مع سياسات أمنية اتخذتها بالفعل تلك الإدارة، مثل قرار استئناف مناورات النجم الساطع، والمقرر إجراؤها في شهر سبتمبر المقبل، بعد توقفها منذ عام 2011 بسبب طلب مصري آنذاك، إثر الاضطرابات السياسية والأمنية التي عانتها البلاد، عقب أحداث 25 يناير 2011، ثم بسبب قرار أمريكي بتعليقها عقب الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في عام 2013. وبقدر ما يعكس استئناف تلك المناورات حرصا أمريكيا على تعزيز التعاون الأمني مع مصر، فإن قرار تعليق 195 مليون دولار من المساعدات العسكرية التي أقر الكزنجرس منحها إلى مصر في مايو الماضي بقيمة إجمالية 1.3 مليار دولار، والإلغاء التام لنحو 67 مليون دولار أخرى، إنما يصب في اتجاه معاكس تماما.
 
من شأن هذا التعارض تعزيز نمط "فقدان الثقة" الذي تكرس داخل العقل المؤسسي المصري تجاه إمكانية استعادة علاقة اعتماد متبادل مستقرة مع الولايات المتحدة، خاصة عقب المواقف الأمريكية من مصر منذ يونيو 2013. ويتزايد أثر "فقدان الثقة" مع حقيقة كون القضية التي برر بها صانعو القرار الأمريكيون هذا القرار- ألا وهي تحديدا ملف حقوق الإنسان، خاصة قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية الذي أقره البرلمان المصري في نوفمبر 2016، وصدق عليه الرئيس المصري في مايو 2017-هي قضية سياسية داخلية بالأساس، تخص المؤسسة التشريعية المنتخبة ديمقراطيا في مصر، مما يعني أن أي تطور داخلي في مصر لا ترضى عنه مؤسسات صنع القرار الأمريكية، أو بعض أجنحتها، وليس حتى مجرد خلاف في شأن قضية دولية ما، قد يترتب عليه تنصل الولايات المتحدة من التزاماتها في إطار أي علاقة اعتماد متبادل بين الطرفين.
 
ثانيا: عدم اكتراث الولايات المتحدة بالبنية المؤسسية للدولة المصرية، وتوازن السلطات فيها وفقا لأي منظور ديمقراطي. إذ تنقل صحيفة واشنطن بوست في تقرير أعدته مراسلتها للشئون الدبلوماسية كارول موريلو Carol Morello، بتاريخ 23 أغسطس 2017، عن مسئول في وزارة الخارجية الأمريكية قوله، في صدد التعليق على دوافع قرار حجب المساعدات الأمريكية إلى مصر "إن الولايات المتحدة تصورت أن مصر قطعت في الواقع وعدا هذا العام بأن القانون (قانون تنظيم عمل الجمعيات الأهلية) لن يدخل حيز التنفيذ مطلقا. إلا أنه عندما وقع السيسي القانون، اعتقد الدبلوماسيون (الأمريكيون) أنه قد تم تضليلهم".
 
يكشف هذا التصريح من قبل أحد مسئولي وزارة الخارجية الأمريكية، وبغض النظر عن حقيقة ما تم من اتصالات بين الدبلوماسيين الأمريكيين والمسئولين المصريين في شأن هذا القانون، عن أن الولايات المتحدة، وهي تدعي أن قرار حجب المساعدات الأخير هذا إنما يستهدف الدفاع عن الديمقراطية في مصر، من خلال منع إخضاع منظمات المجتمعات الأهلي لمقررات هذا القانون، لا تقيم أي وزن لاحترام المؤسسة التشريعية المنتخبة ديمقراطيا في مصر، وللقوانين التي تصدرها، بل ويعمل الدبلوماسيون الأمريكيون من خلف ستار لإعاقة عمل المؤسسات المنتخبة ديمقراطيا، مما يضع علامات استفهام كبيرة حول حقيقة التزام الولايات المتحدة ودبلوماسيتها بهدف الدفاع عن الديمقراطية وحمايتها.
 
في ضوء هاتين الملاحظتين، يمكن إجمال العوامل التي يمكنها تفسير القرار الأمريكي الأخير فيما يأتي:
 
1- في ظل عدم الاكتراث الحقيقي من قبل المسئولين الأمريكيون بالدفاع عن الديمقراطية بشكل حقيقي، مثلما سبق بيانه، يبدو أن الهدف الفعلي لقطاعات مهمة ومؤثرة في مؤسسات صنع القرار الأمريكية، سواء داخل الإدارة الأمريكية أو الكونجرس، دفعا لاتخاذ هذا القرار، إنما يتمثل في الإبقاء على قنوات التأثير والنفوذ الأمريكية في الشأن المصري، والتي كان تمويل عدد من الجمعيات الأهلية في مقدمتها، بعيدة عن أي إجراءات منظمة أو مقيدة من قبل الدولة المصرية. ومن هنا، يمكن فهم تركيز الانتقادات الأمريكية على تنظيم تمويل تلك الجمعيات، ومراقبة هذا التمويل، خاصة اشتراط أن يتم أي تمويل يتجاوز العشرة آلاف دولار عبر الجهاز المصرفي.
 
وفي الواقع، فإن منظمات المجتمع الأهلي المصري تمثل حاجة أساسية للمجتمع والدولة في مصر بأكثر مما تمثل همّا للمسئولين الأمريكيين. وفي ظل الأدوار المهمة التي تقوم بها تلك المنظمات على الأصعدة التنموية والإغاثية، والتمكين الاقتصادي والاجتماعي للكثير من الفئات المهمشة، والتي لا يمكن للدولة المصرية أن تنهض بها جميعها، خاصة في ظل ما تعانيه من أزمة اقتصادية، وما تتبناه من نهج تقشفي، لا يمكن تصور أن تستهدف الدولة المصرية وأد وجود هذه الجمعيات، مثلما تروج الكثير من الدعاية في شأن القانون المعني، والتي يتم نشرها بخاصة في الصحافة الأجنبية. وبالتالي، سيكون هناك من المحتم مراجعات، يرى كاتب هذه السطور أنها ضرورية بالفعل، ستجري في شأن قانون تنظيم عمل تلك الجمعيات، حين يكشف تطبيقه عن قيود قد تعيق تلك الأدوار التي تحتاج إليها الدولة والمجتمع في مصر على السواء.
 
2- يوضح تباين نهج حجب المساعدات العسكرية، خاصة مع تأكيد الرئيس ترامب، مرارا وتكرارا، أهمية التعاون الأمني مع مصر، أن القرار الأخير يعكس إما ضعف تأثير الرئيس الأمريكي في بعض ملفات السياسة الخارجية، مقابل الضغوط ومحاولات التأثير الأخرى، خاصة من قبل الكونجرس، مثلما حدث إبان إقرار الكونجرس عقوبات بحق روسيا، وإما أن إدارة ترامب تتخذ بعض القرارات في مجال السياسة الخارجية لإرضاء بعض الأجنحة داخل الكونجرس الأمريكي. وأقر الكونجرس، في 4 مايو 2017، تخصيص 1.3 مليار دولار مساعدات عسكرية إلى مصر تحت بند الحرب العالمية على الإرهاب، وتخصص بشكل أساسي لتأمين الحدود، أي ليس لها علاقة بالأمن الداخلي في مصر بأي حال. ورغم ذلك، لم تنقطع الحملات داخل الكونجرس لمحاولة تقييد هذه المساعدات العسكرية، سواء قبل إقرار هذا التخصيص، أو بعده.
 
ومن أبرز المشاهد، التي جرت في إطار هذه الحملات، مطالبة لجنة فرعية داخل مجلس الشيوخ الأمريكي، في 25 أبريل 2017، بإعادة النظر في المساعدات المالية المقدمة سنويا إلى مصر، والتي تقدر إجمالا بنحو 1.5 مليار دولار، وجعلها أكثر مشروطية، وذلك إثر توصيات من ثلاثة خبراء، هم ميشيل دون Michelle Dunne، مدير برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيجي، وتوم مالينويسكي Tom Malinowski مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون حقوق الإنسان في إدارة أوباما السابقة، وإليوت إبرامز Elliot Abrams المشارك في برنامج دراسات الشرق الأوسط في مجلس الشئون الخارجية الأمريكي.
 
وفي ظل الضغوط المتزايدة لطرح مسألة الرئيس ترامب بشأن علاقة عدد من مساعديه مع روسيا، إبان الحملة الانتخابية للانتخابات الرئاسية الأخيرة، أو بسبب الاتهامات الموجهة له بتعزيز ثقافة الكراهية والتعصب العنصري الآخذة في التصاعد في الداخل الأمريكي، وكذلك في ظل تقديمه وعدا للكونجرس بخفض الحجم الإجمالي للمساعدات الأمريكية في الخارج، لا يمكن استبعاد أن تكون الإدارة الأمريكية تحاول استرضاء بعض أعضاء الكونجرس لتخفيف الضغوط المطالبة بعزله بين أعضاء الكونجرس.
 
3- عدم رضاء بعض أجنحة الإدارة الأمريكية عن نزوع السياسة الخارجية المصرية نحو مزيد من الاستقلالية، واكتساب مزيد من القدرة على حماية المصالح الإقليمية المصرية. وقد تجلى هذا البعد أخيرا إبان زيارة الجنرال أنتوني زيني لمحاولة حلحلة الأزمة بين كل من مصر، والمملكة العربية السعودية، والإمارات، والبحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى، حيث رفض وزير الخارجية المصري إبداء أي تساهل مع الشروط الثلاثة عشر التي قدمتها الدول الأربع لقطر، مكررا اتهام قطر بدعم الإرهاب وتمويله، في موقف يتعارض مع الموقف الذي تتبناه وزارتا الخارجية والدفاع الأمريكيتان اللتان توفران غطاء حماية قويا للنظام القطري في ظل الأزمة الحالية. ولا يمكن كذلك إغفال الجهود المشتركة التي تقوم بها مصر مع كل من المملكة العربية السعودية وروسيا لتوحيد أجنحة المعارضة الروسية في مفاوضات جنيف المقبلة، وما قد يعنيه ذلك من تقليص النفوذ الأمريكي في تلك المفاوضات، وفي مشهد التسوية النهائي في سوريا.
 
الخلاصة:
إجمالا، يمكن القول: إن قرار حجب جزء ليس بالقليل من المساعدات الأمريكية السنوية إلى مصر، خاصة العسكرية منها، يكشف عن أن جزءا مؤثرا في أبنية صنع القرار الأمريكية لا يزال يحرص على إبقاء العلاقة بين الولايات المتحدة ومصر دون مستوى الشراكة الفعلية التي تفترض الندية والتوافق، بدلا من منطق التبعية وسياسة الإملاء. وبالتالي، يتوقع أن تكون هناك مراجعات جوهرية من قبل الدولة المصرية لحدود تقاربها الممكن مع السياسة الأمريكية في المنطقة، خاصة مع ازدياد درجة "فقدان الثقة" لدى صانع القرار المصري، وضعف إمكانية الرهان على قدرة الرئيس ترامب على فرض رؤيته في ميدان السياسة الخارجية داخل أبنية صنع القرار الأمريكي.
 
وفي هذا الصدد، يتوقع أن تزداد هشاشة محاولات الولايات المتحدة احتواء النفوذين الروسي والإيراني، حال صعدت الإدارة الأمريكية ضغوطها على مصر، أو اتسعت شقة التباعد بين الطرفين. إلا أن تقدير كاتب هذه السطور يرجح ألا تتصاعد الأزمة الحالية في ظل توافق مصالح الطرفين على احتواء النفوذ الإيراني في منطقة العراق وبلاد الشام، وحاجة الولايات المتحدة لموقف مصري موازن في إطار جهود التسوية في سوريا، وموقف آخر داعم في أي مواجهة واسعة ومرجحة مع التنظيمات الإرهابية في ليبيا ومنطقة الساحل والصحراء إجمالا.
إلا أن هذا التوافق المؤقت والتكتيكي لا يمكن أن يؤسس لعلاقة شراكة ممتدة أو حتى مستقرة. لذا، تبرز أهمية سعي مصر بشكل حثيث لبناء محاور إقليمية أكثر رسوخا واستقرارا بما يتوافق مع المصالح الإقليمية المصرية، وتعزيز الحضور الدولي المتعدد والمتوازن في أزمات المنطقة، بما يحدّ قدر الإمكان من أي تأثير سلبي قد ينتج عن سياسات أمريكية معادية لمصر أو عقابية بحقها.
 
ويبقى، أخيرا، ضرورة انتباه صانع القرار المصري إلى وجود قصور حقيقي في جهود إصلاح الصور الذهنية المعادية التي يتم ترويجها بشأن التطورات السياسية في مصر داخل أروقة السياسة الأمريكية المختلفة. ويبدو أن الأمر يحتاج بشكل عاجل إلى مزيد من العمل على مستوى مراكز التفكير الرئيسية في الولايات المتحدة، وداخل أروقة الكونجرس بدرجة لا تقل عن العمل عبر قنوات الاتصال مع الإدارة الأمريكية، إن لم تفقها في بعض القضايا.
 

رابط دائم: